
“الجمهورية الجديدة”.. تغير القيادة السياسية وأثره في استعادة المكانة والدور الخارجي لمصر
لا شك أن تغير القيادة ورأس السلطة في الدول يؤثر بشكل كبير على توجهات وأنماط السياسة الخارجية، إذ إن القيادة الجديدة دائمًا ما تحمل رؤى وتصورات تتحدد من خلالها السياسة الخارجية للدولة، ومن هنا تدخل القيادة السياسية ضمن العناصر المؤثرة في صياغة السياسات الخارجية. وفيما يرتبط بالحالة المصرية، فقد تشكلت رؤية القيادة السياسية اعتمادًا على عدد من العوامل والمتغيرات التي أسهمت في وضع الأطر العامة والمنهجية التي يمكن أن تشكل مجمل التحركات الخارجية.
تغير القيادة.. الملمح الأبرز
منذ نحو ثماني سنوات تشكلت النواة الأولى للجمهورية الجديدة وذلك بتولي الرئيس عبد الفتاح السيسي مقاليد الأمور (يونيو 2014)، وقد مثل تغير القيادة السياسية تحولًا كبيرًا انعكست أصداؤه فيما بعد في مختلف المجالات وعلى كافة الأصعدة، وما يهمنا هنا الوقوف على أثر تغير القيادة وانعكاساته المباشرة على السياسة الخارجية المصرية طيلة السنوات الماضية.
وقبل التعرض للسمات الحاكمة للسياسة الخارجية، لابد من الإشارة إلى عدد من الملامح المؤثرة في صناعة السياسة الخارجية من منظور تغير القيادة من بينها:
- نمط القيادة الجماهيرية، أسهمت الشعبية الجارفة والتأييد الواسع الذي تمتع به الرئيس السيسي منذ البداية وحيازة ثقة الجماهير في إضفاء شرعية شعبية ومجتمعية على مجمل تحركاته بشكل عام وفي القلب منها السياسة الخارجية، ومن هنا أصبح أي تحرك مدعومًا باصطفاف شعبي يمنح متخذ القرار وصانع السياسة الخارجية دفعة قوية استنادًا إلى الظهير الشعبي المتماسك، وقد مهدت الثقة المتبادلة بين القيادة السياسية والشعب في دفع الأول إلى تبني سياسة خارجية أسهمت في إعادة تعريف دور مصر على المستويين الإقليمي والدولي.
- السمات الشخصية، لا شك أن المكون الشخصي والفكري والسمات الذاتية للسيسي كرجل دولة من خلفية عسكرية واستخباراتية قد انعكس بشكل واضح على سياسته الخارجية، وقد ظهر ذلك في توجهاته الدائمة نحو بناء الدولة الوطنية في الإقليم، وتحركاته بشأن ضرورة وقف الصراعات المسلحة والحيلولة دون تجددها، فضلًا عن أن انعكاس الصفات الشخصية والعملية يمكن ملاحظتها في تبني سياسة خارجية متزنة تتحلى بالصبر الاستراتيجي وتقوم على الانضباط في ردود الأفعال.
استعادة الدور.. الأدوات وحدود التأثير
ثمة خصائص يمكن من خلالها التعرف على ملامح السياسة الخارجية المصرية خلال الثماني سنوات الماضية والتي انتهت باستعادة مصر لدورها الفاعل والمؤثر في عدد من الساحات وحول مجموعة من القضايا المختلفة، ومن هنا يمكننا الوقوف على عدة عوامل أسهمت في تبني سياسة خارجية نشطة انتهت في نهاية الأمر باستعادة المكانة والدور.
- أولًا: الداخل رقم ثابت في معادلة الخارج، لا شك أن أحد أسباب فاعلية السياسة الخارجية المصرية خلال الجمهورية الجديدة أنها انطلقت من بناء الداخل، حيث لعب المحدد الداخلي دورًا محوريًا في تفعيل دور مصر الخارجي؛ إذ إن التماسك المجتمعي والاصطفاف وراء القيادة السياسية، والالتفاف وراء الدولة ومؤسساتها؛ قد أسهم في تبني سياسة خارجية قوية، بجانب أن تماسك الجبهة الداخلية حال دون أن تتأثر مصر ببعض المواقف الدولية والإقليمية التي اتخذت موقفًا معاديًا أو مناهضًا للنظام السياسي المصري في أعقاب ثورة 30 يونيو، ومن هنا يمكنا الإشارة لطبيعة العلاقة الترابطية بين قوة الداخل وتماسكه وفاعلية التحركات الخارجية والمكتسبات التي تحققت فيما بعد.
- ثانيًا: امتلاك أدوات الردع، ارتكزت فلسفة الجمهورية الجديدة في استعادة مكانتها ودورها الخارجي على امتلاك أدوات الردع وبناء وتحديث المنظومة العسكرية، انطلاقًا من قاعدة أن الجيش هو حائط الصد الأول والحصن المنيع ضد أية تهديدات أو مخاطر، ومن هنا جاءت الطفرة الملحوظة في مستوى ونوعية التسليح، بالإضافة إلى تنويع مصادر السلاح والانفتاح على عدد من القوى، فضلًا عن تحديث البنية العسكرية عبر تطوير عدد من القواعد العسكرية أو استحداث قواعد أخرى، وكذا العمل المستمر على رفع الكفاءة القتالية لأفراد القوات المسلحة عبر التوسع في عقد تدريبات ومناورات عسكرية في عدد من الساحات، وصولًا إلى دعم عملية توطين الصناعات الدفاعية والعسكرية. وقد تسببت عملية التحديث والتطوير المستمر للمنظومة العسكرية في فرض مصر لرؤيتها بما يحافظ على مصالحها العليا، ولا يغيب عنا موقف مصر من الأزمة الليبية وكيف استطاعت رسم خطوط حمراء لردع أية تجاوزات يمكن أن تؤثر على أمنها القومي.
- ثالثًا: دعم وترسيخ الدولة الوطنية، أسهمت أحداث 2011 في خلق بيئة أمنية وإقليمية مضطربة ومربكة، وكان أبرز شواهدها ارتفاع مستوى التهديدات الأمنية وبروز عدد من التحديات كالإرهاب وتنامي دور الفواعل من غير الدول، وصعود النموذج الميليشياوي، وانهيار مؤسسات الدولة في عدد من المناطق –سوريا وليبيا واليمن- وهو ما تسبب في حالة من الهشاشة المؤسساتية في هذه الساحات. وسط هذه التحولات كان التوجه المصري الخارجي متسق بشكل واضح ومحدد؛ إذ قامت سياستها الخارجية على دعم الدولة الوطنية والعمل على وقف التدخلات الخارجية في شؤون الدول، واحترام السيادة الإقليمية للدول، وكان مبدأ انهاء الصراعات المسلحة ومنع تجددها ضمن مرتكزات الحركة المصرية؟ وقد نجحت في بلورة ذلك بشكل كبير في عدد من الساحات.
- رابعًا: مقاربة شاملة لمكافحة الإرهاب، حازت قضية مكافحة الإرهاب والعمل على تطويق الظاهرة الإرهابية وتحجيمها على اهتمام القيادة السياسية، وأصبحت ضمن أولويات السياسة الخارجية المصرية، خاصة وأن مصر لديها خبرة كبيرة في التعامل مع تلك الظاهرة. وعليه، تبنت القيادة السياسية خلال الجمهورية الجديدة مقاربة ورؤية شاملة لمكافحة الإرهاب، تميزت تلك الرؤية بعدم اختزال مفهوم المواجهة وضرورة تنويع أدواتها على الصعيد العسكري، والفكري، والتنموي والايديولوجي. ناهيك عن تبني مصر لمقاربة أوسع لا تُقصر المواجهة على فصيل دون غيره أو ساحة دون الأخرى، وقد عبرت مصر عن تلك الرؤية خلال خطاب الرئيس السيسي في قمة الرياض 2017. من ناحية أخرى ترأست مصر لجنة مكافحة الإرهاب بمجلس الأمن خلال عام 2016، فضلَا عن جهودها في تأسيس المركز الإقليمي لمكافحة الإرهاب لدول الساحل والصحراء 2018. وعليه كانت مكافحة الإرهاب ومحاولة وضع استراتيجية محددة للقضاء عليه ضمن أولويات القيادة السياسية ما انعكس على دور مصر المحوري والنشط في هذا الاتجاه.
- خامسًا: استحداث دوائر حركة جديدة، شهدت الجمهورية الجديدة استحداث دائرة جديدة لسياستها الخارجية تمثلت بشكل أساسي في الدائرة المتوسطية، فلا يمكن الفصل بين وضع مصر الحالي في منطقة شرق المتوسط وقدرتها على تغيير قواعد اللعبة عن رؤية وتوجه القيادة السياسية، فالتحالف الثلاثي بين مصر وقبرص واليونان وتدشين إعلان القاهرة من خلال القمة الثلاثية الأولى جاء بعد أشهر من التغير الذي طرأ على السلطة تحديدًا في نوفمبر 2014. وعليه، تعد تحركات مصر في المتوسط وقيادتها للتفاعلات في المنطقة عبر استضافتها لمنتدى غاز شرق المتوسط وضبط الصيغ التعاونية بين القوى الفاعلة في المنطقة أحد تجليات التغير في نمط القيادة السياسية. وقد أسهم تحرك مصر شرق المتوسط في تحول مصر إلى رقم فاعل على مختلف الأصعدة وفي مقدمتها تحولها إلى مركز إقليمي للطاقة.
- سادسًا: العودة إلى الدائرة الافريقية، يُنظر إلى عودة الروابط المصرية الأفريقية لما كانت عليه في الماضي بوصفها واحدة من التحولات الكبرى التي أحدثتها السياسة الخارجية المصرية خلال السنوات الثماني الفائتة، ففي أعقاب ثورة 30 يونيو تم تجميد عضوية مصر في الاتحاد الافريقي، وبفضل الدبلوماسية النشطة والتحركات الفاعلة بعد 2014 نجحت مصر في استعادة دورها في القاره، وقد كانت رئاسة مصر للاتحاد الافريقي عام 2019 دليلًا واضحًا على حدود ومستوى التحول الذي طرأ على العلاقة بين مصر ودول القارة، بعد فترات من الغياب وتراجع الدور ما منح الفرصة لعدد من القوى الإقليمية والدولية لملء الفراغ نتيجة التراجع غير المبرر لمصر وابتعادها عن القارة الافريقية.
وقد أسهم تغير القيادة السياسية في إعادة النظر وتقييم العلاقات المصرية الافريقية بشكل مغاير، انطلاقًا من فرضية أن التواجد الفاعل فيها يضمن لمصر الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية ويُعيد لها الزخم بعد فترات من التراجع. وقد بدا ذلك واضحًا من خلال تحركات الرئيس “السيسي” الخارجية؛ فخلال العام الأولى لحكمه على سبيل المثال أجرى الرئيس نحو سبع زيارات للدول الأفريقية، وقد تم تكثيف تلك التحركات فيما بعد، بعد انقطاع دام لسنوات، يكفي أن نُشير إلى أن زيارة الرئيس السيسي للعاصمة الكينية “نيروبي” عام 2017 كانت الأولى منذ نحو 33 عام، بعد زيارة الرئيس الأسبق مبارك عام 1984، الأمر ذاته ينطبق على زيارته لجيبوتي (مايو 2021)، كأول رئيس مصر يزورها.
ويمكن كذلك ملاحظة تكثيف التحركات تجاه دول أفريقيا على غرار اتفاقيات التعاون العسكري والدفاعي التي تم توقيعها مع كل من السودان، وأوغندا، وبوروندي وكينيا. وعليه تُظهر تلك الملامح حدود وحجم التحول الذي أحدثته القيادة السياسية في مستوى وطبيعة العلاقة بين مصر والدائرة الأفريقية والتي أسهمت في استعادة الروح الافريقية وكذا الريادة والتأثير للدولة المصرية.
- سابعًا: تفعيل الدور العربي، لم يكن خطاب الرئيس السيسي في عدد من المناسبات وتأكيده الدائم فيما يرتبط بكون الأمن القومي العربي جزءًا لا يتجزأ من الأمن القومي المصري سوى رغبة في تفعيل الدور العربي. وقد كانت دعوة الرئيس خلال القمة العربية (مارس 2015) بشأن تدشين قوة عربية مشتركة لمجابهة التحديات ترجمه حقيقية لتلك الرغبة والرؤية. ويمكننا ملاحظة الجهود المصرية المتواصلة في التنسيق والتعاون بين القوى العربية، ويعد تعد آلية التعاون الثلاثي بين مصر والأردن والعراق وما يسعى إليه هذا التكتل ورغبة أعضائه في تعزيز التنسيق بينهما وتبني مواقف متقاربة ضمن مظاهر التحرك المصري تجاه تفعيل الدور العربي.
- القضية الفلسطينية وانتزاع الصدارة، أكدت الحرب الإسرائيلية الأخيرة في غزة، على الدور المصري التاريخي تجاه القضية الفلسطينية؛ إذ تمكنت مصر عبر تحركاتها الإيجابية الحثيثة طيلة فترة الأزمة من انتزاع الصدارة قبل الأطراف الإقليمية والدولية، والتأكيد على دورها المحوري الذي لا ينافسه فيها أحد. فجاءت جهود مصر في إقناع الطرفين بضرورة وقف إطلاق النار، وما أعقبه من مبادرة رئاسية عاجلة تستهدف إعادة اعمار غزة لتعبر عن حدود الدور المصري غير التقليدي في تسوية وتهدئة التوترات والصراعات في المنطقة، خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وهو الدور الذي أقرت القوى الدولية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد أدى هذا الدور إلى إيجاد بُعد جديد لمصر في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي يتشابك مع أبعاد أخرى سواء دبلوماسية وأمنية، فيخلق منظومة تحرك ذات اقترابات متعددة، مما نتج عنه أمرين: أولهما، انتهاج مصر لمقاربات شاملة في معالجة الصراعات أو الملفات الشائكة. وثانيهما، تعزيز منظومة الاتصال السياسي لمصر مع المجتمع الدولي، بما يسهم في تفعيل وتنشيط السياسة الخارجية المصرية وأدواتها المختلفة.
وختامًا، أسهم التغير في القيادة السياسية في إضفاء مزيد من الحيوية والفاعلية على السياسة الخارجية المصرية، ما أدى إلى تغيير قواعد اللعبة وحدود التأثير خاصة في السنوات التي أعقبت يونيو 2014، وصولًا إلى الوضع الراهن الذي أصبحت فيه مصر رقمًا ثابتًا ومؤثرًا في مجمل التفاعلات، وهو الدور الذي يليق بالجمهورية الجديدة الرامية إلى توظيف قدرات مصر وما تتمتع به من نفوذ على كافة المستويات الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية لإعادة تعريق دورها على الصعيدين الإقليمي والدولي.
باحث ببرنامج قضايا الأمن والدفاع



