تغير المناخ

هل يمكن التحول إلى الطيران الأخضر؟

أصبحت القضايا المتعلقة بالتغيرات المناخية والحفاظ على البيئة على قمة أولويات الأجندة الدولية حاليًا، خاصة بعد انتشار جائحة كورونا والتداعيات السلبية التي أثرت على العالم كله. وفي قمة جلاسكو للمناخ التي عقدت في نوفمبر 2021، تم مناقشة كافة القضايا التي تسبب التغيرات المناخية والتي على رأسها زيادة الانبعاثات الكربونية وغازات الاحتباس الحراري التي أسهمت بشكل كبير وملحوظ في: رفع درجة حرارة الأرض، وارتفاع مستوى سطح البحر، وذوبان الجليد، وتحمض المحيطات، ونوبات الحرارة، والجفاف، وحرائق الغابات، وغيرها من الظواهر المناخية التي أصبحت أكثر شدة وتواترًا على كافة المناطق.

ومن أهم هذه القضايا هي صناعة الطيران؛ وما تسببه هذه الصناعة وحدها من زيادة الانبعاثات الكربونية وتغيير في تركيزات بعض العناصر في الغلاف الجوي؛ إذ تشير أحدث الدراسات إلى أن صناعة الطيران تسهم بنسبة 3% من إجمالي الانبعاثات الكربونية حول العالم، وتشير توقعات الأمم المتحدة أن تزداد هذه الانبعاثات لثلاثة أضعاف بحلول عام 2050.

تأثيرات معقدة

تسبب انبعاثات قطاع الطيران من استخدام الوقود الأحفوري “الكيروسين” قلقًا متزايدًا للحكومات وصناع السياسات والمسافرين نفسهم؛ فخلال عام 2019 وقبل انتشار الجائحة تم نقل 4,5 مليار راكب، مصدرة 900 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون، وبلغت الانبعاثات من قطاع الركاب والشحن 950 مليون طن، ومن المرتقب أن يتضاعف عدد الركاب بحلول 2050، مما سيؤدي إلى تضاعف كمية الانبعاثات إذا استمر الأمر على هذا المنوال.

بينت دراسة أعدها المجلس الدولي للنقل النظيف “ICCT” أن الرحلات بين آسيا والمحيط الهادئ والشرق الأوسط عام 2019 أسهمت بـ34.5 طن متري من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، أما الرحلات بين أوروبا والشرق الأوسط فكانت حصتها 27.2 طنًا متريًا، في حين كانت انبعاثات الرحلات بين الشرق الأوسط وأمريكا الشمالية 9.94 طنًا متريًا، والرحلات بين دول الشرق الأوسط 18 طنًا متريًا.

وفي عام 2020، أعلن مركز “The Airport Tracker” زيادة إجمالي الانبعاثات الصادرة عن 5 مطارات (لندن هيثرو – باريس شارل ديجول – فرانكفورت – أمستردام – مدريد باراخاس) والتي تبلغ 53 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون عن انبعاثات دولة السويد في عام 2020 والتي بلغت حوالي 45.4 مليون طن متري من ثاني أكسيد الكربون، الأمر الذي ينذر بخطورة سرعة وزيادة الانبعاثات الكربونية من قطاع الطيران، حتى أن الباحثين يعتقدون أنه إذا عددنا قطاع الطيران بلدًا مستقلًا فإنه يحتل المركز السابع عالميًا من حيث إجمالي الانبعاثات.

ويتخطى تأثير قطاع الطيران على التغير المناخي زيادة الانبعاثات الكربونية، ويتسم بالمزيد من التعقيد؛ فبالإضافة إلى انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من احتراق الوقود، يحدث تغيير في تركيز الغازات والملوثات الأخرى، مثل: بخار الماء، وأكاسيد النيتروجين، وأول أكسيد الكربون، والسخام، وتؤدي إلى تدني نسبة غاز الميثان. وتسهم أكاسيد النيتروجين المنبعثة من الطائرات في ظاهرة الاحتباس الحراري، وهي مادة ملوثة في الغلاف الجوي السفلي وتدمر طبقة الأوزون “الستراتوسفير” في الارتفاعات العالية. وهي تشكل خطرًا أكبر؛ لأنها تؤدي إلى سلسلة من التفاعلات الكيميائية وبعض من تأثيرات الغلاف الجوي التي تغطي مناطق أوسع.

حلول ممكنة 

على الرغم من أهمية صناعة الطيران للاقتصاد والسياحة وحركة الأفراد، إلا أنها تعد واحدة من أسرع مصادر غازات الكربون نموًا في الغلاف الجوي، ولكن أهمية الصناعة تأتي مع آثار سلبية والتي تستمر في التأثير على المناخ. ومع نمو الصناعة بشكل هائل وعدم وجود بديل للكيروسين كوقود، يجب التكاتف لإيجاد حلول بديلة لخفض الانبعاثات والتحول نحو وسائل خضراء أكثر استدامة، وربما يعمل التقدم التكنولوجي الهائل والتقنيات الحديثة مثل الهيدروجين وخلايا الوقود والبطاريات في المساعدة على خفض الانبعاثات في القطاع، فضلًا عن تطور صناعة الطائرات لتصبح أكثر كفاءة.

الالتزامات الدولية وخطط التحول 

أعلن الاتحاد الدولي للنقل الجوي تعهد صناعة الطيران بالوصول إلى الحياد الكربوني بحلول عام 2050 مقارنة بعام 2005، بالإضافة إلي إعلان بعض شركات الطيران خاصة في البلدان الأوروبية تعهدها بخفض الكربون في رحلات الطيران وزيادة كفاءة الوقود المستخدم،
فأعلنت الخطوط الجوية الإسكندنافية أنها ستخفض الانبعاثات بنسبة 25% بحلول عام 2030، وتهدف إلى تشغيل رحلات داخلية تعمل بالوقود الحيوي.

ومجموعة الخطوط الجوية الدولية، التي تملك شركة الطيران البريطانية وشركة إيبيريا الإسبانية، تعهدت باستثمار 400 مليون دولار على تطوير أنواع وقود بديلة على مدى 20 عامًا، فيما أعلنت شركة يونايتد إيرلاينز أنها ستنفق ما يصل إلى 2 مليار دولار سنويًا على طائرة ذات فاعلية في استخدام الوقود وتعمل مع شركات إنتاج الوقود الحيوي.

وتهدف صناعة الطيران كذلك إلى خفض انبعاثات الكربون عن طريق تحسين كفاءة الوقود؛ إذ بلغ متوسط التحسُّن في كفاءة الوقود 1.5% سنويًا من 2009 إلى 2020، وفقًا لما ذكره الاتحاد الدولي للنقل الجوي.

خطة التعويض عن الكربون وخفضه في مجال الطيران الدولي (خطة كورسيا)

أعلنت منظمة الطيران المدني الدولي (الإيكاو) -إحدى الوكالات المتخصِّصة التابعة للأمم المتحدة- عن خطة التعويض عن الكربون وخفضه في مجال الطيران الدولي، والتي شاركت بها ما يزيد على 104 دولة لتحقيق التعاون فيما بينها وبين المؤسسات والجهات المعنية لتحقيق نمو لقطاع الطيران بشكل آمن ومستدام، فضلًا عن تحقيق السلامة الجوية.

وتهدف الخطة إلى تثبيت انبعاثات ثاني أكسيد الكربون عند مستويات 2020 ومطالبة شركات الطيران بتعويض نمو انبعاثاتها بعد عام 2020. وخلال الفترة 2021-2035، وبناءً على المشاركة المتوقعة، يُقدر أن الخطة تعوض حوالي 80% من الانبعاثات فوق مستويات 2020، وذلك لأن المشاركة في المراحل الأولى طوعية للدول.

وتُعد خطة كورسيا عنصرًا مهمًا يُكمل سلسة التدابير التي تروّج لها الإيكاو للحد من آثار الطيران على المناخ. وتشمل التدابير الأخرى المتخذة الابتكارات التكنولوجية والتحسينات التشغيلية والاستعانة بأنواع الوقود المستدامة

الوقود البديل 

واحدة من أكثر الطرق فاعلية في تقليل كمية الانبعاثات الكربونية في قطاع الطيران هي استبدال الوقود الاحفوري “الكيروسين” -المستخدم على نطاق واسع في الطائرات وهو المسبب الرئيس للانبعاثات- بوقود أقل ضررًا وأكثر استدامة يمكن صنعه من مصادر نظيفة ومتجددة مثل النباتات أو الطحالب أو الوقود الحيوي. ومن الناحية النظرية، يمكن أن يسهم الوقود المستدام في خفض انبعاثات الطيران بنحو 65% إلى 80%؛ وفقا للدراسات المعلنة في المنتدى الاقتصادي واعتمادًا على كيفية صنعه.

وتعتزم المفوضية الأوروبية إلزام شركات الطيران بتخصيص 2% من الوقود المستخدم في الرحلات الجوية لأنواع “وقود الطيران المستدام” في 2025، ترتفع لـ 5% في 2030، وحتى 63% في 2050. وتتوقع “بوينج” و”إيرباص” أن يصبح في مقدور طائراتها العمل بالكامل بهذا النوع من الوقود في نهاية هذا العقد.

ولكن هذا الوقود البديل لا يسلم من التحديات وخاصة تلك المتعلقة بالتكاليف، أو إثبات الكفاءة الكاملة، أو مخاوف تتعلق بإمكانية تشغيل الطائرات بوقود مستدام خالص، بدلًا من عمليات مزجه مع الكيروسين؛ إذ إن المحركات مصممة للوقود الأحفوري وخصائصه. وربما ما يعرف باسم الكيروسين الاصطناعي أو الكيروسين الأخضر، الذي يُنتج عن طريق الجمع بين ثاني أكسيد الكربون والهيدروجين لينتج سائل من الهيدروكربون مثل “الايثانول”، حل مثير للاهتمام، ولكنّ يبقي تحدي التكلفة المرتفعة عائقًا أمام التنفيذ. وتجدر الإشارة إلى أن تكلفة وقود الطائرات المستدام تفوق تكلفة الكيروسين بـ 3 أو 4 أضعاف، في حين تصل تكلفة الوقود الهيدروجيني إلى 6 أو 7 أضعاف تكلفة الكيروسين.

طائرات الهيدروجين 

يُعد الهيدروجين أحد البدائل الخضراء الأخرى لوقود الطائرات المستخدم حاليًا، ويقدر المجلس الدولي للنقل النظيف أن طائرات الهيدروجين يمكن أن تغطي نحو ثلث طلب طيران الركاب إذا تطورت التقنيات اللازمة، ويمكنها تقليل مكافئ ثاني أكسيد الكربون بنسبة من 6 إلى 12٪ في عام 2050.

 لكن لا بد من ألا نغفل أن وقود الهيدروجين باهظ الثمن، ويطرح تحديات أكثر فيما يخص طرق تخزينه على متن الطائرة؛ إذ سيستغرق الأمر سنوات من أجل تطوير الطائرات وإنشاء بنية تحتية مثل قدرة التزويد بالوقود في المطارات. فالتحول نحو الهيدروجين يقتضي التفكير في أربعة مكونات رئيسة (نظام تخزين لتخزين الهيدروجين السائل بأمان – خلايا وقود لتحويل الهيدروجين إلى كهرباء – جهاز للتحكم في قوة الخلايا – محرك لتشغيل المروحة). ومن أجل صنع طائرات تجارية كاملة، يجب تطوير كل هذه المكونات الأربعة بشكل جيد.

في أول رحلة لطائرة تعمل بالهيدروجين في أواخر صيف 2020، من مطار كرانفيلد في المملكة المتحدة، أقلعت الطائرة “بايبر إم كلاس” التي تضم ستة مقاعد، بالأجزاء والأنظمة اللازمة لتعمل بالهيدروجين بسهولة ودون معوقات. الأمر الذي أعطي أملًا ان يصبح الهيدروجين وقود المستقبل للطائرات.

والمثير للاهتمام أن شركة “إيرباص” الأوروبية تخطط لصناعة أول طائرة تجارية تعمل بالهيدروجين في العالم بحلول عام 2035، تماشيًا مع التوقعات المستقبلية التي تشير إلى أنه من الممكن أن تعمل الطائرات بالاعتماد الكامل على الهيدروجين أو البطاريات؛ إذ يأمل العلماء أن يتم اعتماد طائرات الهيدروجين في الرحلات القصيرة على الأقل، فقد يكون من الصعب حمل ما يكفي من الهيدروجين على متن الطائرة وذلك بسبب طريقة تخزينه على شكل سائل شديد البرودة، لذا فإن الطائرات التي تعمل بالوقود الهيدروجيني قد تقتصر على رحلات لمسافات قصيرة أو متوسطة المدى ​​وليست طويلة المدى.

ونشرت الشركة ثلاثة نماذج مختلفة؛ بهدف التوصل إلى إنتاج طائرة “صديقة للبيئة” بشكل كامل، جميعها تعمل على الهيدروجين كمصدر وحيد لطاقة المحرك. وسُمّيت النماذج الثلاثة “توربوفان” و”توربوبروب” “وبلندد وينغ بادي”، وهذه الطائرات تختلف من حيث الشكل وكذلك من حيث قدرة الاستيعاب وعدد الركاب ومسافة السفر من دون التزوّد بالهيدروجين.

الواقع يظهر أن هناك اتجاهًا متسارعًا لتقليص كل مصادر الانبعاثات الضارة تحقيقًا لأهداف المناخ التي باتت مشكلة حقيقية لا يملك العالم رفاهية تجاهلها، وهو ما قد يغير الكثير من المسلمات الحالية وعلى رأسها طريقة عمل قطاع الطيران التجاري، فأمام قطاع الطيران فرصة هائلة لخفض الانبعاثات وإيجاد حلول مناسبة خاصة مع دعم الدول للتقنيات الجديدة لمصادر الطاقة النظيفة والتحول نحو الاقتصاد منخفض الكربون. 

المصادر:

https://www.icao.int/environmental-protection/CORSIA/Pages/default.aspx

https://ec.europa.eu/research-and-innovation/en/horizon-magazine/quiet-and-green-why-hydrogen-planes-could-be-future-aviation

أمل اسماعيل

باحثة ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى