أفريقياروسيا

العلاقات الإثيوبية – الروسية: تحولات الميزان الاستراتيجي

بعد آخر زيارة له إلى إثيوبيا عام 2018، حلّ وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف ضيفًا على إثيوبيا الثلاثاء (26 يوليو 2022)، ضمن جولة أفريقية بدأها من مصر مرورًا بالكونغو وإثيوبيا على أن ينهيها في أوغندا. وتأتي هذه الزيارة ضمن سياقات أوسع؛ منها المحاولة الروسية لفكّ طوق العزلة الغربيّ عليها على وقع الحرب الروسية الأوكرانية، وكذلك الصعود الأفريقي على الساحة الدولية، فضلًا عن التحولات الطارئة على تحالفات إثيوبيا الخارجية.

ويشير جدول الأعمال إلى مناقشة الطرفين تاريخ العلاقات بينهما، وكذلك مراجعة وضع الاتفاقيات الثنائية بين البلدين بما فيها اتفاقيات “سفيرا” التي تمّ توقيعها عام 2018، وكذلك مستقبل التعاون والعلاقات بين البلدين في ضوء المستجدات على الساحة الدولية، وكذلك مستجدات الوضع في القرن الأفريقي ككل وفي الداخل الإثيوبي على وجه الخصوص.

وتأتي هذه الزيارة بعد آخر زيارة أجراها وزير الخارجية الإثيوبي ديميك ميكونين إلى روسيا العام الماضي؛ لبحث سبل العلاقات الثنائية بين البلدين؛ وسط الضغوط الغربية على إثيوبيا؛ بما فتح مجالات للتقارب الروسي الإثيوبي. وحسب وكالة الأنباء الإثيوبية، من المفترض أن تتم مراجعة الاتفاقيات ومسار العلاقات بين الجانبين.

تاريخ العلاقات الإثيوبية الروسية

تعود العلاقات بين البلدين إلى عام 1890، حيث أسهم كونهما إمبراطوريات تاريخية تتشكل من اتحاد لفيدراليات ناضلت عبر التاريخ إلى مزيد من التقارب بينهما تراوحت درجاته عبر التاريخ؛ فأسهم الدعم السوفيتي لنظام الدرج الإثيوبي في السبعينيات والثمانينيات إلى توثيق الروابط العسكرية على وجه التحديد بينهما.

وقد توثقت العلاقات بين إثيوبيا والاتحاد السوفيتي سابقًا، فخلال فترة الحرب الباردة، أسهم الدعم المقدم من الاتحاد السوفيتي وكوبا إلى إثيوبيا في مواجهة الصومال خلال حرب 1977-1978، في التقارب بينهما؛ إلا أن المحاولات الروسية لنشر الاشتراكية من خلال الدعم المقدم للدول الأفريقية في تلك الآونة لم يكن دعمًا متماسكًا؛ فأدى إلى توتر العلاقات بين جورباتشوف ومانجستو في الثمانينيات حتى انهيار العلاقات بين البلدين عام 1989.

ومع انهيار الاتحاد السوفيتي، غادرت موسكو المنطقة دون حليف موثوق فيه؛ حتى غادرت المنطقة وظلت لاعبًا هامشيًا فيها رغم استخدام السلاح الروسي في الحرب الإثيوبية الإريترية (1998- 2000)؛ حتى عادت إلى المشاركة من جديد في أعمال مواجهة القرصنة في البحر الأحمر 2008؛ وهي المشاركة التي لم تؤسس لاستدامة الوجود الروسي في المنطقة.

وظلت روسيا على مدار العقود الثلاثة الأخيرة تحاول الانخراط الانتهازي في المنطقة من خلال تأمين صفقات بيع السلاح، دون تأسيس لشراكة حقيقية؛ رغم المحاولات المتفرقة لتوطئة نفوذها على البحر الأحمر. ورغم صعود المكانة الأفريقية في السياسة الخارجية الروسية بعد التباعد الحادث على وقع تفكك الاتحاد السوفيتي، إلا أن مستويات التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري والتعاون الثقافي لا تزال محدودة بين الجانبين حتى وقتنا الراهن.

ولا يمكن الفصل بين الانخراط الروسي في المنطقة وبين سياستها الأوسع في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك سياسات التنافس الدولي على منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي. وربما إقامة قاعدة عسكرية على البحر الاحمر، لا تنفصل عن أهداف تكثيف انخراطها في المنطقة، فشهد موضوع إقامة قاعدة عسكرية روسية على البحر الأحمر حالة من الجدل وتعدد الخيارات الاستراتيجية على مدار الأعوام القليلة الماضية.

ويعد أمن البحر الأحمر الذي يمر من خلاله النفط عبر باب المندب أحد الأولويات الروسية التي تعد بجانب السعودية أحد منتجي النفط وضامني أسعاره عالميًا، ولعل هذا ما تؤكده المكالمة التي جرت بين الرئيس الروسي وولي عهد السعودية قبل زيارة الرئيس الأمريكي للشرق الأوسط وكذلك قبل جولة لافروف الأفريقية الذي اتضح البعد العربي فيها خلال مؤتمره الصحفي مع أمين عام جامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط.

عودة الانخراط الروسي أفريقيًا

لعلّ المتابع للتطورات التي طرأت على السياسات الإقليمية في منطقة القرن الأفريقي سيلحظ تحولات متسارعة في معادلة التوازن الاستراتيجي في المنطقة. ولعل الانخراط الروسي في منطقتي القرن الأفريقي وحوض النيل بات واضحًا للعيان، فيما كان انخراطها متزايدًا في أفريقيا جنوب الصحراء في أوقات سابقة.

وظلت علاقات روسيا محدودة مع محيط إثيوبيا بما في ذلك جيبوتي والصومال، فلم ترتق حدود التعاون العسكري معها إلى التزام حقيقي بمكافحة الإرهاب في المنطقة. وظلّ الأمر هكذا حتى انعقاد قمة سوتشي 2019، كأول قمة روسية – أفريقي، والتي كانت بمثابة بداية التحول في النظرة الروسية إلى مستوى تعاونها مع القارة.

على وقع هذه القمة، أعادت روسيا صياغة علاقتها بالمنطقة ككل؛ حيث تبادر الانتباه إلى عدم جدوى صفقات بيع السلاح في تأمين نفوذ استراتيجي روسي حقيقي في المنطقة. لهذا، بدأت روسيا في محاولة لعب أدوار أخرى تحتل من خلالها وجودًا استراتيجيًا في المنطقة.

وفيما يتعلق بإثيوبيا، فقد استطاعت على مدار العقود الثلاثة الماضية، الحفاظ على علاقات قوية بالأقطاب الدولية المختلفة بما في ذلك الصين وروسيا والولايات المتحدة. ورغم كون إثيوبيا دولة حبيسة لا تحظى بنفس القدر من الأهمية والموارد الجاذبة للاستثمارات الصينية على سبيل المثال، إلا أنها نجحت في استقطاب الجميع كدولة محورية في منطقة القرن الأفريقي، وشريك في مكافحة الإرهاب وإعادة صياغة قواعد اللعبة الاستراتيجية في المنطقة.

  • التعاون الدفاعي والعسكري

 تعد إثيوبيا المستورد الأول للسلاح الروسي في منطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، فبلغت وارداتها وفقًا لبعض التقديرات نحو “71 مليون دولار في عام 2019، أكثر من أي من نظيراتها في شرق أفريقيا، وتسعى إلى ترقية أنظمة الدفاع الجوي، مما يجعلها عميل الأسلحة الرئيس لروسيا في القرن الأفريقي”.

وأدى استخدام روسيا استراتيجية إعفاء الديون في قمة سوتشي إلى زيادة مبيعات الأسلحة إلى إثيوبيا؛ إذ قررت موسكو إلغاء 163.6 مليون دولار من الديون الإثيوبية، ما أدى إلى عقد اتفاق تعاون في مجال الدفاع. ويأتي ذلك في إطار إدراج أديس أبابا في تقرير مجلس الشؤون الدولية الروسي، مايو 2017، بوصفها أحد أهم خمس أسواق أسلحة أفريقية لروسيا.

وكذلك، عمقت روسيا تعاونها الدفاعي مع إثيوبيا، ففي إبريل 2018 وقعت روسيا وإثيوبيا اتفاقية للتعاون الدفاعي في مجالات حفظ السلام ومكافحة الإرهاب والتدريب على مكافحة القرصنة، إلا أن التطور في هذا المجال يتم ببطء شديد.

وكانت روسيا كذلك واحدة من الدول التي أعلنت عن نوايا للتعاون مع إثيوبيا في إعادة أسطولها البحريّ مرة أخرى، وكذلك الإعلان في يوليو 2021 عن تعزيز التعاون العسكري الإثيوبي الروسي في ختام الإجتماع الدوري المشترك الحادي عشر للتعاون التقني العسكري الروسي الإثيوبي.

ويعد البعد العسكري أحد عوامل إعادة انخراط روسيا في القارة. ورغم إعلانها إعلاء مبادئ تعزيز السلم والأمن الدوليين، إلا أن توظيفها للبعد الأمني يسهم في زعزعة الاستقرار وتأجيج مخاوف الولايات المتحدة من تقويض الحوكمة الاقتصادية ومبادئ القانون والحكم الرشيد في القارة.

  •  الجانب التجاري والاقتصادي 

استطاعت روسيا توظيف المخاوف الإثيوبية من فخ الديون وكذلك قيود المشروطية الغربية، عبر الترويح لمبادئ العلاقات المتكافئة التي يظفر فيها الجميع. وذلك بدافع من الانتباه الروسي لمحدودية حجم التبادل التجاري بينها وبين القارة؛ فعلى الرغم من ارتفاع حجم التجارة بين روسيا وأفريقيا بنسبة 17% خلال عام 2018، إلا أنه لا يزال عند حدود 20 مليار دولار.

وفيما يتعلق بحجم التجارة الإثيوبية الروسية، فخلال عام 2020، كان لروسيا صافي تجارة مع إثيوبيا، في مجموعة من المنتجات: (المعادن 17.4 مليون دولار)، (المنتجات النباتية 13.2 مليون دولار)، (الآلات 6.16 مليار دولار). وعلى الجانب الإثيوبي، حققت فائضًا مع روسيا في صادرات: (المنتجات النباتية 14.6 مليون دولار)، (المنسوجات 2.29 مليون دولار)، (المنتجات الحيوانية 65.2 ألف دولار).

  • البعد الإنساني والثقافي

يبرز الأمن الغذائي والمساعدات الإنسانية هنا كمجالات للحديث بين الطرفين، خاصة وأن المساعدات الإنسانية كانت موضوعًا رئيسًا في أزمة التيجراي الإثيوبية. حيث يعتمد الاقتصاد الإثيوبي على الزراعة بنسبة 40% من الناتج المحلي الإجمالي، وحوالي 75% من الأيدي العاملة، لكن حوالي 5% فقط من الأراضي الزراعية مروية. 

يتطلب هذا بدوره تعزيز القطاع الزراعي الذي لا تزال كمية البذور المحسنة والأسمدة والمبيدات فيه محدودة، لذا يظهر مجال للتعاون الزراعي بين روسيا التي تعد من أكبر الدول المصدرة للأسمدة الزراعية، بينما تسعى إثيوبيا للنهوض بقطاع الزراعة الموجه ناحية السوق.

وطرحت أزمات القرن الأفريقي البعد الغذائي كأحد مجالات التعاون؛ ليس فقط بسبب ما تسسبت فيه حرب أوكرانيا من عامل إضافي للأزمة، لكن سبقتها تلك العوامل التي ارتبطت بتداعيات جائحة كورونا، وما يسبقهما من أزمات مستوطنة في المنطقة من أزمات بيئية تنعكس على أمن الغذاء في الأخير، خاصة مع أزمات المناخ والفيضان والجفاف والتصحر والجراد الصحراوي وما يرتبط بهما من تهديد الأمن نظرًا للمواجهات بين الرعاه والمزارعين. 

فقفز أعداد الإثيوبيين الذين يحتاجون إلى مساعدات إنسانية في 2022 من 10 مليون إلى حوالي 15 مليون، ووفقَا لتقديرات الأمم المتحدة في يونيو الماضي؛ هناك حوالي 20 مليون شخص مهددون بالجوع في إثيوبيا بسبب الجفاف والصراع ووقف المساعدات الغذائية.

وبسبب الأزمات سالفة الذكر، وبسبب توقف بعض المساعدات الموجهة إليها؛ فقد طالبت إثيوبيا بمزيد من المساعدات لمواجهة فيروس كورونا، بعد تلك المساعدات التي تلقتها من الصين. لكن هذا لا ينكر حقيقة أن العلاقات الإثيوبية الروسية لا تتعدى التعاون في مجالات الدفاع وتطوير البنية التحتية ومع أرقام ضعيفة للتجارة، مقارنة بحجم التعاون الإثيوبي الأمريكي المرتبط بكافة المجالات. وكذلك عدم بذل روسيا الكثير في الأبعاد الإنسانية والثقافية على صعيد علاقتها الخارجية.

وعلى الجانب الثقافي، ينظر إلى الدين بوصفه أحد عوامل تطور بناء الدولة الإثيوبية، وكذلك أحد عوامل الالتقاء بين بطاركة البلدين؛ حيث تسود إثيوبيا بجانب إريتريا المسيحية الأرثوذكسية بخلاف بقية القرن الأفريقي حيث الكاثوليكية والبروتستانتية؛ ذلك في واقع تحظى فيه الكنيسة الأرثوذكسية بمكانة قوية داخل البلدين.

