
أولت الرئاسة المصرية اهتمامًا خاصًا بدول البلقان، فكان تعميق العلاقات المصرية الصربية حاضرًا على أجندة الرئيس السيسي منذ توليه رئاسة البلاد عام 2014، التقى خلالها بالرئيس الصربي ثلاث مرات على هامش انعقاد أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، لتكون الزيارة الحالية هي الأولى للرئيس إلى صربيا، والتي جاءت عقب زيارة الرئيس إلى ألمانيا، لتكون بلجراد محطة ثانية لحشد التوافق الدولي حول أجندة المناخ إلى جانب تعميق العلاقات السياسية والاقتصادية والقضايا الإقليمية والدولية، في ظل التغيرات التي شهدتها الساحة العالمية عقب الحرب الروسية الأوكرانية، فما هي أبعاد العلاقات بين القاهرة وبلجراد في ظل هذا التوقيت؟
عن الزيارة
الزيارة الرسمية الحالية هي الأولى من نوعها والتي تجمع الرئيس عبد الفتاح السيسي ونظيره الصربي ألكسندر فوتشيتش، في عاصمة صربيا “بلجراد”؛ فيما التقى رؤساء الدولتين خلال فترة حكم الرئيس السيسي 3 مرات خلال أعوام 2014، 2015، 2016 على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وشهدت الزيارة الحالية بجانب اللقاءات الثنائية، افتتاح الرئيس السيسي منتدى الأعمال المصري الصربي وشهد، الاجتماع الأول لمجلس الأعمال المصري-الصربي المشترك”، أعقبها جلسة مباحثات موسعة بين وفدي البلدين برئاسة الرئيس السيسي والرئيس الصربى.
وفي ختام المباحثات، شهد الرئيسان مراسم التوقيع على عدد من مذكرات التفاهم وبرامج التعاون بين البلدين في مجالات الزراعة، والبيئة، والاستثمار، والثقافة والفنون، والإعلام، والتعليم، والتعليم العالي، والتقييس ودعم المعلومات، وتنمية المشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر، والتعاون بين المتحف القومي للحضارة المصرية ومتحف الفنون الأفريقية بصربيا، والإعفاء المتبادل من الحصول على التأشيرات لحملة جوازات السفر الدبلوماسية والخاصة والمهمة، فكان هناك اتفاق عام 1965 للإلغاء المتبادل لتأشيرات حاملي جوازات السفر الدبلوماسية، وهو إشارة إلى عودة قوية للعلاقات المصرية الصربية القائمة منذ عام 1908.
لتتطور العلاقات الدبلوماسية والسياسية والبرلمانية بين البلدين مرة أخرى، وهو ما انعكس على الجانب الاقتصادي بشكل كبير، وترحيب الرئيس السيسي خلال كلمته المشتركة في المؤتمر الصحفي مع رئيس صربيا بأهمية مواصلة آلية المشاورات السياسية بين البلدين، واللجنة المشتركة للتعاون الاقتصادي والفني والعلمي.
القاهرة/ بلجراد.. تطور العلاقات السياسية يعزز الاقتصاد:
على الصعيد السياسي: على الرغم من الطابع الاقتصادي الذي عكسته الزيارة إلى أنها ترجع بالفضل إلى اللقاءات المتبادلة بين القادة السياسين والبرلمانيين والدبلوماسية الشعبية للدولتين والتي أدت إلى تطور العلاقات والاتفاقات القائمة على المصالح المشتركة، وبالتالي المواقف المتقاربة بشأن القضايا الدولية والإقليمية، وظهر هذا التقارب السياسي في تلقي الرئيس السيسي وسام جمهورية صربيا.
على الصعيد البرلماني: شهدت الزيارة مقابلة الرئيس السيسي رئيس البرلمان الصربي إيفيتسا داتشيتش، في ظل سلسلة من التعاون البرلماني المشترك تم على إثره إنشاء مجموعة صداقة برلمانية بين القاهرة وبلجراد عام 2018، عقب إلقاء رئيس مجلس النواب السابق على عبد العال كلمة في البرلمان الصربي يوليو 2018، وعقد لقاءات مع رئيسة البرلمان الصربي، لبحث آليات تعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية بين الجانبين، كما زارت رئيس البرلمان الصربي القاهرة في ديسمبر 2021، بما يسهم في تعزيز التواصل بين الشعبين والارتقاء بالتعاون الثنائي المشترك.
على الصعيد الاقتصادي: ربطت مصر وصربيا علاقات اقتصادية ممتدة جعلت من مصر مركزًا للاستثمارات الصربية، وتشارك دولة صربيا في السوق المصرية في مشروعات يبلغ رأسمالها 47 مليون دولار.
ومن المتوقع أن تشهد العلاقات زخمًا في مجالات السياحة وخاصةً السياحة العلاجية، وصناعة السيارات، ومجالات تنمية وتطوير المشروعات الصغيرة والمتوسطة والتدريب الصناعى، وإنشاء المناطق اللوجيستية والزراعة والمستلزمات الطبية والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والتجارة، وهو ما ظهر في كلمة وزيرة التجارة والصناعة المصرية نيفين جامع ونظيرتها وزيرة التجارة والسياحة والاتصالات الصربية، تاتيانا ماتيتش خلال أعمال المنتدى، كما يلي:
– التبادل التجاري: من خلال التأكيد على تفعيل دور مجلس الاعمال الصربي المشترك، وزيادة معدلاتها، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين عام 2021 نحو 79.7 مليون دولار منها 42.4 مليون دولار صادرات مصرية و37.4 مليون دولار واردات، تمثلت أهم البنود في الفوسفات والخضروات والفاكهة واللدائن والاسمدة والتبغ والآلات والاجهزة الكهربائية.
– التجارة البينية: العمل على توفيع اتفاقية التجارة الحرة على أن تكون في أكتوبر المقبل أو نهاية العام الحالي على أقصى تقدير، والاستفادة من السوق الصربية للنفاذ إلى الأسواق المجاورة في شرق وجنوب أوروبا، لزيادة الصادرات خاصةً في منتجات البتروكيماويات والمستحضرات الطبية والملح والبولي ايثيلين ومواد البناء والسلع الهندسية.
وكذلك أن تكون مصر مركزًا للتصنيع من خلال الاستفادة من اتفاقيات التجارة الحرة الموقعة بين مصر وعدد كبير من الدول والتكتلات الاقتصادية الرئيسية الإقليمية والعالمية والتي تشمل الاتحاد الأوروبي والإفتا والكوميسا ومنطقة التجارة العربية والميركسور والولايات المتحدة من خلال الكويز وتركيا، والمملكة المتحدة من خلال الاتفاقيات الثنائية، وبالتزامن مع تفعيل منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية.
هذا إلى جانب تفعيل التعاون الجمركي، وتعجيل تسجيل الأدوية، ووضع آلية للفحص المسبق للصادرات، بالإضافة إلى وضع آلية لتسهيل تدفق مستلزمات الإنتاج لمواجهة تعطل سلاسل الإمداد العالمية، والاستفادة من مشروعات الربط القاري، وربط المناطق الصناعية الحديثة بالموانئ العالمية من خلال مشروع “الإسكندرية – كيب تاون”، وسفاجا – داكار، وبورسعيد – داكار.
– السياحة بين البلدين: انعكست العلاقات السياسية والدبلوماسية الجيدة بين قادة البلدين على تطور العلاقات الاقتصادية بين البلدين، فكانت الدول الواقعة في شرق أوروبا هي مفتاح إنقاذ السياحة المصرية عقب جائحة كورونا، وبجانب الاتفاقيات في المجال الجوي السابقة وقعت مصر وصربيا اتفاقية توأمة بين مرسى علم عن محافظة البحر الأحمر، وياجودينيا الصربية في 15 أكتوبر 2018.
وخلال مشاركة مصر في مؤتمر ITF في بلجراد 2020 -على الرغم من حالة الغلق التي شهدها العا – تم تناول التطورات الإيجابية السياحية بين البلدين وتزايد أعداد السياحة الصربية إلى مصر فكانت طوق النجاة خلال فترة كورونا بجانب دولة بولندا، وإعادة تشغيل رحلات الطيران المباشر إلى القاهرة مرة أخرى بعد توقفها عقب الجائحة والتي توقفت مرة أخرى عقب عودتها بعد توقف يقرب من 15 عاماً، بجانب رحلات طيران إلى مدينتي شرم الشيخ والغردقة بعد توقف استمر 6 سنوات، وطلبت الحكومة الصربية الاستفادة من الخبرات المصرية في مجال ترميم الآثار، وهو ما انعكس على توقيع اتفاقية التعاون بين المتحف القومي للحضارة المصرية ومتحف الفنون الأفريقية بصربيا.
فالدعم السياسي الذي أظهاه الرئيسان عبد الفتاح السيسي وألكسندر فوتشيــتش، في إعطاء رسالة ثقة للقطاع الخاص في ظل الشراكة بين الحكومة المصرية والصربية والقطاع الخاص في البلدين، وانعكس بالضرورة على نظرة شعبي البلدين فاختار الشعب الصربي مصر كثاني وجهة سياحية مفضلة لديه بعد اليونان لعام 2021.
لماذا الآن؟
يضعنا الشرح السابق إلى التأكد بوجود مسيرة من العلاقات الجيدة الممتدة عبر عقود بين البلدين وزادت في السنوات الثماني السابقة، إلا أن التغيرات الدولية قد ألقت بظلالها على توقيت الزيارة الحالية؛ فقد أثرت الحرب الروسية الاوكرانية على زيادة حجم التضخم العالمي، مما عجل ضرورة زيادة التعاون الدولي في عدة مجالات لضمان تحقيق اكتفاء الشعوب وزيادة التبادلات والتكامل بين البلدين، هذا إلى جانب التطورات على الصعيد الإقليمي، وهو ما انعكس في النقاط التالية:
الغاز الروسي (أمن الطاقة): أثرت العقوبات الأوروبية على الغاز الروسي المتدفق إلى صربيا، في ظل تقدمها لحصولها على عضوية الاتحاد الأوروبي، إلا أن بلجراد لم تشارك في تلك العقوبات نتيجة حاجتها للنفط الروسي والديزل، فتدين صربيا بالولاء إلى روسيا في ظل استخدام حق الفيتو عند انفصال كوسوفو، وانشأت عقود احتكار للشركات الروسية في أنابيب الغاز إلى دولة صربيا، إلا أن تلك العقوبات عرقلت تلك الاتفاقية بين روسيا وصربيا.
وظهر التعاون المصري الصربي في ترحيب الرئيس السيسي خلال لقاء نظيره الصربي بتعظيم التعاون على مستوى التعاون العسكري والاقتصادي والتجاري والسياحي، وإيجاد تحرك مشترك من الدول ذات التوجهات المتشابهة، خاصةً في مجالات أمن الطاقة والأمن الإقليمي والأمن الغذائي.
أزمة القمح (الأمن الغذائي): فأثرت تداعيات الأزمة الأوكرانية على اقتصادات دول العالم، وتحقيق الأمن الغذائي العالمي، فأعرب الرئيس السيسي خلال لقائه ونظيره الصربي على ضروة تعزيز جهود البلدين في التغلب على تلك التداعيات، بالإضافة إلى تحقيق الأمن الغذائي في هذا التوقيت الحيوي، بما يحقق مصالح شعبي البلدين، وإعلان الرئيس الصربي خلال المؤتمر الصحفي بيع الحبوب إلى مصر، وفقاً لوكالة “نوفا” الايطالية.
التشاور السياسي في القضايا الإقليمية والدولية: تنقلنا تلك النقطة حول تأكيد الرئيسين على حماية مصالح الشعوب إلى ضرورة التعاون العسكري ومناقشة تطورات القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك، من خلال الرؤية المصرية التي تقوم على ضرورة الوصول إلى تحقيق كافة السبل المؤدية إلى التهدئة وتغليب لغة الحوار والتفاوض وصولاً إلى التسوية؛ لتجنب الجميع ويلات الحرب، والتوصل إلى حل سلمي للنزاع والذي ظهر في المبادرة المصرية لتشكيل مجموعة اتصال وزارية بالجامعة العربية في إبريل الماضي، والالتقاء بوزراء خارجية الدول المعنية خلال زيارة كلٍ من “موسكو” و”وارسو”، لحث جميع الأطراف على التهدئة، وآثارها الاقتصادية الوخيمة.
هذا بجانب ما شهدته الزيارة الحالية من الاتفاق على تفعيل التحالف أو ما تم تسميته بالتعاون الوثيق بين وزارتي خارجية مصر وصربيا في المؤسسات والمحافل الدولية.
ولم تغفل الأجندة المصرية تحقيق الحشد الدولي حول القضايا الإقليمية خاصةً اليمن وسوريا وليبيا والقضية الفلسطينية، وهو ما انعكس على إشادة الرئيس الصربي بـ “الدور الإيجابي الذي تقوم به مصر في إطار العمل على التسوية السياسية لمجمل الأزمات القائمة في محيطها الإقليمي، وتعزيز جسور الحوار بين الدول الأفريقية والعربية والأوروبية، فضلًا عن جهودها في مكافحة الفكر المتطرف والهجرة غير الشرعية وإرساء مبادئ وقيم قبول الآخر وحرية الاختيار والتسامح،” وفقاً لتصريحات المتحدث الرسمي لرئاسة الجمهورية.
مؤتمر المناخ COP 27: أدت الأزمة الاوكرانية الروسية إلى ضرورة العمل على تفعيل مبادرات تمويل المناخ وتنفيذ سياسات المناخ وفقاً لاتفاقية باريس وخفض انبعاثات الكربون، وهو من الأمور التي يجب تحويلها إلى خطط تنفيذية على الأجندة المصرية في شرم الشيخ.
فلم تغفل الزيارة التأكيد على الجهود المصرية لحشد المجتمع الدولي لمكافحة تغير المناخ، ودعوة الرئيس السيسي للرئيس الصربي في المشاركة في قمة المناخ التي تستضيفها مصر في نوفمبر المقبل بمدينة شرم الشيخ
عكست الزيارة الرؤية المصرية لتوسيع وتنوع العلاقات الدبلوماسية والسياسية والتي تقي البلاد من الأزمات الدولية، وتسهم في الحشد الدولي لبناء سياسات مشتركة وتعاونية متنوعة بعيدة عن التحالفات والانحياز الدولي لجهة دون أخرى خاصةً في هذا التوقيت الحرج، ورفع شعار التكامل من أجل الشعوب، وذلك على عدة أصعدة اقليمية ودولية وسياسية وتجارية واقتصادية وعسكرية “دفاعية” ودبلوماسية ظهرت في العلاقات الثنائية بين مصر وصربيا أو على المستوى متعدد الأطراف من خلال دورهما البارز في تأسيس حركة عدم الانحياز، والتي احتفلت صربيا في شهر أكتوبر الماضي بالذكرى الستين لأول مؤتمر استضافته بلجراد للحركة بحسب تصريحات الرئيس السيسي.
باحثة بالمرصد المصري