أفريقيا

دوافع ماكرون في أفريقيا: ضرورة ملحة واستراتيجية تقارب شاملة

أدى التراجع الفرنسي الغربي إلى فتح الباب أمام تزايد النفوذ الروسي في القارة الأفريقية، انعكس ذلك على استراتيجية فرنسا التي صاغتها في أكتوبر 2021، ويظهر في جولة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأفريقية في الفترة من 25 إلى 28 يوليو الجاري إلى كلٍ من غينيا بيساو وبنين والكاميرون، وهي الأولى منذ توليه فترة رئاسته الثانية.

وهي عودة فرنسية إلى المستعمرات القديمة، وتتزامن مع زيارة وزير الخارجية الروسي إلى القارة الأفريقية والتي بدأها بمصر وتشمل أوغندا وإثيوبيا والكونغو الديمقراطية، في تغير واضح لاهتمامات فرنسا، واعادة التموضع العسكري في القارة ومواجهة النفوذ الروسي، ولكن يبقى التساؤل هل ستنجح زيارة ماكرون في تحسين شكل الوجود الفرنسي من الاستعمار إلى التحالف؟ 

دوافع الزيارة

– تغيير شكل الحكم وتهديد الوجود الفرنسي: 

أسهمت الانقلابات العسكرية التي حدثت مؤخرًا في مالي وبوركينا فاسو وغينيا، من تهديد الوجود الفرنسي بها، خاصة مع تصاعد فكرة النزعة الاستعمارية لصورة الدولة الفرنسية في المنطقة، وتوجه السياسة الفرنسية إلى عدد من الدول غير الحليفة، مما أفقدها وضعها على الأرض، فظهرت أصوات داخلية للشعوب وخاصةً في مالي والنيجر وتشاد منددة بالوجود الفرنسي، ورافعة الأعلام الروسية. 

وهو ما دفع إلى استمرار الإعلان بالانسحاب من مالي، مقابل تزايد الوجود العسكري الروسي، وربما يأتي الدافع الأكبر إلى تغير شكل التحالف مع الانقلاب العسكري في مالي الذي توجه إلى روسيا مقابل الغرب، فتحاول الدول المتنافسة كسب نفوذ لدى الأنظمة الحاكمة لضمان وجودها. 

وبالتزامن مع الانسحاب الفرنسي المتدرج من مالي هناك مخاوف من عدم قدرة مجموعة فاجنر العسكرية الروسية على بسط الأمن في البلاد، خاصة وأن هناك هجمات شنتها الجماعات المسلحةف ي معسكر “كاتي” بالقرب من مقر الحاكم العسكري لمالي أسيمي جويتا، في محاولة وصفتها صحيفة لو موند الفرنسية بأنها الأولى بالقرب من العاصمة ومقر الحكم، وهو ما يهدد وجود “جويتا” بعد التقدم الملحوظ الذي أحدثه على الأرض، ويعزز مخاوف استمرار حالة عدم الاستقرار وتهديد الفترة الانتقالية.

وتواجه الحكومة الانتقالية في مالي مخاوف من استغلال الوجود الأممي ضد وجودها في الحكم، ولذلك قام المجلس العسكري المالي بطرد المتحدث باسم بعثة الأمم المتحدة (مينوسما) أوليفييه سالجادو، على خلفية نشر معلومات أسمتها بالمغلوطة عن احتجاز 49 جنديًا من كوت ديفوار مشاركين في البعثة، فيما أسماهم المجلس العسكري بالمرتزقة. وبالتالي أقرت الحكومة المالية تعليق جميع عمليات تناوب كتائب الجنود والشرطيين التابعة لـ “مينوسما.”

– استراتيجية الخريف: 

تقوم الجهات الفرنسية بإعداد استراتيجية جديدة سيتم تقديمها إلى ماكرون في سبتمبر المقبل عن الوجود الفرنسي العسكري في أفريقيا، وتحاول فرنسا من خلالها ونتيجة التنافس الروسي في مالي –المركز الأساسي للعنف في الساحل والصحراء- أن تجد بديلًا عقب اكتمال انسحاب “قوة البرخان” من مالي عن طريق تكثيف تواجدها في دولة النيجر المجاور.

وهو ما انعكس على زيارات مسؤولين قبل زيارة ماكرون الحالية؛ لإعادة تشكيل القوات في المنطقة الأكثر تهديدًا للمصالح الغربية، وتزايد المخاوف بخصوص التهديد المتزايد للدول الساحلية في غرب أفريقيا. فتزور وزيرة الخارجية الفرنسية الجديدة كاثرين كولونا ووزير الدفاع سيباستيان ليكورنو النيجر بوصفها المركز القادم للقوات الفرنسية، والتي أعلنت عن قيام تلك القوات بعمليات خاصة على الحدود مع مالي وبوركينا فاسو. 

– محاولة التخلص من الإرث الاستعماري: فرضت البروباجندا التنافسية على الدولة الفرنسية تحمل تبعات الفترة الاستعمارية، والتي أثرت على الصورة الذهنية بوصفها مستعمرًا ما زال يحاول السيطرة على مناطق نفوذه القديم. فيعمل ماكرون على إزالة هذا الإرث من خلال تناول مبادرة “فارم” التي أطلقها الاتحاد الأوروبي بالتعاون مع الاتحاد الأفريقي في مارس الماضي لزيادة الإنتاج الزراعي ومواجهة تبعات الأزمة الغذائية في القارة. 

وكذلك سمح ماكرون بإعادة 26 قطعة من الكنوز الملكية لأبومي (جنوب) إلى بنين كانت نهبتها القوات الاستعمارية الفرنسية في 1892. وتتجه فرنسا في استراتيجيتها إلى القوى الناعمة من خلال جذب الشباب الأفريقي، فمن المقرر أن يلتقي ماكرون بعدد من الشباب ممن شاركوا في القمة الأفريقية الفرنسية في مونبلييه (جنوبي فرنسا) التي أعدها البروفيسور أشيل مبمبي، وهو ما تعتمده فرنسا كذلك في علاقتها مع الجزائر. 

– الضرورة الاستراتيجية والأولوية السياسية: مع تزايد آثار الحرب الروسية الأوكرانية على الدول الأفريقية وخاصة الأمن الغذائي، أعلن ماكرون أنها ستكون أولوية في زيارته الأخيرة، بينما قد تكون ضرورة مُلحة عقب زيارة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف للقارة السمراء، والذي وعد بعدم تأثير تداعيات الأزمة الأوكرانية على الدول الأفريقية وتزويد الدول بالأغذية والأسمدة وناقلات الطاقة، وبالتالي ستكون الزيارة الحالية لماكرون بمثابة تأكيد على الالتزام الفرنسي بتجديد العلاقات الأفريقية. 

وتعود أهمية الزيارة كذلك إلى لقاء رئيس مجموعة دول غرب أفريقيا الاقتصادية “إيكواس” وهي المجموعة المسيطرة على الوضع الاقتصادي لدول الساحل والصحراء، والتي قد فرضت عقوبات اقتصادية سابقة على مالي، ورفعتها عقب الإعلان عن المدة الزمنية للفترة الانتقالية وتحديد موعد إجراء الانتخابات، وبالتالي تمثل حليفًا قويًا للدولة الفرنسية في السيطرة على المنطقة، وهو ما يظهر في لقاء الرئيس أومارو سيسوكو إمبالو، رئيس غينيا بيساو، والذي سيتولى رئاسة المجموعة. 

أما الكاميرون فهي بمثابة القوة الاقتصادية الأولى في وسط أفريقيا، وبالتالي فإن الاستثمار الزراعي هناك سيكون على طاولة المحادثات، بجانب قضايا مكافحة الإرهاب، عن طريق تكوين حلفاء جدد، فبجانب الكاميرون وغينيا توجد دولة بنين، والتى يواجه شمالها تهديدات الإرهاب العابر للحدود من الساحل إلى دول خليج غينيا، وبالتالي فتظهر الحاجة إلى التعاون العسكري والاستخباراتي والجوي بحسب وصف الإليزيه، وهو ما يضعنا أمام سيطرة معلوماتية وتطويق للوجود الروسي في المنطقة. 

وبالتالي، تمثل الزيارة الحالية ضرورة استراتيجية بعد إهمال دول وسط أفريقيا خلال ولايته الأولى، فأدت التقلبات السياسية في دول الساحل والصورة المشوهة للوجود الفرنسي إلى خلق حلفاء جدد، ولكن هل ستظل فرنسا الوصي الديمقراطي على دول المنطقة؟ 

البرجماتية الروسية والتنافس الفرنسي الأمريكي

روسيا: على النقيض من السياسات الغربية، تتجه روسيا إلى بناء علاقات برجماتية دون فرض شكل “الوصية” الذي تفرضه الولايات المتحدة والدول الأوروبية من خلال فرض قيود دبلوماسية واقتصادية على الأنظمة السياسية بدعوى التحول الديمقراطي وحقوق الإنسان، فيما تستفيد الدول الأفريقية من حق الفيتو الذي تمتلكه روسيا.

وفي المقابل، تتجه روسيا إلى الدول التي أولتها فرنسا اهتمامًا خاصًا في ولاية ماكرون الأولى كنيجيريا وإثيوبيا وجنوب أفريقيا ودول الساحل؛ فبعد التعاون مع مالي –مركز مجموعة الساحل والصحراء– اتجه لافروف إلى إثيوبيا بعد مصر وكذلك إلى كلٍ من أوغندا وجمهورية الكونغو. 

وتحاول روسيا البناء على القرارات الاستراتيجية المنبثقة عن القمة الروسية – الأفريقية الأولى المنعقدة بمدينة سوتشي في نهاية أكتوبر 2019، بعقد “شراكة شاملة” والإعلان عن قمة مقبلة 2023، والتأكيد على مبدأ “الحل الأفريقي- الأفريقي” لمشكلات وأزمات القارة؛ لمواجهة مبدأ الوصاية الغربية. 