تحولات الميزان الاستراتيجي

ربما يعد تساؤل مثل هل بات بإمكان إثيوبيا الاتجاه شرقًأ؟، تساؤلًا معقولًا وغير معقول في آنٍ واحد. وتأتي معقوليته من التحولات الاستراتيجية التي طرأت على علاقة إثيوبيا بالغرب على وقع سياسات آبي أحمد الداخلية والخارجية، والتي بلغت أوجها في حرب التيجراي التي أثارت التوترات بين الرجل الحائز على جائزة نوبل للسلام والغرب. 

ويؤكد هذا المنحى الفرضيات القائلة إن علاقة الدول الأفريقية بما في إثيوبيا تقوى بكل من الصين وروسيا حال فترت العلاقة مع الغرب تحت وقع قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون؛ في الوقت الذي تركز فيه الصين على المبادرات التجارية والبنية التحتية، تركز روسيا على الطاقة والأمن. وربما هذا هو الواقع، الذي خلق بعض الفراغ الذي مكّن الصين ورسيا من محاولة ملئه مؤخرًا.

لهذا، اتجهت الصين وروسيا إلى تكثيف الانخراط في منطقة القرن الأفريقي مؤخرًا، ونشوء مبادرات للسلام بقيادة الصين؛ على وقع التوتر الذي خيّم على علاقة آبي أحمد بالولايات المتحدة؛ بدءًا من اتهامه للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالانحياز لدولتي المصب، على خلفية تدخل واشنطن لحلحلة مفاوضات السدّ المتعثرة، وصولًا إلى الاضطرابات التي سادت العلاقة على خلفية تورط نظام آبي أحمد في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.

فأضيف إلى جانب ملف سدّ النهضة، الأزمة الإنسانية في إقليم تيجراي التي أسهمت في توتر العلاقات الإثيوبية الأمريكية، فاتهمت الحكومة الإثيوبية الولايات المتحدة بانحيازها لحكومة غير شرعية في إشارة إلى حكومة إقليم التيجراي. واتخذت الإدارة الأمريكية جملة من القرارات الرامية إلى توقيع قدر من العقوبات على المتورطين في الصراع، بما في ذلك تعليق المزايا التجارية لإثيوبيا بدءًا من يناير 2022، هذا بجانب قيود التأشيرات التي فرضت على رجال في الجيش والحكومة الإثيوبية.

ورغم الانخراط المكثف للولايات المتحدة في أزمات المنطقة، سواء في السودان أو الصومال أو أزمة التيجراي، وصلت إلى تعيينها مبعوثًا أمريكيًا للقرن الأفريقي في إبريل 2021؛ إلا أنّ مساعيها في قيادة جهود إرساء الاستقرار لمّ تكلل بالنجاح، بل واجهت أدوار الولايات المتحدة إما انتقادًا من الدول الشريكة ذاتها، أو منافسة من الخصوم الاستراتيجيين؛ مع اتجاه الصين إلى تعيين مبعوثًا لها للقرن الأفريقي، وعقدها بمشاركة إثيوبيا مؤتمرًا للسلام في القرن الأفريقي.

وبجانب العقوبات التي طالت مسؤولين إثيوبيين، تم تعليق جانب من المساعدات الأمريكية لإثيوبيا، خاصة تلك المتعلقة بالمساعدات الاقتصادية والأمنية للحكومة؛ وربما ذلك يفتح الباب لشركاء آخرين لتعويض ما تخلفه الولايات المتحدة من فراغ. ولعل عدم امتناع المندوب الروسي عن إدانة أو الضغط على إثيوبيا خلال طرح أزمة مفاوضات سدّ النهضة على مجلس الأمن فضلًا عن أزمة إقليم التيجراي، وكذلك تغيب المندوب الإثيوبي عن التصويت لإدانة روسيا في حرب أوكرانيا؛ يشير إلى دلالات في ذلك الصدد.

ربما المستجدات الإقليمية والدولية تدفعنا إلى محاولة استنباط غير المعقول في الاتجاه الإثيوبي شرفًا أو على أقصى تقدير الاكتفاء باتجاها شرقًا، في عالم التعددية السياسية؛ لكن ما هو مقبول هو تعدد الخيارات الاستراتيجية أمام إثيوبيا وغيرها من الدول الأفريقية لموازنة مصالحها الاستراتيجية دون الوقوع في فخ القيود والشروط الغربية. لهذا، من المتوقع في الفترة المقبلة المزيد من التدافع على المنطقة بالغة الأهمية الاستراتيجية، حيث تنجح دول المنطقة في توظيف أهميتها الاستراتيجية لتنويع حلفائها الاستراتيجيين، دون الارتهان لحليف على حساب الآخر. 

شيماء البكش

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى