إيران

“التفاف موازٍ”.. كيف تسعى إيران إلى تحقيق أهدافها بعيدًا عن الاتفاق النووي؟

في الثالث من يناير لعام 2020، غرّد الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، على “تويتر”، قائلًا إن “إيران لم تنتصر أبدًا في أي حرب، ولكنها لم تخسر أبدًا أية مفاوضات”. وقد جاءت التغريدة عقب مقتل قائد “فيلق القدس” الإيراني السابق، قاسم سليماني، وبعد حوالي عام ونصف من إعلان ترامب الخروج من الاتفاق النووي مع طهران والذي كان يراه يصب في صالح إيران و”كارثي”. وقد تفسر التغريدة زاوية من رؤية الرئيس الأمريكي السابق لكيفية التعامل مع إيران.

لقد أثّر خروج واشنطن من الاتفاق النووي مع إيران في مايو 2018، من ناحية أخرى على الرؤية الإيرانية الشاملة حول أهمية الاتفاق النووي لديها، وما إذا كان سوف يعزز من مكاسبها على المدى المتوسط والبعيد أم لا. 

حيث بدا من طبيعة المسار الكلي الذي اتبعته إيران بعد انتهاء ولاية ترامب، والشروع في المفاوضات النووية من جديد مع مجيء إدارة الرئيس الحالي جو بايدن، أنها لم تعد تولي أهمية كبرى للتوصل إلى اتفاق نووي، وهو الأمر الذي عبّر عنه بشكل ضمني الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي في أولى تصريحاته بعد تنصيبه، والتي قال فيها إن بلاده لن تربط اقتصادها ومستقبلها بالاتفاق النووي. 

وقد أعاد “رئيسي” التأكيد مرة أخرى بشكل أكثر وضوحًا على هذه الرؤية الإيرانية عندما قال في فبراير 2022، إن إيران “لم تعقد أي آمال” على المحادثات النووية في النمسا الرامية إلى إحياء الاتفاق النووي لعام 2015.

بل إن الرئيس الإيراني ذهب إلى أبعد من ذلك، ووضع أطر التحركات الإيرانية المستقبلية الموازية للمحادثات النووية الرامية أيضًا إلى تحقيق الهدف نفسه الذي كانت إيران تهدف إليه من وراء الانخراط في عملية المفاوضات، وذلك عندما أضاف قائلًا “نعلّق آمالنا على شعبنا وبلادنا بشرقها وغربها وشمالها وجنوبها، ولم نعقد الآمال يومًا على فيينا أو نيويورك”. وبالفعل، تحركت إيران في هذا المسار، ليس منذ تصريحات إبراهيم رئيسي المذكورة، بل منذ مجيء حكومته في أغسطس 2021. 

وانطلاقًا من هنا، نتطرق فيما يلي إلى كيفية التفاف إيران الموازي على مسار المفاوضات النووية، لتحقيق أهدافها بعيدة المدى التي كانت تسعى إليها من خلال التوصل إلى اتفاق نووي في فيينا تجري محادثاته منذ أبريل الماضي.

ما أهداف إيران من وراء التوصل لاتفاق نووي؟

لا تُخفي إيران تلك الأهداف التي انخرطت من أجلها في المفاوضات النووية مع القوى الكبرى، سواء في 2015 أو منذ 2021 وحتى الآن. حيث لطالما أعلنت أن هدفها الرئيس من التوقيع على الاتفاق النووي يتمثل في مقاصد اقتصادية بشكل جوهري، يأتي على رأسها: 

  • رفع العقوبات المفروضة على قطاعات مختلفة ذات صلة أهمها الطاقة وما تشمله من نفط وغاز.
  • الرغبة في الإفراج عن أموالٍ إيرانية مجمدة في الخارج تقدر بمليارات الدولارات الأمريكية.  

وبعد ذلك، تأتي أهداف إيرانية أخرى من وراء المشاركة في الاتفاق النووي تتلخص في:

  • جلب استثمارات خارجية إلى السوق المحلي الإيراني، خاصة في القطاعات المشار إليها، إلى جانب قطاعات الآلات الثقيلة والسيارات. 
  • مساعٍ لتخفيف العزلة السياسية التي تقبع فيها إيران منذ سنواتٍ والتي تُعد ذات صلة بالعملية الاقتصادية من ناحية أخرى.

ويدفع إيران إلى سلك هذا المسارَ الوضعُ الاقتصادي المحلي المتدهور منذ سنوات طوال، علاوة على عدم تمكنها من استيراد بعض السلع الاستراتيجية المهمة للداخل في ظل سياستها الخارجية والعقوبات الجارية. 

لذا، قررت طهران الشروع في الانخراط بعملية سياسية دبلوماسية ترمي في النهاية إلى التوصل لاتفاق نووي مع القوى الكبرى، يتم بموجبه رفع العقوبات وبالتالي إحداث انفراجة اقتصادية في الداخل، مقابل أن تلتزم إيران بالحد من وفرض قيود على أنشطتها النووية يتأكد طبقًا لها المجتمع الدولي من عدم وجود احتمالات لتوصل إيران إلى سلاح نووي. 

كيف تحركت إيران لضمان تحقق أهدافها بعيدًا عن الاتفاق النووي؟

عند النظر إلى الأهداف الإيرانية المشار إليها التي ترغب طهران في تحقيقها عبر التوصل إلى اتفاق نووي، سنجد أن الحكومة الإيرانية الحالية قد سلكت، بالتزامن مع المفاوضات النووية التي جرت خلال الأشهر الماضية – ولا تزال- سواء في العاصمة النمساوية أو القطرية أو حتى غيرهما، طرقًا أخرى لتصبح هذه الأهداف أمرًا واقعًا من دون التوصل لاتفاق نووي بالأساس. وقد تم ذلك – ولا يزال يجري- على النحو التالي: 

أولًا: الجانب الاقتصادي: 

خططت إيران خلال العام الماضي، لإحداث انفراجة اقتصادية كبرى مع الدول الحليفة لها، أو الدول الأخرى الواقعة في محيطها الجغرافي، خاصة في منطقة آسيا الوسطى. 

فقد أبرمت طهران في مارس 2021، اتفاقًا استراتيجيًا طويل المدى مع الصين لمدة 25 عامًا، ينص على ضخ بكين استثمارات كبرى في الاقتصاد الإيراني بقيمة تصل إلى 400 مليار دولار خلال الفترة المحددة للاتفاق، وذلك مقابل امتيازات صينية في مجال النفط وغيره. وتوصلت إيران أيضًا إلى اتفاق لمدة 20 عامًا مع فنزويلا في شهر يونيو 2022، يتضمن تعاونًا في مجال الطاقة قد يضيفان إليه لاحقًا تعاونًا في مجال الدفاع، حسب تصريحات متزامنة للرئيس نيكولاس مادورو. وكذلك تخطط طهران للتوصل لاتفاق مماثل مع روسيا لمدة 20 أو 25 عامًا، يتوقع أن يكون لمدة 20 عامًا. وقد أعلن مسؤولون في موسكو وطهران عن عزمهما التوصل لذلك. 

وبالتوازي مع هذه الاتفاقات الشاملة المبرمة أو المنتظرة، يجب الأخذ في الحسبان التحركات الإيرانية “الاقتصادية” في منطقة آسيا الوسطى، والتي تعد بعض بلدانها ساحة جغرافية خلفية لروسيا التي يربطها تعاون استراتيجي مع إيران.

حيث أبرمت إيران اتفاقيات اقتصادية مع بعض دول آسيا الوسطى خلال الأشهر الماضية، مثل تركمانستان وقرغيزستان وغيرهما، تركز على تطوير التعاون في مجال الطاقة والتجارة بوجه عام. وتتميز هذه البلدان على وجه التحديد بميزات إضافية، فهي قريبة جغرافيًا لإيران وتملك أسواقًا محلية يمكنها أن تستوعب استثمارات خارجية جديدة في الوقت الحالي. لذا، فإن تطوير إيران للتعاون الاقتصادي معها قد يكون أكثر ربحًا لها من التعاون مع بعض الدول البعيدة جغرافيًا. 

ولم تستثنِ إيران أفغانستان من مسار تطوير التجارة الإقليمي. فعلى الرغم من أن أفغانستان تعاني من أوضاع أمنية مضطربة في الوقت الحالي، إلا أنها بحاجة في الوقت الحالي إلى استيراد الكثير من السلع الخارجية التي قد تجد إيران الفرصة سانحة لتقديمها، خاصة وأن التعاون بين تجار البلدين قديمٌ. 

وفي إطار محاولات إيران إبرام تعاون مع أسواق جديدة في منطقة آسيا الوسطى، أعلنت حركة “طالبان” في شهر يوليو 2022 عن توصلها لاتفاق مع طهران لشراء 350 ألف طن من النفط. ولم يشمل ذلك الاتفاق النفط فقط، بل ذكرت “طالبان” أنه نص على تشكيل لجنة مشتركة لوضع مقترحات بشأن تسهيل التبادل التجاري بين الجانبين، وإنشاء خط أنابيب غاز وبناء مصافي تكرير في أفغانستان.  

وفي ضوء مجمل هذه التحركات الاقتصادية، نستنتج أن إيران قد ركزت كثيرًا في صفقاتها الأخيرة على مجال الطاقة والنفط على وجه التحديد الذي يواجه الآن قيودًا خارجية بشأن تصديره كثيرًا ما عبّرت إيران عن طموحها لتخطيها. إذ إن إيجاد طهران طرقًا جديدة شبه مستدامة على الأقل على المدى المنظور لبيع النفط، للصين مثالًا، سوف يسلب الاتفاقَ النووي غرضًا أساسيًا وجوهريًا للغاية كان يشجع إيران على الانخراط في محادثات من أجل التوصل إليه. 

وليس النفط فقط، بل إن بنود الاتفاقيات الإيرانية المُشار إليها تتضمن تعاونًا في مجالات الغاز والبنى التحتية والإنشاءات وبعض المركبات مثل السيارات. حيث أعلنت إيران في شهر أبريل الماضي بدء مرحلة جديدة من التعاون مع روسيا في مجال إنتاج السيارات في إطار تعميق التعاون الاقتصادي على أصعدة عدة.  

وفي السياق ذاته، من المحتمل أن تمنح هذه الاتفاقيات إيران إمكانية الحصول على تدفقات مالية ليست قليلة يمكن أن تعوضها عما كانت تطمح إليه من وراء جلب استثمارات أجنبية بعد التوصل للاتفاق النووي، أو أن يتراجع تطلعها بالتالي حتى إلى الحصول على الأموال المجمدة لها في الخارج. وهذا كله بالإضافة إلى احتمالية أن تعمل هذه الاتفاقيات الاقتصادية مع مختلف الأطراف المذكورة، على تحقيق نمو اقتصادي محلي في إيران كانت أيضًا تحاول تحقيقه عبر الاتفاق النووي.

ثانيًا: الجانب السياسي العسكري 

إلى جانب الأهداف الاقتصادية التي تسعى إيران إلى تحقيقها عبر التحركات الاقتصادية الموضحة آنفًا، فإن المسار الذي تتبعه إيران من خلال تحقيق انفراجات اقتصادية مع عدد ليس ضئيل من الدول قد يقودها – نظريًا على الأقل- إلى كسب صداقات أو تطوير للعلاقات السياسية العسكرية مع بعض هذه الدول. 

فإذا كانت روسيا والصين وفنزويلًا حلفاء على هذا النحو لإيران، فإن الأخيرة يمكن أن تكتسب حلفاء جددًا – ولو بمستوى مختلف- مع الدول الأخرى التي تعقد معها اتفاقيات اقتصادية، خاصة وأن كثيرًا من هذه الدول صديقة لدول يربطها تعاون استراتيجي مع إيران.

وبالنظر إلى أن بعض تلك الدول أيضًا لا تربطها علاقات سياسية جيدة بالولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، مثل فنزويلا، يمكن القول إن مسار التحركات الاقتصادية الإيرانية على هذا النحو قد يمنحها بالتالي انفراجة على مستوى السياسة الخارجية. 

بل إن هذه الاتفاقيات الاقتصادية في مجملها يمكن أن تشكل “تكتلًا سياسيًا” واضحًا من روسيا والصين وإيران وبعض الدول الأخرى الواقعة في آسيا، وفنزويلا أيضًا، قد لا ينسجم مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية. هذا عند الأخذ في الحسبان أن التكتل الروسي الصيني الإيراني قائمٌ بالأساس، ولكن ما يمكن إضافته هو أن دولًا جديدة قد تنضم إلى هذا التكتل، علاوة على أن الأخير قد يتعمق وتتضح معالمه أكثر خلال الأيام المقبلة.  

كما أن إيران تسعى إلى تطوير أوجه هذا التعاون من خلال الانضمام إلى منظمات اقتصادية وسياسية دولية، مثل “منظمة شانغهاي للتعاون” التي انضمت إليها إيران في سبتمبر 2021. كما أنها تحاول الآن الانضمام إلى تكتل “بريكس-BRICS”.      

وعليه، فإن هذا المسار الموضح قد يضع إيران في إطار صداقات سياسية وعسكرية واسعة مع هذه الدول، على الرغم من أنه قد يضعها أمام تكتلات سياسية أخرى. وفي هذا السياق، لا يجب تجاهل حدثين مهمين، وهما افتتاح إيران مصنعًا لإنتاج الطائرات المسيّرة (الدرونز) في الدولة الواقعة بآسيا الوسطى طاجيكستان في شهر مايو الماضي، والإعلان في الشهر الجاري عن تخطيط طهران لتزويد موسكو بمئات الطائرات المسيّرة لاستخدامها في الحرب الروسية الأوكرانية. 

ولا تخرج الأنشطة النووية الإيرانية عن مفهوم المسار المعني، إذ إن طهران قد طوّرت أنشطتها النووية بالتزامن مع المفاوضات النووية. حيث تم الإعلان مرارًا عن قيامها بأنشطة نووية سرية بعضها عسكري بالتزامن مع تشغيل أو إنشاء مواقع نووية جديدة.

ختامًا، على الرغم من أن المسار والتحركات الإيرانية على النحو الموضح قد تحد من آثار العقوبات الخارجية في المستقبل، إلا أنها في الوقت نفسه قد تعزز من احتمالية تفاقم التهديد الإيراني أمام الخارج وخاصة عند الحديث عن طبيعة علاقاتها مع بعض الدول الغربية والشرق أوسطية.

حيث إن آلية العقوبات الخارجية كانت تساهم في ردع إيران عن القيام بالعديد من الاستفزازات الخارجية الإقليمية أو على المستوى الدولي، إلا أن عمل إيران على الحد من تأثير هذه الآلية سوف يضع الخيار العسكري في التعامل معها في مقدمة أولويات بعض الدول؛ نتيجة لاحتمالية تفاقم المواجهة والتهديد الذي تمثله إيران سواء لهم أو لمصالحهم. 

علي عاطف

باحث بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى