دول المشرق العربيشرق المتوسطإسرائيل

حرب مستبعدة.. حدود المواجهة البحرية بين لبنان وإسرائيل شرق المتوسط

أثار وصول سفينة “إنيرجيان باور” Energean Power إلى المناطق المتنازع عليها بين لبنان وإسرائيل في 5 يونيو واقترابها نحو 25 كيلو مترًا من الخط رقم 23 وبدء العمل على تثبيت موقع السفينة في حقل كاريش جدلًا واسعًا حول مستقبل النزاع على الحدود البحرية بين البلدين، إذ يرى لبنان أن جزءًا من الحقل يقع داخل حدوده البحرية، الأمر الذي ترفضه إسرائيل وترى أن الحقل يقع بالكامل في مناطقها الاقتصادية الخالصة. 

خلاف متجذر

تعد الخلافات البحرية بين إسرائيل ولبنان واحدة من القضايا العالقة بين الطرفين والتي تشهد تعقيدًا كبيرًا، خاصة منذ اكتشاف إسرائيل للغاز الطبيعي في منطقة شرق البحر المتوسط والتي بدأت منذ عام 2009؛ إذ إن تلك الاكتشافات وما أعقبها جعلت دول المنطقة تكثف جهودها للتنقيب عن الغاز الطبيعي بهدف تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب، من هنا بدأت الخلافات البحرية تشتعل في المنطقة، وأضفت بعدًا إضافيًا للصراع الممتد منذ عقود. 

ويدور الخلاف بين إسرائيل ولبنان على مساحة بحرية تقدر بنحو 860 كيلو مترًا مربعًا تم تقسيمها إلى 10 “بلوكات”، وقد دار الخلاف الأكبر حول “البلوك” رقم 9، وتباينت وجهات نظر الطرفين حول طريقة ترسيم الحدود، فترى إسرائيل أن رسم الحدود يجب أن يكون بزاوية 90 درجة متاخمة للحدود البحرية، في حين يؤكد لبنان أن خط الترسيم يجب أن يتم كاستمرار مباشر للحدود البرية اللبنانية.

وقد بدأت ارهاصات الخلاف على إثر التعارض الناجم عن اتفاقية ترسيم الحدود بين لبنان وقبرص عام 2007، واتفاق ترسيم الحدود بين قرص وإسرائيل عام 2010؛ إذ ضم الاتفاق القبرصي الإسرائيلي نقاطًا جاءت ضمن المناطق الاقتصادية الخالصة للبنان وفقًا لاتفاق ترسيم الحدود اللبناني القبرصي، وعليه تداخلت الحدود البحرية الشمالية التي ترى إسرائيل أحقيتها بها مع الحدود الجنوبية اللبنانية.

D:\مجموعة عمل ليبيا\الملفات النهائية\اصدار جنوب ليبيا\Map2.jpg

ولتقريب وجهات النظر بين الطرفين، عملت الولايات المتحدة الأمريكية على بحث جهود الوساطة ومحاولة تحقيق اختراق من شأنه أن يحد من التوترات بين الجانبين، إلا أن جهود الوساطة لم تؤت ثمارها، فخلال عام 2012 اقترح “فريدريك هوف” تقسيم 860 كيلو مترًا المتنازع عليها، بحيث يتم منح لبنان نحو 500 كيلو متر، مقابل حصول إسرائيل على 360 كيلو مترًا، إلا أن هذه المبادرة والتي عُرفت باسم “خط هوف” لم تجد قبولًا من الجانبين.

وفي عام 2018 وقع لبنان أول عقد للتنقيب عن الموارد الهيدروكربونية في مياهه بما في ذلك الجزء المتنازع عليه مع إسرائيل، وذلك عبر تحالف ثلاثة شركات وهي “توتال” الفرنسية و”إيني” الإيطالية و”نوفاتك” الروسية، للتنقيب في “البلوكات” 4 و9، وقد بدأ لبنان عمليات الحفر والتنقيب في فبراير 2020.

وعلى مدى عقد كامل، أخفق الوسطاء الأمريكيون (فريدريك هوف، وعاموس هوشستين، وديفيد ساترفيلد، وديفيد شينكر) في تحقيق أي تقدم في هذا الأمر، إلا أن هذه الوساطة قد عادت مرة أخرى بعد توقفها وذلك في أكتوبر 2020 تحت إشراف الأمم المتحدة، وذلك في مقر اليونيفيل في الناقورة جنوبي لبنان. وقد عُقد عدد من الجولات قبل أن تتوقف المباحثات في مايو 2021 على خلفية تباين المواقف، خاصة بعدما طرح الجانب اللبناني مساحة بحرية تٌقدر بنحو 1430 كيلو مترًا، ما قد صعب من عمليات التوافق وحل الخلاف؛ إذ إن ذلك يعني اتساع مساحة الخلاف لنحو 2290 بدلًا من 860 كيلو مترًا، ووفقًا للتقديرات فإن هذا الأمر يعني مطالبة بيروت بحقلي “كاريش” و “تانين” اللذين تعدهما إسرائيل ضمن سيادتها.

إسرائيل تتحضّر للتنقيب... ولبنان ينتظر تعديل الخط 29

حدود المواجهة والاحتواء

كما هو معروف في حالة نشوب خلافات قد تصل إلى حد النزاع الذي يمكن أن يؤثر على السلم والأمن الدولي، فإن الأطراف المتنازعة يمكنها أن تلجأ إلى عدة طرق للتعاطي مع الأزمة، من بينها على سبيل المثال اللجوء لمفاوضات بين الطرفين، الأمر الذي قد لا يلقى قبولًا في الحالة الإسرائيلية اللبنانية لعدة أسباب، لعل أبرزها صعوبة دخول الطرفين في مفاوضات مباشرة؛ نظرًا إلى أنهما في حالة حرب ولا توجد علاقة دبلوماسية بينهما.

من ناحية أخرى، تلجأ بعض الأطراف للتحكيم الدولي كأحد أدوات حل النزاع، إلا أن هذا الخيار يحتاج إلى قبول الطرفين بهذا المبدأ، بجانب أن عدم توقيع إسرائيل على اتفاقية قانون البحار 1982 قد يضع قيدًا على هذا الخيار؛ إذ إن المرجع للتحكيم الدولي سيكون اتفاقية 1982 التي لا تعترف بها إسرائيل، وبالتالي لن تقبل بأية التزامات بشأنها. من هنا يمكننا فهم دخول الولايات المتحدة الأمريكية كوسيط بين الطرفين ومساعيها إلى حلحلة الأزمة. في ضوء ذلك يمكننا تحديد مسار الخلافات البحرية بين لبنان وإسرائيل في ضوء ما يلي:

أولًا) التصعيد دون المواجهة المباشرة، يفترض هذا المسار أن النزاع القائم لا يمكنه أن يتحول إلى مواجهة أو حرب مباشرة بين الطرفين، وذلك لعدد من العوامل من بينها: صعوبة تحمل تكلفة الحرب أو المواجهة؛ إذ لا ترغب إسرائيل ولا لبنان خوض تلك الحرب في الوقت الراهن في ظل التحديات التي تواجه الطرفين في الداخل. من ناحية أخرى، قد تضع الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها قيدًا إضافيَا على اندلاع المواجهة بين لبنان وإسرائيل؛ إذ إن المجتمع الدولي لن يسمح بها، خاصة في ظل حاجة الولايات المتحدة الأمريكية والغرب إلى استقرار منطقة شرق المتوسط بوصفها هدفًا استراتيجيًا يمكن التعويل عليه مستقبلًا في الحد في الاعتماد الكلي على الغاز الروسي، فالمنطقة وفقًا للتقديرات يمكن أن تعوض تلك الدول عن جزء من الغاز الروسي.

وعليه وفقًا لهذا المسار، فلا يرجح أن تتوسع المواجهة أو أن تنتقل إلى مربع الصراع المباشر أو المفتوح بين الطرفين، وأن اقصى ما يمكن أن يحدث هو الحرب الكلامية واستعراض القوة بين الجانبين عبر التلويح باستخدام القوة العسكرية دون اللجوء إليها، وذلك على غرار تصريحات “حسن نصر الله” بأن ” المقاومة لا تستطيع أن تقف مكتوفة الأيدي أمام نهب ثروات لبنان”، علاوة على تأكيده لامتلاك حزب الله من القدرات العسكرية والأمنية ما تؤهله إلى منع إسرائيل من التنقيب عن الغاز في حقل كاريش، الأمر الذي قوبل بلهجة مماثلة في القوة من قبل رئيس هيئة الأركان في الجيش الإسرائيلي والذي قال “سوف نقصف بشكل مدمر وواسع ومؤلم”.

والملاحِظ يجد أن التلويح باستخدام القوة العسكرية قد طغى على تصريحات وخطاب الأطراف أصحاب المصالح المتضاربة في شرق المتوسط؛ إذ هدد حزب الله أكثر من مرة باستخدام القوة، فخلال خطابه في الذكرى الخامسة لحرب لبنان الثانية، حذر الأمين العام لحزب الله “حسن نصر الله” في يوليو 2011 إسرائيل من التنقيب عن الغاز في المناطق محل الخلاف. وعلى خلفية ذلك، قام حزب الله بنشر تسجيل صوتي في فبراير 2018 هدد فيه بالحاق الضرر بمنصات الغاز الإسرائيلية في حال قيامها بالتنقيب عن الغاز، الأمر الذي تكرر في أكتوبر 2021، حيث أعلن “نصر الله” أنه في الوقت المناسب، ستتصرف المقاومة ضد أي اعتداء إسرائيلي على موارد لبنان البحرية، حتى في المنطقة المتنازع عليها. الأمر الذي يشير إلى إدراك كلا الطرفين لصعوبة الانتقال من التلويح باستخدام القوة لتوظيفها في النزاع؛ نظرًا إلى العقبات المحتملة والخسائر المتوقعة حال اللجوء إلى المواجهة المباشرة بين الطرفين.

ثانيًا) احتواء التوتر والسيطرة على التصعيد، يفترض هذا المسار النجاح في وضع حد للتصعيد واحتواء التوتر، ويمكن أن يتشكل هذا المسار في إطار اتجاهين: الأول، تسكين الصراع ولو مؤقتًا، بحيث تنجح جهود الوساطة الحالية في منع الاشتباك بين الطرفين، ويستند هذا الاتجاه إلى التجربة التاريخية بين الطرفين، فعلى الرغم من نشوب النزاع البحري بينهما وتفاقمه منذ نحو خمسة عشر عامًا إلا أن بلوغ حد المواجهة لم يحدث. من ناحية أخرى يُعيد هذا المشهد للأذهان التصعيد اليوناني التركي في أغسطس 2020 والذي كاد أن يصل إلى المواجهة المباشرة بسبب قيام تركيا بالتنقيب عن الغاز ومحاولة فرض أمر واقع في المياه الإقليمية لليونان، إلا أن الجهود الدولية نجحت في احتواء هذا الموقف، فالشاهد هنا أن الخلافات البحرية في شرق المتوسط يتم احتواؤها بشكل أو بآخر وحتى لو كان ذلك على حساب تسكين التوتر والصراع جزئيًا دون حله.

أما الاتجاه الثاني فالتسوية عبر الوساطة، يفترض هذا الاتجاه نجاح الوسيط الأمريكي “آموس هوكشتاين” في احتواء التصعيد واستعادة الزخم لجهود الوساطة والعودة للمفاوضات بين الطرفين مرة أخرى، ويعول هذا الاتجاه على إمكانية نجاح المفاوضات في وضع حد للخلاف البحري بين الطرفين، حيث يرى أنصار هذا التوجه أن الموقف اللبناني في الوقت الراهن يرمي إلى عقد نوع من المقايضة تدور حول التخلي عن مطالبتها بالخط 29 مقابل العودة للخط 23 مع الحصول على حقل قانا كاملًا، ما يعني أننا قد نكون أمام مقايضة يتخلى بموجبها لبنان عن مطالبها حقل كاريش مقابل الاعتراف الإسرائيلي بالخريطة التي أرسلها لبنان للأمم المتحدة عام 2011.

ويرى أصحاب هذا الموقف أن عدم تصديق لبنان على المرسوم الذي يقضي بضم الخط 29 للحدود البحرية اللبنانية، وعدم إيداعه في الأمم المتحدة، كان الهدف منه امتلاك ورقة مساومة في التفاوض مع إسرائيل، ويظهر رغبة لبنان في عدم الوصول إلى طريق مسدود في هذه القضية، ففي حال إذا ما قام لبنان بالتصديق على الخط 29 فإن ذلك كان سيعقد الأمر ويؤزمه أكثر مما هو عليه الآن، من هنا يرى البعض أن لبنان أراد أن يجعل الباب مفتوحًا أمام المفاوضات. 

ويظل هذا المسار مرهونًا بالحسابات الإسرائيلية، سواء بالقبول بهدف بدء التنقيب عن الغاز الطبيعي بعيدًا عن التوترات ومن ثم تحقيق مزيد من الاكتشافات، أو رفضها المقترح، واستمرار الوضع على ما هو عليه بين الشد والجذب والتأهب بين الطرفين.

في الأخير، تعد النزاعات البحرية في منطقة شرق المتوسط أحد أبرز التحديات التي تواجه دول المنطقة الرامية إلى تعزيز مكاسبها من الغاز الطبيعي، بجانب أن النزاع بين لبنان وإسرائيل له خصوصية في ظل حالة الحرب التي تسيطر على العلاقة بينهما. ورغم صعوبة الجزم بما قد تكون عليه التطورات في الفترات القادمة، إلا أن الاشتباك المسلح يظل مستبعدًا في ظل القيود المفروضة على هذا المسار. 

محمود قاسم

باحث ببرنامج قضايا الأمن والدفاع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى