انتكاسة مناخية؟: التضحية بسياسات المناخ لحل أزمة الطاقة في أوروبا
بدأت أوروبا العودة نحو استخدام الفحم مرة أخرى؛ لمواجهة تداعيات نقص إمدادات الغاز الروسي، وتأتي في مقدمة تلك الدول (ألمانيا والنمسا وهولندا وإيطاليا وفرنسا)، التي أعادت تشغيل محطات الطاقة التي تعمل بالفحم، على الرغم من أنها كانت في طريقها إلى تقليل الانبعاثات الكربونية للحد من التغير المناخي، لكن الأزمة الروسية – الأوكرانية جعلت أوروبا مضطرة إلى حرق المزيد من الفحم.
وتصب هذه العودة في صالح الهند والصين بوصفهما من أكبر الدول المنتجة للفحم؛ لأن الصين من أكبر مصدري الانبعاثات في العالم، فهي تسهم بنسبة 4% من هذه الانبعاثات خلال العام الماضي، أما الولايات المتحدة الأمريكية والتي لم تكن بعيدة عن الصورة المناخية، فهي مسئولة عما يقرب من 22% من الزيادة العالمية في الانبعاثات خلال العام الماضي.
ونتيجة حظر واردات الفحم الروسي بدءًا في أغسطس، ضمن حزمة العقوبات ضد موسكو، بدأت أوروبا تلجأ إلى البحث عن بدائل للفحم الروسي في جنوب أفريقيا، فقد تجاوزت واردات الدول الأوروبية من فحم جنوب أفريقيا الـ 40% خلال الأشهر الـ 5 الأولى من العام الحالي، مقارنة بعام 2021. وذلك يعنى أن عدم الاستقرار الاقتصادي عالميًا جعل أوروبا تحاول إنقاذ نفسها بالبحث عن بدائل، الأمر الذي يشير إلى احتمالية حدوث انتكاسة مناخية طويلة المدى قد تعوق التحول إلى الطاقة الخضراء.
عودة الفحم كوقود مرة أخرى
جاء حظر الفحم الروسي ضمن العقوبات الجديدة على موسكو، بناءً على اقتراح رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، وكان في البداية اقتراح بإنهاء الاستيراد تدريجيًا لمدة ثلاثة أشهر للعقود الحالية، لكن المناقشات بين الدول الأوروبية أسفرت عن تمديد تلك المدة إلى أربعة أشهر بعد ضغط من ألمانيا، والتي تعد المستورد الرئيس للفحم الروسي في الاتحاد الأوروبي.
ويدخل الحظر حيز التنفيذ في بداية أغسطس، وتشكل إمدادات الفحم الروسي 45% من واردات الاتحاد الأوروبي بقيمة 4 مليارات يورو سنويًا مع اعتماد بعض الدول عليه بشكل خاص، مثل ألمانيا وبولندا، وبلغت احتياطيات الفحم العالمية من روسيا (15٪) بحسب موقع شركة “بريتيش بتروليوم” حول الطاقة.
وبدأت ألمانيا تخفيض استهلاكها من الغاز الطبيعي في محطات الكهرباء لصالح الفحم، وتسعى إلى الضغط على مجموعة السبع من أجل إعادة تمويل مشروع الفحم بوصفه المخرج الوحيد والمؤقت للحفاظ على حزمة العقوبات المطبقة على روسيا، خاصة في ظل عدم وجود خيارات سياسية أخرى أمام تلك الدول المتضررة من تلك العقوبات، إلا أن ذلك يعد تخليًا عن مبادئ سياسات المناخ بهدف تعويض نقص الطاقة؛ أي أن أولويات المناخ أصبحت ليست في المقدمة.
وهو ما حدث بالفعل من خلال اتخاذ بعض الدول إجراءات سريعة في عودة الفحم مرة أخرى وعلى رأسها ألمانيا التي قامت بتخفيض استهلاكها من الغاز الطبيعي في محطات الكهرباء لصالح الفحم، وفقاً لما أعلنه روبرت هابك وزير الاقتصاد الألماني والذي يثير إعلانه عن هذا القرار الكثير من علامات التعجب، خاصة وأنه ينتمي إلى حزب “الخضر”.
كذلك قررت إيطاليا إعلان حالة تأهب شديدة بشأن الغاز، ففرضت تقنين الغاز لمستخدمين صناعيين محددين، وزادت الإنتاج في محطات توليد الكهرباء التي تعمل بالفحم. أما فرنسا فأعلنت إعادة تشغيل محطة كهرباء كانت تعمل بالفحم كانت مغلقة منذ مارس 2021؛ بهدف ضمان توفير إمدادات الطاقة خلال الشتاء.
وعلى ذات المنوال، أعلنت هولندا تعليق بعض القوانين التي تمنع زيادة استخدام الفحم فوق 35% من الطاقة الاستيعابية لإنتاج الكهرباء. وكذلك النمسا، فقد اتفقت الحكومة النمساوية مع شركة “فرباند” على تحول محطة كهرباء من الغاز إلى الفحم في حالة انخفاض إمدادات الغاز من روسيا بشكل كبير، على الرغم من أن هذه المحطة كانت تعمل بالغاز وسيتم إعادتها إلى فحم وتشغيلها إذا اقتضت الحاجة لذلك.
خسائر أوروبا أكبر من روسيا
وهنا يثار التساؤل، هل قرار حظر الفحم سيكلف أوروبا أضرارًا جسيمة أكثر بكثير من أضرار روسيا؟ وأقرب مثال لذلك، إن الصين تعد أكبر مستورد للفحم، وكانت أستراليا ثاني أكبر مورد لها بعد إندونيسيا حتى منتصف عام 2020، لكن الخلاف السياسي بين الصين وأستراليا أدى إلى مطالبة بكين التجار والمرافق بالتوقف عن شراء الفحم الأسترالي.
في البداية، تراجعت أسعار الفحم الحراري الأسترالي، في حين ارتفعت أسعار الموردين المنافسين في إندونيسيا وروسيا، لكن السوق الأسترالية استطاعت أن تتكيف سريعًا، وزادت المبيعات من شمال آسيا، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، إلى جانب الهند، ثاني أكبر مستورد للفحم في العالم.
وبالتالي في حالة حظر أوروبا الفحم الروسي، فإن هذا لا يعني أن الأمور ستسير بالطريقة نفسها كما فعلت الصين مع الفحم الأسترالي. لكن هناك أمور متشابهة في الحالتين، ففي وقتها كانت بكين قادرة على توفير إمدادات بديلة، سواء من منغوليا وإندونيسيا وروسيا، لكنها اضطرت إلى دفع عمولات باهظة لهذه الدول، بينما تمكنت أستراليا من مواصلة تصدير الفحم، بعدما اضطر مستوردو الفحم الإندونيسي إلى شراء الشحنات من أستراليا. لكن سيكون الطرف الخاسر هي الدول المتضررة من ارتفاع الأسعار والمضرورة للبحث عن بدائل، وبالرغم من أن قرار حظر الفحم الروسي هو ضغط في قطاع الطاقة لروسيا، لكن التكلفة ستكون باهظة، وسيتعين على الدول الأوروبية الاستعداد لدفع عمولات لنقل الشحنات من الأمريكتين وحتى من أستراليا وإندونيسيا، جنوب أفريقيا.
وهو ما حدث بالفعل؛ فبدء أوروبا البحث عن بدائل للوقود الروسي كان فرصة كبيرة أمام فحم جنوب أفريقيا، لتعويضها عن نقص الإمدادات، حيث زادت واردات الدول الأوروبية من فحم جنوب أفريقيا بنسبة تجاوزت الـ 40% خلال الأشهر الـ 5 الأولى من العام الجاري، مقارنة بعام 2021 بأكمله، لتأمين بدائل للفحم الروسي، مما أدى إلى زيادة أسعار الفحم في جنوب أفريقيا.