وكذلك تفرض الأزمة الأوكرانية نفسها على موضوع الزيارة، فتحاول روسيا إنشاء أنظمة مصرفية وتسوية مالية محمية من سيطرة الغرب والتي عانت منها روسيا بعد فرض عقوبات عليها من قبل الولايات المتحدة وعزلها من نظام سويفت، وكذلك العمل على التخفيض المستمر في “حصة الدولار واليورو في التجارة المتبادلة.” للقضاء على نظام القطب الأوحد العالمي، والاستفادة من مواقف لدول الأفريقية داخل أروقة المنظمات العالمية. 

الولايات المتحدة: تتزامن تلك الزيارات مع مشاركة الولايات المتحدة في قمة الأعمال الأمريكية الأفريقية المنعقدة في المغرب، من خلال محاولات العودة إلى القارة بعد تبني سياسات تعتمد على التحول من سياسة المساعدات إلى تبني الفكر الاستثماري، فأعلنت خلال أعمال القمة عن استثمارات بالمليارات لتنمية القارة من خلال الشراكة مع القطاع الخاص، والاستفادة من الشتات الأفريقي في الولايات المتحدة الأمريكية. 

وأكدت نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس التزام الولايات المتحدة بتعزيز العلاقات مع “كافة الدول الأفريقية”، في حين تنتظر الولايات المتحدة التوجه الغربي والروسي الكامل لوضع استراتيجية جاذبة ستظهر في القمة التي سيعقدها بايدن في واشنطن نهاية العام الحالي مع زعماء الدول الأفريقية وخاصة في الفترة من (13 – 15) من ديسمبر المقبل. وبجانب ذلك، قرر الرئيس الأمريكي جو بايدن تمديد حالة الطوارئ المتعلقة بدولة مالي لمدة عام ابتداءً من 26 يوليو الجاري.

 فرنسا: بدأت الدول الثلاث تغيير شكل الخطاب في التعامل مع الدول الأفريقية من خلال استخدام عبارات “التنمية الشاملة”، إلا أن الاستراتيجيات الفعلية على الأرض تعكس المفهوم الرئيس لدول الغرب من خلال دعم الوجود العسكري لهم بالقارة لحماية استثماراتهم، والسيطرة على أنظمة الحكم الداعم من خلال ما أسمته فرنسا في استراتيجيتها التي ستقرها في سبتمبر المقبل تجاه أفريقيا “دعم أنظمة الحكم الرشيد”، والاستفادة كذلك من موارد القارة من أراضٍ زراعية أو تعدينية مقابل التنمية، والتحول من سياسة المساعدات المشروطة إلى الاستثمار في مشروعات التنمية في البنية التحتية والقوى الناعمة وهو الأمر الذي سبقتها فيه روسيا والصين.

مصر نقطة الانطلاق القاري:

تسعى الدول الكبرى إلى المقاربة مع السياسة المصرية بوصفها حجر الزاوية في المنطقة، سواء في الوضع الإقليمي أو القاري، وبالتالي مع تنوع الدبلوماسية المصرية، وهي السياسة التي انتهجها الرئيس السيسي منذ توليه الحكم 2014، باتخاذ مواقف قائمة على المصالح المتبادلة بين الدول. وتظهر هذه المقاربة في 3 مشاهد رئيسة، تمثلت في: 

قمة الخليج +3 بحضور الرئيس الأمريكي جو بايدن.

زيارة الرئيس السيسي إلى فرنسا، وبعدها الاتصال الهاتفي مع ماكرون قبيل رحلته إلى القارة الأفريقية.

– وأخيرًا، زيارة لافروف إلى القاهرة كأولى محطات الزيارة القارية قبل التوجه إلى دول حوض النيل ووصف مصر بأنها الشريك الأول في القارة). 

علاقة مصر بتلك الزيارات تعكس الدور المحوري لها في القارة، وبالتالي تشير إلى فرض الاجندة المصرية على الأجندة الدولية، وهو ما سينعكس على قضايا سد النهضة الإثيوبي، والتعاون الاستثماري في قضايا التنمية، وإحداث زخم دولي حول استقبال مصر لمؤتمر المناخ COP 27 والتأكيد على قضايا التمويل العادل للدول النامية التي تعاني من تبعات سياسات الدول المتقدمة، وتعزيز التعاون في مجالات الطاقة النظيفة والهيدروجين والكهرباء وتنفيذ اتفاقية باريس للمناخ بحلول واقعية. 

ومع التحول في الدبلوماسية الدولية لعكس صورة التنمية الشاملة مع الدول الأفريقية كبديل للمفهوم الاستعماري والتدخلات العسكرية، نتيجة الحاجة للموارد والأراضي الواسعة في الدولة الأفريقية وفتح مصادر جديدة للطاقة من خلال أنظمة تحقق لهم تلك الغاية؛ فتحتاج الاستراتيجية التي تتبناها دول الغرب إلى وجود برامج واقعية تنفذها على الأرض لطرح مقاربة بين الخطب السياسية والزيارات الدبلوماسية والواقع الفعلي، وهو ما تنادي به الدولة المصرية في رؤيتها لتحقيق التكامل الأمني والتنمية القارية. 

+ posts

باحثة بالمرصد المصري

رحمة حسن

باحثة بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى