المدخلات السياسية الإسرائيلية الجديدة في العلاقات مع الأردن
تدخل العلاقات الأردنية الإسرائيلية مرحلة مهمة في تاريخها منذ توقيع اتفاق السلام (وادي عربة) في 1994 الذي ركز على عدة محاور في مقدمتها الأمن والاقتصاد. وصلت أحدث التطورات في مصادقة الأردن على مشروع إنشاء منطقة صناعية في الأردن بالتعاون مع إسرائيل. رغم انكشاف المشروع على أبعاد اقتصادية وتنموية مهمة للجانبين الإسرائيلي والأردني، ولكن في واقع الأمر لا يمكن استبعاد البعد السياسي في هذا التطور. يركز الموضوع على الدوافع والأهداف (ما يمكن تسميتها بالمدخلات السياسية) في عملية صناعة القرار الإسرائيلية بما يتعلق بالأردن.
أبعاد الصورة العامة
يُسمى مشروع إنشاء منطقة صناعية مشتركة (أردنية – إسرائيلية) بـ “بوابة الأردن”، تقع حدوده داخل الأراضي الأردنية حتى الحدود مع إسرائيل، على أن تكون إدارته في المجلس الإقليمي الإسرائيلي “عيمك هامعونيانوت” شمال حدود الضفة الغربية. وأكدت التصريحات الإسرائيلية الرسمية أنه خطوة محورية لتمكين اتفاق السلام مع الأردن من الناحية الاقتصادية.
شهد المشروع عثرات سياسية واقتصادية وأمنية من الجانبين الإسرائيلي والأردني، أبرز هذه العثرات: (1) ارتباط المزاج العام الأردني بالقضية الفلسطينية وتطوراتها السلبية من الجانب الإسرائيلي الذي دفع المملكة الأردنية إلى تأجيل المشروع. (2) توترات سياسية إبان ولاية نتنياهو بسبب الباقورة والغمر، وبسبب اقتحام المستوطنين للمقدسات الإسلامية في القدس. (3) غياب التمويل المقدر لبناء المشروع الطموح. (4) عدم التعجل الإسرائيلي في هذه المسألة؛ بغية إتمام دراسات ربط المشروع بخطط استراتيجية إسرائيلية على المستويين الداخلي والإقليمي، وإقامة البنية التحتية اللازمة. (5) حرص الأردن على دراسة بدائل أخرى مثل السوق السورية.
أعلنت الحكومة الأردنية عن طموحاتها بزيادة الصادرات والبحث عن أسواق جديدة لسد فجوات العجز في الميزان التجاري أثناء وبعد أزمة كورونا، كان من بين هذه الأسواق: سوق الضفة الغربية (الذي وجد ترحيبًا من الجانب الإسرائيلي؛ لربط الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الأردني)، والسوق السورية، حينها تكتمت إسرائيل على موقفها واتضح في مؤشرات أخرى وهي أن طالت الهجمات الإسرائيلية مواقع سورية من بنية تحتية مثل موانئ برية ومعابر حدودية مع لبنان والأردن والعراق. وجد الأردن بعض الصعوبة في اختراق السوق السورية بسبب هشاشة البنية الأمنية شمالي الأردن، وما كان من بديل موضوعي ومتاح غير السوق الفلسطينية أو السوق الإسرائيلية.
سارعت الحكومة الإسرائيلية الحالية برئاسة “يائير لابيد” (زعيم ثاني أكبر حزب في إسرائيل “هناك مستقبل”) إلى تعميق العلاقات مع الأردن، واصفة إياه (أي الأردن) بالشريك الإقليمي الاستراتيجي على كافة المستويات، اتضح في توسط الإمارات في توقيع اتفاقية المياه مقابل الطاقة الذي يمكَّن الأردن من تطوير صناعات الطاقة الشمسية وتوريد الناتج إلى إسرائيل مقابل حصوله على حصص مائية من إسرائيل.
المدخلات السياسية الجديدة
يدخل في هذا القرار عدة دوافع وأهداف من الجانبين الأردني والإسرائيلي، أما الجانب الإسرائيلي فيشمله مستويان من المدخلات: داخلي، واقليمي. يمكن توضيح هذه المستويات فيما يلي:
أولًا: الدوافع والأهداف الإسرائيلية على المستوى الداخلي:
1 – تعظيم فرص معسكر الوسط-اليسار في إسرائيل: لا يمكن عزل المشهد السياسي المعقد في إسرائيل عن كل تطور إقليمي أو دولي يرتبط بإسرائيل. لا يتزعم يائير لابيد (رئيس حكومة تسيير الاعمال الإسرائيلية حاليًا) حزب هناك مستقبل فحسب، بل يتزعم تيارًا أيديولوجيًا يحمل رواية إسرائيل ما بعد الصهيونية العلمانية الليبرالية وهو تيار الوسط-يسار، ويناهض تيار إسرائيل القومية اليهودية صاحبة الرواية المتطرفة.
يَعلَم لابيد أن خسارة تياره السياسي أمام عودة بنيامين نتنياهو المحتملة يعني نكسة الوسط-يسار لسنوات عديدة، وانتصار قوي لمعسكر نتنياهو؛ لذلك يسعى لابيد جاهدًا إلى تطوير سياسته الخارجية على المستويين الدولي (مثل زيارته إلى فرنسا) والإقليمي (زيارته إلى الأردن)؛ بهدف تعظيم فرص مكاسبه السياسية على مستوى الرأي العام الإسرائيلي والذي انعكس في زيادة نسبة فوزه المقاعد من 20 مقعدًا في أبريل 2022 إلى 23 مقعدا في يوليو 2022.
2 – زيادة الاستثمارات الأجنبية: تستهدف إسرائيل زيادة تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة لسد بعض الفجوات التمويلية المهمة في ميزانيتها خاصة في ميزانية الجيش وزيادة الرواتب والمعاشات. ويقع مشروع بوابة الأردن تحت مظلة استثمارية ضخمة من الإمارات، ويتكون المشروع من ثلاث مراحل رئيسة أولها فقط هو بناء الجسور والممرات البرية والمنطقة الصناعية.
3 – تمكين العمال العرب في إسرائيل: تواجه إسرائيل أزمة متفاقمة تتمثل في طرد العمال العرب من السوق الإسرائيلية بسبب زيادة تدفق العمال الأجانب التابعين للشركات الاستثمارية الكبرى مثل الصين. تسببت هذه الظاهرة في تزايد العنف المجتمعي بين اليهود وعرب الداخل. فيوفر مشروع بوابة الأردن فرصة معقولة (حتى ولو بنسب متواضعة) لإعادة دمج عمال عرب الداخل في المشاريع الاقتصادية الإسرائيلية، وبالتالي يوفر فرصة جيدة لتقليل ظاهرة العنف داخل المدن المشتركة بين اليهود والعرب.
3 – تمكين استراتيجي لميناء حيفا: حسب تصريحات وزير التعاون الإقليمي الإسرائيلي “عيساوي فريج”: تستهدف إسرائيل ربط المنطقة الصناعية المشتركة مع الأردن بميناء حيفا الذي خصخصته إسرائيل لشركة هندية مقربة من حكومة دلهي. وتطمح إسرائيل أن تصبح مركزًا إقليميًا مهمًا للتجارة، عن طريق ربط موانئها البحرية بمشاريع إقليمية مع دول المنطقة.
4 – تعزيز التنسيق السياسي والأمني مع الأردن: أصبحت المقدسات الإسلامية في القدس الشرقية التي تتبع إدارتها للمملكة الأردنية، ويحيط بعمّان قلق قديم بسبب تزايد نفوذ سياسي لدول إقليمية داخل القدس الشرقية. لذلك يرى الأردن ضرورة رفع مستوى التنسيقات السياسية مع إسرائيل.
وكذلك الأمر لدى الجانب الإسرائيلي، إذ يرتبط المزاج العام الأردني بتطورات القضية الفلسطينية، مما يدفع مؤسسة الملك الأردني لتجميد العلاقات مع إسرائيل. ومن المقدر أن تزيد التوترات الأيديولوجية داخل القدس الشرقية بسبب تزايد وتيرة اقتحام المستوطنين (الذي تزيد ديمغرافيتهم داخل الضفة) للمسجد الأقصى، وخروج القوميين المتطرفين في مناسبات قومية (مثل مسيرة الأعلام). يسهم تعميق العلاقات الاقتصادية بين إسرائيل والأردن في تعزيز التنسيق المتبادل في المواقف السياسية المختلفة. وينصرف ذات الأمر
ثانيًا: الدوافع والأهداف الإسرائيلية على المستوى الإقليمي:
1 – ربط الأردن بالاتفاق الإبراهيمي: أصبح الأردن همزة وصل مهمة في الشرق الأوسط (سحبت الولايات المتحدة أجزاءً كبيرة من وجودها العسكري في قطر إلى الأردن)، وترى إسرائيل فيه نقطة امتداد جيوسياسية بين إسرائيل ودول الخليج.
2 – خلق ممرات تجارية جديدة: أشارت تصريحات رسمية من مسؤولين إسرائيليين مثل رئيس ميناء حيفا إلى أن إسرائيل تستهدف ربط السوق الإسرائيلية بالأردنية عبر خطوط سكة حديد، ثم تستكمل السكة الحديد مسارها نحو الدول الخليجية انتهاءً بالإمارات. ويرتبط الأردن بمشروع الشام الجديد الذي يجمع دول مصر والأردن والعراق، وتطمح إسرائيل أن يكون الأردن همزة وصل بين إسرائيل والعراق مستقبلًا، أما مصر فتربطها بإسرائيل اتفاقية الكويز الاقتصادية.
3 – ترتيبات أمنية إقليمية: يعد الأردن شريكًا في التعامل مع المخاطر من الاتجاه السوري، بما في ذلك تلك المتعلقة بشكل مباشر أو غير مباشر بإيران. إلى جانب هذه الأدوار، يمكن للأردن أن يكون شريكًا أمنيًا لإسرائيل على الجانب الشرقي من الدولة الفلسطينية المستقبلية، وشريكًا لإسرائيل والدولة الفلسطينية المستقبلية في مساعدة الأمن الداخلي للدولة الفلسطينية.
ختامًا، يمكن القول إن قرار إنشاء منطقة صناعية مشتركة مع الأردن خطوة ضمن خطوات مستقبلية نحو تعميق الشراكة الاستراتيجية بين الطرفين. أما على المستوى الإقليمي فترى إسرائيل في الأردن رافعة استراتيجية حيوية على المستوى الجيوسياسي لتقريب إسرائيل من دول الخليج.