ظل أوكرانيا: لماذا “لا” يعني تراجع أولوية الملف السوري لموسكو مكسبًا حقيقيًا لإيران؟
تأتي التطورات السياسية على المستوى الدولي خلال الآونة الأخيرة لترفع من مستوى توقعات عودة إيران لتكثيف تحركاتها مرة أخرى على مستوى إقليم الشرق الأوسط خلال الفترة المقبلة. حيث يُرجّح أن ينتج عن الاتفاق النووي المحتمل، الجارية محادثاتُه في العاصمة فيينا منذ أبريل 2021، حصول إيران على سيولة مالية كبيرة سوف يستغلها الحرس الثوري في تعزيز إمكاناته العسكرية، وتوسيع قواعد تحركاته في المنطقة. وليس هذا فقط، بل إن الحرب الروسية الأوكرانية تصب بشكل غير مباشر في صالح السياسة الداخلية والخارجية للنظام في طهران.
فقد وظّف النظام الإيراني أبعاد هذه الحرب وطبيعة رد الفعل الغربي، خاصة في بداية الحرب، ليعزز من أطروحاته النظرية فيما يتعلق بالعلاقات مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية.
أما خارجيًا، فلم تتضرر علاقات إيران السياسية على المستوى الدولي بشكل ملحوظ؛ حيث لم تتخذ إيران خطواتٍ عسكرية، في سبيل التحالف مع روسيا ضد أوكرانيا، تُغضب الدول الداعمة لكييف. حتى أن المجموعات السورية التي أعلنت استعدادها للذهاب إلى أوكرانيا للقتال إلى جانب موسكو كانت بدعم من حكومة الرئيس السوري بشار الأسد بالأساس وفي إطار تقديم موسكو الدعم مسبقًا لدمشق.
وفي السياق نفسه، على الرغم من أن إطالة أمد انشغال الحليف الروسي في أوكرانيا قد يلقي بظلاله سياسيًا على إيران فيما يخص توازنات علاقاتها الخارجية بوجه عام، إلا أن هذا الانشغال يبدو أنه يعزز من آمال إيران في عودة الانتشار الواسع داخل سوريا مثلما كان عليه في وقت ما، أو أنه قد يدفعها إلى تحقيق ما كانت تطمح إليه في سوريا بعدما تم إلحاق هزائم كبرى بالتنظيمات الإرهابية.
فضلًا عن أن إعادة إحياء هذه الآمال يأتي بعد سنوات من الخلافات بين موسكو وطهران بشأن حجم نفوذ ووجود الدولتين ليس فقط على المستوى العسكري أو السياسي بل والاقتصادي أيضًا ضمن التخطيط لإعادة إعمار سوريا.
ولكن ومن ناحية أخرى، لا تقتصر نتائجُ ما قد يبدو انسحابًا نسبيًا روسيًا من سوريا، أو على الأقل إعادة تموضع هناك، على توجه طهران لملء هذا الفراغ الناشئ ، لأن أبعاد الحضور الروسي في سوريا من حيث حفظ استقرار الدولة نفسها في إطار المواجهة مع مختلف التنظيمات، يختلف بصورة كبيرة عن طبيعة الانخراط الإيراني.
كيف يؤثر انخراط روسيا في الحرب الأوكرانية على ديناميكية الانتشار الإيراني في سوريا؟
تعطي الحربُ الروسية الأوكرانية لإيران فرصة لم يسبق لها مثيلٌ منذ أعوام من أجل استعادة الانتشار المكثَّف مرة أخرى على الأراضي السورية. فبعد الإعلان عن هزيمة تنظيم “داعش” الإرهابي في سوريا عام 2019، بل وحتى قبل ذلك بقليل، شرعت القوات الموالية لإيران في الانسحاب من بعض المواقع لصالح القوات الروسية.
وبدأ الحديث بالتزامن مع ذلك عن إعادة إعمار الأراضي السورية، وهو ما يعني بالتالي تحجيم تحركات وسيطرة الجماعات الموالية لإيران لصالح خطط إعادة الإعمار. بجانب أن موسكو وطهران كذلك كانتا تعلمان جيدًاأنه لولا عمليات القوات الجوية الروسية في سوريا لتغير مصير الحرب في سوريا خلال الأعوام الماضية إلى غير ما هو عليه الآن، ما عزز من نفوذ روسيا في سوريا وأدى إلى انكماش ملحوظ في الانتشار الإيراني، العسكري على الأقل.
بل إن النزاع الإيراني مع إسرائيل وضربات الأخيرة الجوية المتكررة ضد مواقع تابعة لإيران في سوريا قد أسهم كذلك في تراجع نفوذ الإيرانيين داخل سوريا خلال الفترة الماضية.
وفرضت موسكو خلال السنوات الماضية حضورها داخل سوريا، واضطرت إيران في المقابل إلى اتخاذ بعض الخطوات التي أسهمت في تقليل حضورها نسبيًا هناك. فعلى سبيل المثال، أجبرت الفرقةُ الرابعة السورية، الموالية لروسيا، الميليشيات المسلحة التابعة لإيران على الانسحاب من جنوب سوريا ودمشق. وكذلك، لم يكن تغيير إيران لقائد قوة فيلق القدس التابع للحرس الثوري في سوريا، جواد غفاري (المعروف باسم العميد أحمد مدني)، أواخر العام 2021 إلا بضغوط من روسيا بالأساس؛ لتفاقم أزماته مع الحكومة السورية وكبار المسؤولين الأمنيين في دمشق.
أما مع مطلع العام 2022 وانخراط روسيا بشكل واضح في الأزمة الأوكرانية، فقد بدا أن بديل ملء الفراغ، الذي يبدو حتى الآن أنه نسبي، سيكون إيرانيًا. و حسبما تقول تقارير دولية، فإن القوات الروسية تعمل منذ الأسابيع التي أعقبت اندلاع الحرب مع أوكرانيا على تقليل عدد جنودها في بعض المناطق السورية. ويقوم الحرس الثوري والجماعات المسلحة التابعة له بتعزيز وجودهم في تلك المواقع، والتي من بينها مدينة حمص غربي سوريا.
وعلاوة على ذلك، تفيد هذه المصادر بأن الروس يسحبون قواتهم إلى مطار تدمر العسكري في المدينة، علاوة على سيطرة الحرس الثوري و”حزب الله” اللبناني والفرقة الرابعة السورية التي يقودها شقيق الرئيس السوري ماهر الأسد على مستودع “مهين” العسكري شرق حمص بعد “انسحاب كامل” القوات الروسية من هذا الموقع إلى جانب عناصر من الفيلق الخامس الموالي لروسيا.
وسارعت إيران كذلك خلال الأسابيع التي تلت انطلاق الحرب الروسية الأوكرانية إلى تكثيف نقل الأسلحة والمعدات العسكرية والعناصر الاستخباراتية التابعة لها من العراق إلى سوريا ولبنان. وشملت هذه المعداتُ طائرات من دون طيار (درونز) وأنظمة دفاع صاروخي. وذهبت بعض هذه المعدات إلى القوات الإيرانية المتمركزة بشكل رئيس في شرق شمال ووسط سوريا. ومن الجدير الإشارة إلى أن هذه المناطق السورية الحدودية مع العراق تستحوذ على أهمية كبرى ومكانة حيوية للغاية لدى إيران.
أما روسيا من جانبها فإنها تعمل على إعادة تمركز بعض قواتها داخل سوريا خلال الأيام الجارية في أماكن أخرى بالتزامن مع إجراء الوكلاء الإيرانيين والحرس الثوري لتغييرات في مواقعهم الجغرافية. ولكن الأكثر خطورة في سياق تلك التطورات هي تقليل القوات الروسية لطلعاتها الجوية في السماء السورية، وهو ما سنعرج عليه لاحقاً.
وقد تهدف بعض هذه التحركات الروسية إلى حشد موسكو لعدد من القوات التابعة لها في سوريا من أجل نقلهم إلى ميدان المعركة في أوكرانيا، خاصة وأن هذه القوات باتت تتمتع الآن بخبرة ميدانية كبيرة تلقتها خلال سنوات الحرب في سوريا.
لماذا لا يُعد تراجع أولوية الملف السوري لموسكو فرصة حقيقية لإيران؟
نظرًا لطبيعة الدور العسكري الروسي في سوريا منذ سبتمبر 2015، باتت موسكو الضامن الرئيس للأمن في الأراضي السورية. وحظي هذا الأمر بتوافق بعض القوى الإقليمية والدولية أيضًا. وفي الواقع، لعب الروس الدور الحاسم عسكريًا خلال ذروة الحرب في سوريا؛ إذ إن تفوقهم جويًا قد حسم المعارك في النهاية لصالح حكومة الرئيس السوري الأسد ضد الجماعات المناوئة الأخرى.
وإلى جانب هذا، ركز الإيرانيون بالأساس على القتال في سوريا عن طريق تشكيل جماعات مسلحة شيعية وإرسالهم إلى هناك، فيما يُعرف باسم الوكلاء. هذا علاوة على “حزب الله” اللبناني الذي تشكل مطلع ثمانينيات القرن الماضي.
ودفعت إيران بجماعات مثل “لواء فاطميون” الأفغاني و”لواء زينبيون” الباكستاني و”حزب الله” و”حركة النجباء” العراقيين وغيرهم إلى الحرب في بداية الأزمة السورية. ويعني هذا أن الدور الإيراني اقتصر فقط على الدعم البري، الذي لم يكن على أي حال ليحسم الحرب في سوريا من دون مشاركة القوات الجوية الروسية. بل إن بعض قادة هذه الجماعات الإيرانية قد قُتلوا في سوريا في وقت مبكر نسبيًا في الحرب مثل قائد “لواء فاطميون” الأفغاني علي رضا توسلي المعروف بـ”ابو حامد”.
لذا، فإنه وبقدر تراجع أو غياب الدور الروسي في سوريا في المستقبل القريب ستعمل الجماعات الإرهابية، مثل “داعش”، على استغلال هذا الفراغ للعودة والتمدد مرة أخرى في سوريا؛ لأن الانخراط الروسي كان يمثل الدور الأكثر حيوية وحسمًا من بين الداعمين للحكومة السورية الحالية.
بجانب أن إيران والجماعات الأخرى الموالية للنظام في سوريا أو حتى القوات الكردية في الشمال لا تملك مثل هذا التفوق الجوي الذي يستطيع حسم المعارك سريعاً مع الجماعات الإرهابية.
لذا، فإن احتمالية محاولة الجماعات الإرهابية التمدد مرة أخرى في سوريا، بعد الهزائم الكبرى التي تلقتها منذ سنوات، تُعد قائمة في ظل التطورات الأخيرة داخل المشهد السوري.
وإذا ما وقع مثل هذا الأمر، فسنكون إذًا أمام سيناريوهين اثنين:
– الأول، في حالة الغياب الروسي:
وهو يعني انسحاب مستقبلي واسع للقوات الروسية من سوريا لصالح الحرب في أوكرانيا. ومثل هذا الانسحاب يأخذ شقين سياسي وعسكري. وسوف تستغرق مثل هذه العملية وقتًا زمنيًا أطول قد يعززه احتدام المعارك في كييف وإطالة مدة الحرب. ويعني هذا على أي حال نشأة فراغ أمني واضح ستحاول الجماعات الإرهابية استغلاله والعودة مرة أخرى.
ومن هنا، فقد تندلع مواجهة مفتوحة بين إيران وهذه الجماعات، إلى جانب الحكومة السورية والأكراد، والتي قد تنهك القوات الإيرانية على وجه الخصوص خاصة في ظل افتقاد الحلفاء الإيرانيين في هذه الحرب للقوات الجوية.
– الثاني، انسحاب جزئي روسي من بعض المناطق السورية:
قد ينتج عن هذا السيناريو عودة ظهور الجماعات الإرهابية في بعض المناطق داخل سوريا وتهديدها أيضًا بإشعال مواجهات جديدة مناطقية في سوريا. وفي ظل الأوضاع الحالية وانشغال روسيا بشكل أكبر بالحرب الأوكرانية، فإن أحد أكبر المتضررين من هذا السيناريو ستكون إيران والحكومة السورية اللتان لن تتمتعا في هذه الحالة بالدعم الجوي الروسي.
وعلى أي حال، فإن هذين السيناريوهين يحملان توقعات بعودة التوتر مرة أخرى داخل الأراضي السورية إذا ما “تراجع” أو “غاب” الفاعل والضامن الروسي القوي عن المشهد السوري في المستقبل. ويرتبط هذا بالتالي بالتوقيت والمدة الزمنية التي قد تستغرقها الحرب الروسية الأوكرانية في ظل غموض مصيرها حتى الآن.
لماذا يُعد مستقبل المشهد السوري أكثر تعقيدًا لإيران؟
لا تقتصر التداعيات المستقبلية لاحتمالات استحواذ الملف الأوكراني على اهتمام موسكو مقابل تفاعل أقل مع معادلة المشهد السوري على احتمالات عودة الصدِام بين إيران والجماعات الأخرى المناوئة لحكم الرئيس السوري الأسد فقط، بل تتزايد معها احتمالات تصاعد المواجهات بين إيران وإسرائيل في سوريا على الأقل.
إذ إن عودة الحرس الثوري للانتشار بشكل أكبر داخل سوريا سيعني توجيه إسرائيل مزيدًا من الضربات ضد مواقعه. واستباقًا لمثل هذا الأمر، فقد سعى الإسرائيليون منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية إلى عدم اتخاذ موقف مضاد لموسكو؛ خشية أن يلقي هذا بظلاله على تعقيدات الملف السوري.
ويُضاف إلى هذا إعلان الإسرائيليين خلال الأشهر الماضية بالأساس عن استعدادهم لتصاعد التوتر مع إيران بعد التوصل إلى اتفاق نووي في العاصمة النمساوية، بل إنهم قالوا إنهم أعدوا خطة عسكرية لذلك.
الخلاصة،
قد نعتقد من الوهلة الأولى أن سيناريو تراجع الاهتمام الروسي بالملف السوري بسبب الحرب في أوكرانيا يعني من الجانب الآخر توسع النفوذ الإيراني في سوريا عما هو عليه.
ولكن، وإن كان هذا التوسع أمرًا مطروحًا بقوة، إلا أن تبعات “الانسحاب” الروسي، إن حدث، ستشمل أيضًا إمكانية تنامي أنشطة الجماعات الإرهابية مثل “داعش” مرة أخرى في سوريا.
لذا، فإن هذا “التراجع” قد لا يمثل فرصة حقيقية كاملة أمام إيران لمد نفوذها وتعميقه بشكل أكبر داخل سوريا خلال الأيام المقبلة، لأن طهران بحاجة إلى وجود “الضامن” الروسي في سوريا، وإن كان بطريقة تستطيع معها تعزيز ذلك النفوذ.