
التقارب الجزائري الإيطالي… سياق متأزم وأهداف متباينة
مثٌلت زيارة رئيس وزراء إيطاليا –المستقيل- “ماريو دراجي” إلى الجزائر في الثامن عشر من يوليو 2022 ومن قبلها زيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى إيطاليا في الخامس والعشرين من مايو 2022 نهجًا جديدًا نحو سياسة تشكيل المحاور الجديدة التي برزت مؤخرًا في ضوء الأزمة الروسية الأوكرانية وما نتج عنها من تأزم ملف الطاقة عالميًا، الأمر الذي دفع إلى البحث عن شراكات متعددة وسياسة محاور بديلة لتلك التقليدية التي اعتادت عليها الجزائر خلال الفترة الماضية.
ولعل تلك الزيارات المتلاحقة وما تزامن معها من إجراءات لتحسين التفاعل المشترك كما هو الحال بالنسبة لإصدار قانون الاستثمار الجديد الجزائري في نهاية يونيو 2022 تبرهن على رغبة الجزائر في كسر دوائر الدبلوماسية التقليدية التي كانت متبعة سابقًا، إلى جانب ضمان تنمية إقليمية ودولية مستدامة ومتوازنة، وتعظيم الاستفادة مما تحظى به الجزائر من موارد طبيعية “الغاز+ النفط”؛ خاصة وأن تلك الزيارات تزايدت مع التصدعات المماثلة في العلاقات الجزائرية الإسبانية على وجه الخصوص على خلفية ملف الصحراء الغربية.
سياق ضاغط وضرورات المناورة
إن المتأمل لحالة التقارب الملحوظ بين الجزائر وإيطاليا يجد أنها تأتي في سياق مضطرب بين الجزائر والدائرة الأوروبية بصورة عامة وإسبانيا وفرنسا وألمانيا على وجه الخصوص، كالتالي:
- اضطرابات موسعة:
إن البحث عن البديل في إطار من سياسة المحاور التي بات العالم يشهدها بصورة عامة على إثر الأزمة الروسية الأوكرانية وتصدعات ملف الطاقة، وعلى المستوى الأوروبي وشمال إفريقيا على وجه الخصوص؛ دفع الجزائر إلى البحث عن شركاء كبديل استراتيجي لما تشهده العلاقات الجزائرية الإسبانية من حالة توتر غير مسبوقة على المستوي الدبلوماسي والسياسي وكذلك الاقتصادي؛ وذلك على خلفية قرار الرئيس الجزائري “عبد المجيد تبون” تعليق اتفاقية الصداقة والجوار الموقعة مع مدريد عام 2002، وكذلك إيقاف الاستيراد والتصدير من وإلى إسبانيا، وذلك في الثامن من يونيو 2022.
ويأتي هذا التوتر في ضوء إعلان رئيس الوزراء الإسباني “بيدرو سانشيز” دعم مبادرة الحكم الذاتي التي تتبناها المملكة المغربية حيال قضية الصحراء الغربية، في سابقة هي الأول من نوعها، بعدما كانت مدريد تؤيد القرارات الأممية الخاصة بذلك الملف والداعمة لحق تقرير المصير للشعب الصحراوي.
ذلك علاوة على التصدع في العلاقات الجزائرية الفرنسية والألمانية، ففي الأولى تأتي الذاكرة الاستعمارية الفرنسية كأحد ملفات التناقض والتضارب مع الجزائر، وفي الحالة الثانية فإن ألمانيا باتت تنتهج نهجًا انفتاحيًا حيال الطرح المغربي بشأن قضية الصحراء، مما أزم من وضعية العلاقات الجزائرية مع الثلاثي الأوروبي المهم (إسبانيا – ألمانيا – فرنسا).
- اختلال معادلة الطاقة وافتقاد للأسواق الأوروبية:
شهدت الجزائر مؤخرًا حالة من التراجع في تعاونها مع الجانب الأوروبي فيما يتعلق بملف الطاقة وعلى رأسها الغاز، في مقابل تنامي العلاقات بين الجزائر وإيطاليا التي ترغب في تأمين مصادر الطاقة، خصوصًا وأن المغرب زادت من وتيرة تفاعلاتها في ملف الطاقة مع الجانب الأوروبي، وهو أحد المتطلبات العاجلة والضرورية للمغرب العمل على تحقيق مكاسب على صعيدي الاقتصاد والطاقة من الدول ذات الأهمية الجيوسياسية.
وتأتي تلك الزيارة والتفاعل البنّاء بين الجزائر وإيطاليا على خلفية التقارب الإسباني المغربي، بعدما تم توقيع اتفاقية في الثالث من فبراير 2022 بين مدريد والرباط تستهدف ضخ الغاز المسال عبر الأنبوب المغاربي الأوروبي، ومن ثمّ سيكون بمقدور المغرب الحصول على الغاز الطبيعي المسال من الأسواق الدولية وإيصاله لمصنع لإعادة التحويل في شبه الجزيرة الإسبانية، واستخدام خط أنابيب الغاز المغاربي (جي إم إي) لنقله إلى الرباط، مما سيفقد الجزائر أحد أوراق الضغط على المغرب في إطار صراعهما طويل الأمد.
- تكثيف الضغط الغربي على الجزائر:
إن زيارة رئيس وزراء إيطاليا تتزامن مع جولة دبلوماسية دولية للجزائر كما هو الحال بالنسبة لزيارة وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” في مايو 2022، وسبقها زيارة مماثلة لوزير خارجية أمريكا “أنتوني بلينكن” في أبريل 2022، الأمر الذي يُفهم منه مساعي طرفي الصراع العالمي الراهن لاستقطاب الجزائر وتحقيق مكاسب استباقية على حساب الطرف الآخر.
وفي هذا الإطار فإن تطلعات إسبانيا وغيرها من الدول الأوروبية لتأمين مصادرها من الطاقة عبر البوابة المغربية للعمق الأفريقي يُمثل رقمًا صعبًا على الجزائر. ولعل في التوافق المغربي النيجيري على بناء خط غاز أنابيب نيجيريا المغرب والموقع في السادس من يونيو 2022 خير دليل على الالتفاف الأوروبي على الرباط للإطاحة بالجزائر فيما يتعلق بتأمين مصادرها من الطاقة. ولعل هذا الامر دفع الجزائر إلى مسارعة الوقت والانخراط المبكر مع نيجيريا والنيجر في توقيع مذكرة تفاهم من أجل تسريع مشروع إنشاء خط أنابيب غاز عابر للصحراء يصل إلى أوروبا، وقد تم التوصل لهذا الاتفاق في التاسع والعشرين من يوليو الجاري.
- تراجع ملف الصحراء الغربية:
فقد بات هذا الملف يشهد حالة من الفتور في المطالب الخاصة بالشعب الصحراوي، ومن ثم افتقاد الجزائر لحالة الزخم التي كانت تحظى بها جبهة البوليساريو في معادلة ملف الصحراء الغربية. وقد اتضحت معالم هذا التغيير في أعقاب إعلان أمريكا خلال ولاية الرئيس دونالد ترامب الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء وما تبعها من تزايد وتيرة الدعم الغربي للمبادرة المغربية لمعالجة ذلك الملف وعلى رأسها ألمانيا وإسبانيا، بما يؤدي إلى تقلص فرص الدعم الجزائري في ذلك الملف، وعدولًا عن القرارات الأممية السابق إصدارها في هذا الشأن، الأمر الذي يُضفى شرعية سياسية على قرارات الرباط.
أهداف متباينة
إن تكثيف الزيارات المتبادلة بين الجانبين الجزائري والإيطالي يعكس حجم الأهداف المزدوجة بين الجانبين، وتطلعات كل جانب لتحقيق مكاسب استراتيجية من الآخر؛ كالآتي:
- العمل على موازنة التغييرات الجيوستراتيجية في إقليم المغرب العربي وبدائل للتسليح:
أحد أهداف التقارب الجزائري الإيطالي -وبعيدًا عن معادلة الطاقة والاقتصاد- يتمثل في موازنة التسليح المغربي والتعاون العسكري الأخير بين الرباط وإسرائيل، لذا تسعى الجزائر -وفي ظل انكفاء روسيا المورد الأساسي للأسلحة للجزائر في الحرب مع أوكرانيا- إلى توسيع مصادر التسليح، وإيجاد منافذ جديدة للتسليح بما لا يفقد قضية الصحراء وجبهة البوليساريو زخم الحضور وديمومة الاستمرار، خاصة وأن هناك احتمالات لحرب استنزاف مفتوحة بين جبهة البوليساريو والقوات المغربية، مما يتطلب تعزيز مصادر الجبهة بالأسلحة الحديثة عبر الجزائر الداعم الرئيس لها.
ولعل التفاهمات العسكرية التي جرت بين البلدين في الثاني من مارس 2022 على هامش الدورة الــ12 للجنة المشتركة الجزائرية الإيطالية للتعاون في مجالات صناعة الدفاع، وترؤس الأمين العام لوزارة الدفاع الإيطالية المدير العام للأسلحة لهذا اللجنة؛ يبرهن على مساعي الجانبين لكسر حاجز التعاون التقليدي فيما يتعلق بالجانب السياسي والاقتصادي فقط، ليمتد إلى مجالات التقنية العسكرية والصناعات الدفاعية.
- الغاز الورقة الرابحة:
تتطلع الجزائر للحفاظ على موطئ قدم في معادلة الطاقة المغاربية والعالمية وعدم الإطاحة بها في هذا المعادلة الحيوية، لذا فهي ترغب في البحث عن بديل استراتيجي موثوق فيه لتحقيق تعاون مستمر في هذا المجال، ولعلها وجدت في إيطاليا بديلًا استراتيجيًا في المرحلة الراهنة، بما يحقق مكسبًا اقتصاديًا للجزائر.
ولعل مخرجات الزيارة التي أجراها “دراجي” إلى الجزائر، عبر توقيع اتفاقية بقيمة 4 مليارات دولار مع شركات أوكسيدونتال وإيني وتوتال لتزويد إيطاليا بالغاز الجزائري، خير دليل على المساعي الجزائرية لربط الغاز كورقة رابحة في تحقيق توازن في التفاعلات الدبلوماسية مع الجانب الأوروبي.
- تعدد الشركاء مع الحفاظ على توازن العلاقات مع الحليف الاستراتيجي: إن الجزائر تسعى إلى تعدد قاعدة شركائها عبر البحر المتوسط في ذات الوقت مع الالتزام “بالوثيقة الاستراتيجية” التي عبّر غير مرة عنها وزير خارجية روسيا، والتي تضمن مجالات متعددة وتعاون ممتد مع الجانب الروسي، خاصة وأن الجزائر تتطلع لتلبية الطلب الأوروبي من الطاقة عند مستوى معين، بما يحقق لها عوائد اقتصادية تواجه من خلالها الأزمة الاقتصادية الداخلية بالجزائر، دون أن تفتقد إلى وضعية التعاون والشراكة الاستراتيجية مع روسيا.
وفي التقدير؛ إن الجزائر تشهد حالة من الركود الدبلوماسي على المستوى الأوروبي لتبدلات المعطيات الإقليمية والعالمية، مما يدفع كافة الأطراف إلى التفاعل بصورة برجماتية. وانطلاقًا من مبدأ المصلحة الوطنية، فالجانب الأوروبي يبحث تأمين مصادر الطاقة لديه، خاصة في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية ورغبة الجانب الأوروبي لاستقطاب الجزائر، في حين أن الجزائر ترغب في تحقيق توازن في علاقاتها الاستراتيجية مع روسيا، وفي ذات الوقت ترغب في ضمان ثبات المواقف الأوروبية تجاه قضية الصحراء، وهو الأمر الذي تراجع بصورة كبيرة مؤخرًا، مما أدخل الجزائر وعددًا من الدول الأوروبية في تصادم دبلوماسي متزايد، مما يمكن من خلاله القول إن الجزائر ربما تشهد عزلة دبلوماسية نسبيًا في المستقبل المنظور مع الكتلة الأوروبية.
وبالنظر إلى الزيارات وحجم التعاون الجزائري الإيطالي فهو يأتي في ظل هذا السياق المعقد، ويكشف حجم التصدع الأوروبي البيني، ويبرهن على رغبة الجزائر في مواربة الباب في التفاعل مع الاتحاد الأوروبي. ولكن من زاوية أخرى فإن التفاعل الإيجابي بين الجزائر وإيطاليا فيما يتعلق بملف الغاز ربما يُسبب فتور العلاقات الجزائرية الروسية الشريك الاستراتيجي لها، خاصة في ضوء معادلة الحرب الروسية الأوكرانية ومساعي روسيا لتضييق الخناق على أوروبا عبر استخدام ورقة الغاز.