هذا بجانب أن الطلب المتزايد على فحم جنوب أفريقيا مصلحة لعمال المناجم، لكن لا يمكنهم الاستفادة من ذلك بسبب تدهور البنية التحتية. فضلًا عن أن شركة الشحن الحكومية تواجه صعوبات جراء أعمال السرقة للخطوط ونقص القطارات، بسبب تفشى الفساد في الدولة، علاوة على ذلك، صرحت الشركة بأنها غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها التعاقدية المتعلقة بكميات الفحم التي يجب نقلها، حيث تم تصدير 2.9 مليون طن فقط إلى أوروبا، خلال الشهر الماضي.
ويؤخذ في الحسبان أن الهند والصين اللتين لم تدينا الهجوم الروسي على أوكرانيا، سيمثل ذلك الحظر مصلحة قوية لهما تجعلهما تبدآن في الاستعداد لشراء الفحم الروسي، لكن قد يتطلب ذلك استعدادات لنقل الشحنات من المواني الشرقية التي تحتاج إلى القيام برحلات طويلة، عن طريق قناة السويس، وإما رأس الرجاء الصالح، وبالتالي سيمثل تكلفة إضافية.
التضحية بسياسات المناخ لحل أزمة الطاقة في أوروبا
في ظل قرار حظر الفحم الروسي، والذي ترتب عليه ارتفاع أسعار الطاقة، أصبح من الصعب سياسيًا على بعض الدول أن تدفع في اتجاه تطبيق سياسات المناخ التي من المفترض تم الاتفاق عليها في “cop26” بالتوجه نحو استخدام الطاقة الخضراء. بل تم اللجوء إلى الفحم الذي يمثل مصدرًا رئيسًا للإسهام في الانبعاثات المؤثرة على المناخي، إذ يسهم بنسبة 44% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون على مستوى العالم، بجانب أن حرق الفحم يولد ثاني أكسيد الكربون بمقدار الضعفين أكثر من حرق الغاز الطبيعي، لتوليد الكمية نفسها من الطاقة.
لكن من الواضح، أن الدول الأوروبية تتجاهل كل التعهدات المناخية التي كانت تطلقها على مدار الأعوام السابقة، بسبب الأزمة الروسية- الأوكرانية، وهو ما يعطى فرصة كبيرة للهند والصين في استمرار إنتاج الفحم بشكل كبير، دون الاخذ في الحسبان ما تم الاتفاق عليه في قمة جلاسكو، من العمل على “التقليل التدريجي” لإنتاج الفحم.
وعلاوة على ذلك، تعني تلك العودة أن طموح الدول الأوروبية اتجاه تطبيق سياسات المناخ قبل 2050، هو مجرد حلم، وهو ما أكدت عليه المفوضية الأوروبية، من أنّ أزمة الطاقة قد تؤدي إلى تأخير انتقال أوروبا بعيدًا عن الوقود الأحفوري، إذ قالت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، إنه “على أوروبا التراجع عن استخدام الوقود الأحفوري القذر، ولو اضطرت في الوقت الحاضر إلى استخدامه”.
ومن المفترض أن قمة المناخ COP 27 التي تعقد في شرم الشيخ، تنتظر أن تقدم الدول فيها خططًا مناخية محسنة إلى الأمم المتحدة، خاصة وأن تلك الخطوات من جانب الدول في عودة الفحم مرة أخرى لا تتماشى تعهداتها الحالية بشأن المناخ مع الحد من ارتفاع درجة حرارة الأرض إلى 1.5 درجة مئوية. فقد مثّلت الأزمة الروسية الأوكرانية نموذجًا واضحًا على إعلاء مصالح الأمن القومي لدولة أو لمجموعة دول دون الأخذ في الحسبان كارثة المناخ.