
النفط الليبي: صناعة البتروكيماويات الليبية..الواقع والتحديات
في الحلقة الثالثة نحاول إلقاء الضوء على أهمية وضرورة تنويع مصادر الدخل للدولة الليبية ومستقبل صناعة البتروكيماويات الليبية، وتحدثنا في الحلقات السابقة عن إقليم فزان أو الجنوب الليبي وأهميته الاقتصادية والاستراتيجية وخطورة تهميشه وتأثيره في الإنتاج الكلي من النفط للدولة الليبية.
عاد الصراع على النفط إلى صدارة الأحداث الليبية، ليدخل النفط مجددًا دوامة الانقسام بعودة الحديث عمن له الشرعية والولاية على قوت الليبيين؛ لكن بعيدًا عن صراع الأطراف الليبية الذي امتد إلى ورقة النفط نفسها، وقبل الخوض فيما ستؤول إليه نتائج هذا الانقسام، يبقى من المهم رسم بروفايل عن قوت الليبيين الذي يتصارعون عليه دوليًا بأدوات محلية؛ أين تقع صناعة البتروكيمياويات من صناعة النفط الليبية؟
مقدمة
التكرير صناعة غربية أمريكية المنشأ ويُعد النموذج القديم في عمليات تسويق النفط؛ يعتمد على شحن النفط الخام إلى مراكز التكرير في الغرب (الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا) ومن ثم يتم إرجاع المنتجات إلى الأسواق النامية بما فيها تلك المنتجة للنفط؛ وبكل تأكيد كان هذا يتم بالارتكاز على التفوق التكنولوجي العالي للدول الغربية مع احتكار نسبي للتكنولوجيا في حقوق الاختراع باهظة التكاليف للدول النامية.
تُعد صناعة البتروكيماويات من الصناعات الحديثة إذا ما قورنت بغيرها من الصناعات التقليدية، حيث لم تظهر أهميتها بشكل واضح وقوي إلا بعد الحرب العالمية الثانية وذلك بعد البدء في استخراج وتصنيع النفط بشكل كبير وواسع والذي صارت صناعة الكيماويات العضوية تستخدمه كمادة خام بدلًا من خامات الفحم والتي كانت تُستخدم من قبل؛ وهو الأمر الذي أفرز اليوم صناعة البتروكيماويات ورغم ذلك فإن صناعة البتروكيماويات تُعد من أكثر الصناعات نموًا وتطورًا علي المستوى العالمي في الوقت الحالي ويُستدل علي ذلك من خلال المعدلات الكبيرة والتي تنمو بها هذه الصناعة على المستوى العالمي، ولذلك فهي من القطاعات التي يعول عليها لقيادة عمليات التنمية والنمو الاقتصادي لما تتمتع به من نمو سريع وتنوع في منتجاتها، وتُساهم بقوة في تنويع مصادر الدخل في البلدان المنتجة للنفط والتي تحتل فيها صادرات النفط الخام والغاز الطبيعي مكانة الصدارة، وتلعب صناعة البتروكيماويات كذلك دورًا مهمًا وحيويًا في تحسين فرص الاستفادة من الثروات الهيدروكربونية (النفط والغاز) وذلك من خلال زيادة القيمة المضافة المحققة من برميل النفط الخام حينما يتم تصنيعه كمواد بتروكيماوية بدلًا من تصديره كنفط خام.
وبصفة عامة فإن النفط الخام سلعة عديمة القيمة دون تكريرها، واشتقاق منتجات نفطية صالحة للاستخدام في الأجهزة والمعدات المستخدمة في حياتنا اليومية؛ ووفقا لعمليات الاستغلال التي تبدأ من الحرق للحصول على الطاقة أو عمليات التحويل لسلع أخرى مثل البلاستيك والأسمدة فإن كل منتج نفطي يلبي الحاجة وفقًا لتقنية استخدام معينة.
شهدت صناعة البتروكيماويات وتكرير النفط العديد من التطورات والتي صاحبها متغيرات كثيرة، التطور الأول، كان مبكرًا مع صعود نجم منظمة أوبك في السبعينيات، حيث توفرت معه السيولة الكافية لتمويل مشروعات تكرير صناعية كبيرة تعتمد على الميزة النسبية في رخص المادة الخام، كان هذا التطور مدفوعًا أيضا بتصاعد روح استقلالية سياسية وتكون براعم لأفكار الأمن القومي والاكتفاء الاستراتيجي من المنتجات النفطية في المواجهة مع الدول الغربية المستهلكة للنفط، والتطور الثاني، خصوصًا في القارة الأوروبية وهو ارتفاع ما يسمى بالوعي البيئي أو الهلع البيئي في بعض المسميات الأخرى، والذي فرض قوانين صارمة ذات تكلفة عالية على مستخدمي النفط سواء كانوا مصنعين أم مستهلكين، وهما تطوران خلقا ظاهرة جمود صناعة التكرير في أوروبا وجزئيًا هجرة الصناعة كثيفة الطاقة إلى أماكن أكثر اقتصادية والتي بدأت بصناعة التكرير.
مدخل
تتجسد المشكلة الليبية في استمرارية تأثرها بالأزمات الاقتصادية الناشئة عن تقلبات أسعار النفط في الأسواق العالمية، وما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من الأضرار ببرامج التنمية نتيجة خفض حصيلة الصادرات من النقد الأجنبي ويعود ذلك بطبيعة الحال إلى استمرار اعتماد الاقتصاد الليبي على مصدر أساسي وحيد لزيادة الدخل؛ ألا وهو القطاع النفطي ولعل الأزمة المالية التي عاناها الاقتصاد الليبي خلال السنوات الماضية الناتجة عن إقفال الموانئ النفطية من جهة وانخفاض أسعار النفط العالمية من جهة أخرى وذلك قبل عودة الحياة إلى ما بعد انحسار وباء كورونا تدريجيًا والأزمة الروسية الأوكرانية وعودة ارتفاع الأسعار، ويمكن أن تلعب صناعة البتروكيماويات في هذا الإطار دور لا يُستهان به في الحد من تفاقم هذه المشكلة وتقليص حدتها وذلك من حيث إمكانية تعزيز دورها الهام في التنويع الهيكلي في الاقتصاد الليبي.
صناعة التكرير الليبية تاريخيًا ومستقبلًا
بدأت صناعة التكرير في الدولة الليبية بإنشاء مصفاة صغيرة في مدينة مرسى البريقة النفطية بطاقة إنتاجية حوالي ١٠ آلاف برميل يوميًا بالاشتراك مع الشريك الأجنبي وقتها وهي شركة إسو الأمريكية؛ ولم تكن هذه المصفاة موضوعة ضمن خطة تطوير الصناعة النفطية بقدر ما كانت مساعدة من الشركة، وكان يقصد بها تسهيل العمليات التي تحتاج لكميات من المنتجات النفطية للشركة في منطقة شبه معزولة تفتقد حينها إلى شبكات توزيع المحروقات أو الكهرباء، وأدي ارتفاع أسعار النفط العالمية في بداية السبعينيات مع بزوغ أسهم منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) في العمل علي توفير المقدرات المالية والتي كسرت حاجز العجز عن الاستثمار المحلي وفي ذلك الوقت تم وضع خطة لتطوير صناعة النفط في ليبيا والتي بُنيت على التوسع في قطاعات التكرير واقتحام مجال صناعة البتروكيماويات.
وبغض النظر هنا عن أي عوامل سياسية مصاحبة لمثل هذا التوجه الذي انتشر في عدة دول منتجة للنفط بما فيها السعودية والجزائر، فإنه كان رد فعل طبيعي لإحجام الشركات العالمية عن الاستثمار في قطاعات صناعية في الدول المنتجة رأت حينها أنها ستهدد قوتها وسطوتها خصوصًا بعد انتزاع قرار تسعير النفط منها، فالتجربة كانت في الواقع صعبة، وأظهرت تحديات ضخمة وكبيرة في الطريق، لكن بعض الدول القليلة هي من استطاعت المرور من تلك الصعوبات، فقد ثارت ثائرة الصناعة الأوروبية النفطية، وفرضت قانون ضرائب ضد الإغراق للمنتجات البتروكيماوية القادمة من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومن ضمنها ليبيا؛ كما قامت الدول الأوروبية بفرض مواصفات بيئية ذات مقاييس محددة ومواصفات عالية الجودة عالية التكلفة على المنتجات النفطية مما أدى إلى ضرورة إعادة الاستثمار في المصافي للوفاء بهذه المواصفات، وفي حين نفذتها المصافي الأوروبية بسبب توفر التمويل اللازم، تعثرت مصافي الدول المنتجة للنفط التي سارعت بتوفير تكاليف إنشاء المصافي بتقنيات قديمة.
وبالنسبة للدولة الليبية من الممكن أن تكون نجحت جزئيًا في المرور من هذا النفق، حيث أكملت بناء شبكة من المصافي معتمدة على عاملين؛ الأول، وهو عملية إشباع وتزويد السوق المحلية الليبية بما تحتاجه من منتجات بترولية، والثاني، هو تصدير المتبقي إلى الأسواق العالمية، ولكن تزايدت احتياجات السوق الليبية من البنزين والمنتجات البترولية بشكل كبير للغاية ومع محدودية إنتاجه أصبحت ليبيا مستوردًا كبيرًا منه ومن المنتجات البترولية حيث تغطي المصافي الليبية الوطنية حوالي ٢٠٪ فقط من الطلب المحلي على البنزين، ويأتي المصدر المحلي الأساسي من البنزين من مصفاة الزاوية التي كررت في الماضي خام السدرة واليوم تكرر خام الشرارة، الذي يرتبط معها بشبكة أنابيب من الحقل؛ وتُعد مصفاة الزاوية من أقدم المصافي الليبية المحلية بعد مصفاة مرسى البريقة، وتبلغ طاقتها التكريرية حوالي ١٢٠ ألف برميل يوميًا من الخام الخفيف، والتي تُشرف عليها اليوم شركة مستقلة مملوكة بالكامل للمؤسسة الوطنية للنفط وتحولت إلى مركز صناعات نفطية، ففيها يوجد مصنع لزيوت محركات السيارات ووحدة أسفلت وتُمثل ميناء لتصدير خام الشرارة، وكذلك لاستقبال المنتجات النفطية المستوردة سواء من الخارج أو من مصافٍ محلية أخرى.
وتوجد مصفاة رأس لانوف وهي المصفاة الثالثة من حيث الترتيب الزمني، وتُعد من أكبر وأهم المصافي الليبية من حيث الطاقة الإنتاجية وتبلغ قدرتها التكريرية حوالي ٢٢٠ ألف برميل يوميًا، وقد صممت المصفاة في المقام الأول لتكرير خام السرير المنتج من قبل شركة الخليج، ولكنها تقوم اليوم بتكرير مزيج من خامي مسلة والسرير من إنتاج شركة الخليج العربي؛ وتم إنشاء مصفاة رأس لانوف في منطقة نائية في منطقة الهلال النفطي وبالقرب من ميناء رأس لانوف لتصدير الخام من شركة موبيل، والذي انتقل اليوم إلى شركة الهروج؛ وتقع في منتصف المسافة بين مدينتي بن جواد و مرسى البريقة، وصممت المصفاة لتكون قلب مجمع بتروكيماوي كبير ينتج ما يسمى بالأوليفانات المستخدمة في صناعات البلاستيك والمطاط الصناعي، والمنتجات الأساسية هي الإيثلين، والبروبلين، وخليط ك٤، وأخيرًا البنزين الحراري، ويوجد مصنع للمنتجات اللاحقة بولي إيثلين طاقة مصنع الإيثيلين حوالي ١٠٠٠ طن يوميًا؛ حيث كان هذا المجمع حلم مجموعة من المهندسين الليبيين والذين تصوروا بأن يكون مركزًا إقليميًا في البحر الأبيض المتوسط للبتروكيماويات، وكانت الرؤية أن يكون جسم تجاري مستقل يمول نفسه ذاتيًا من أرباح البيع أو الشراكة مع شركة عالمية متخصصة في هذا المجال ووفقًا للتجربة السعودية في الجبيل وما تفرعت عنه بمنظومة سابك.
وتعد مصفاة رأس لانوف مصدرًا مهمًا لمنتجي الديزل وزيت الوقود الثقيل، المستخدمان في محطات توليد الطاقة وبعض المصانع خصوصًا في المنطقة الشرقية، وهي لا تنتج بنزين السيارات حيث تستخدم النافتا المصدر الرئيسي لبنزين السيارات لتغذية مصنع الإيثيلين، وقد تأثر المصنع سلبيًا بتطورين هما الحصار الأمريكي على ليبيا، والمنافسة الشرسة من الصناعة البتروكيماوية الأوروبية؛ ويجري تصدير باقي المنتجات إلى الأسواق العالمية بما فيها المنتجات البتروكيماوية، باستثناء الإيثيلين الذي يستخدم جزء منه في المجمع نفسه، أو في مجمع الـ بي في سي في أبو كماش.
وفي عام ٢٠٠۸، جرى قبول أول مشاركة أجنبية في صناعة المصب في ليبيا، بعد بيع جزء من ملكية مصفاة رأس لانوف لشركة إماراتية هي شركة الغرير، وتأسست شركة ليبية إماراتية مشتركة لإدارة المصفاة فقط وليس باقي المجمع البتروكيماوي، وكان الهدف المعلن لهذه الصفقة أن يستثمر الشريك الأجنبي في تحديث المصفاة، و يتم تحويلها إلى مشروع اقتصادي كبير رابح تفصل فيه عن إدارة وملكية المؤسسة الوطنية للنفط مع التزام الشريك الأجنبي بتزويدات السوق المحلية والحفاظ على العمالة الوطنية وتدريبها، إلا أن المصفاة تتوقف كثيرًا عن العمل، نظرا للظروف السياسية التي تمر بها البلاد، وأيضًا الخلافات المستمرة بين العنصر الوطني والشريك الأجنبي فيما يخص إدارة المصفاة.
مصفاتا السرير وطبرق اللتان تزودان بخام السرير الذي تنتجه شركة الخليج العربي، وترتبطان بخط أنابيب للتزويد، وتعمل مصفاة السرير بطاقة إنتاجية حوالي ١٠ آلاف برميل يوميًا، وهي مخصصة لتزويد منطقة الجنوب الشرقي باحتياجاتها من المحروقات والمنتجات البترولية، وخصوصًا بنزين السيارات، فيما تبلغ القدرة الإنتاجية لمصفاة طبرق الإنتاجية حوالي ٢٠ ألف برميل يوميًا، وهي تعمل على تزويد مناطق الشرق والجبل الأخضر بجزء من احتياجاتها من المحروقات.
وبعد حرب الأسعار التي اندلعت بين أعضاء منظمة أوبك في منتصف الثمانينيات، وانحسار حصتها السوقية في العالم، بالإضافة إلى عامل الحصار الأمريكي على الصادرات النفطية الليبية، اتجهت الدولة إلى بناء نظام تكرير في مصبات النفط الليبي في أوروبا المعروفة حاليا بشركة تام أويل، والذي بدأ بشراء مصفاة نفط في كيرمونة بإيطاليا (۸٠ ألف برميل يوميًا) ومصفاة جنيف بسويسرا (٥٠ ألف برميل يوميًا) ومصفاة هامبورج (١١٠آلاف برميل يوميًا) في ألمانيا.
المصافي الثلاث عملت على استقبال وتكرير كميات كبيرة من النفط الخام (السدرة-البريقة) ويتم توزيعها عن طريق شركة تام أويل ومحطاتها في الأسواق الأوروبية، والتي كانت عاملًا مساعدًا في استرجاع وفتح أسواق كانت بعيدة عن تواجد النفط الليبي، ولا زالت مصفاتا جنيف وهامبورج تعملان بينما توقفت مصفاة كيرمونة للمصاعب المالية التي واجهتها، وأيضًا ينتج مجمع مرسى البريقة للكيماويات سماد اليوريا ومادتي الميثانول والأمونيا، ويستغل المصنع الغاز الطبيعي المنتج من حقول شركة سرت، وأيضًا يوجد معملي فصل المكثفات عن الغاز في كل من مرسى البريقة و الزويتينة، اللذين ينتجان كميات من مكثف النافتا مع كميات أخرى من غاز الطهي (غاز البترول المسال) الذي يتم استغلاله محليًا؛ وبالنسبة لمصنع اليوريا فقط وليس الميثانول فقد تم إدخال شريك أجنبي وهو شركة يارا النرويجية الرائدة في صناعة الأسمدة عالميًا.
الوضع اليوم
يمكن أن يوصف الوضع اليوم بالأزمة، في ظل العديد من الأسباب ومنها:
- التزايد الحاد في الطلب المحلي على المنتجات البترولية والنفطية تحت نظام الدعم الحكومي في قطاعات الدولة الليبية المختلفة ومنها المواصلات وتوليد الكهرباء والصناعة وبمعدلات أكبر من قدرة المصافي المحلية.
- عجز الدولة الليبية متمثلة في المؤسسة الوطنية للنفط عن تمويل التحسينات الضرورية في المصافي الحالية وتقوية وتهيئة البنية التحتية لصناعة التكرير والبتروكيماويات.
- التأخر التكنولوجي الكبير والواضح في المصانع ومعدات التشغيل الحالية والناتج عن عقود طويلة من قلة الصيانة بسبب العقوبات الدولية وغيرها، وتضخم عدد العمالة مع إنتاجية ضعيفة.
- الفشل المستمر في توجه المشاركة الأجنبية أو جذب الاستثمارات الأجنبية سواء منها تلك التي تحققت، وأفضت إلى مقاومة عمالية كبيرة في رأس لانوف ومرسى البريقة من قبل، أم لم تتحقق.
العوامل المعززة لمساهمة البتروكيماويات في تنويع هيكل الاقتصاد الليبي
يوجد العديد من العوامل المهمة التي من الممكن أن تعمل على تعزيز مساهمة قطاع البتروكيماويات في محاولات تنويع هيكل الاقتصاد الليبي ومنها: التنويع الكبير في منتجات هذه الصناعة عالميًا وقدرتها على تنمية الصناعات التحويلية وأيضًا قدرتها على تنمية القطاعات الأخرى بما تتمتع به من قدرة على التشابك والتكامل بين قطاعات الاقتصاد المختلفة وقدرتها على تنويع وتنمية صادرات الدول؛ بالإضافة إلى دورها في نقل وتطوير التكنولوجيا ودعم القطاعات الأخرى.
مقومات صناعة البتروكيماويات الليبية
تنطوي الأراضي الليبية على العديد من المقومات الهائلة التي تساعد على تأهيل الدولة الليبية لتأسيس صناعة بتروكيماويات ناجحة ومن أهمها: وفرة المواد الأولية ومصادر الطاقة حيث تحظى ليبيا بميزة تنافسية في هذا الجانب من حيث الوفرة والتي تنطوي عليها فيما يتعلق بمصادر الطاقة والمواد الأولية واللازمة لهذه الصناعة المهمة وتتضح أهمية ذلك بشكل واضح وكبير حينما ندرك أن الطاقة والمواد الأولية تشكلان نسبة مهمة من إجمالي التكاليف الإنتاجية لتلك الصناعة وخاصةً بالنسبة لصناعة المنتجات البتروكيماوية الأساسية؛ حيث أكدت بعض الدراسات إلى أن الطاقة والمواد الأولية قد شكلتا حوالي ٤٦٪ من إجمالي التكاليف الإنتاجية لهذه الصناعة وذلك عام ١۹٧٣؛ وارتفعت تلك النسبة إلى أكثر من ۸٠٪ الآن؛ ويُعد قطاع البتروكيماويات هو الأكثر استهلاكًا للطاقة بين مختلف القطاعات الصناعية بمعدل أكثر من ٣٠٪ من إجمالي الطاقة المستهلكة من القطاع الصناعي على المستوى العالمي؛ وهو الأمر الذي يؤكد أهمية المواد الخام الأولية ووفرتها في قطاع البتروكيماويات.
وأيضًا توافر القدرة المادية؛ حيث تعد الصناعة البتروكيماوية من الصناعات كثيفة رأس المال نظرًا لأنها تعتمد بشكل كبير على التقنيات المتطورة، وأن تعقد وصعوبة عملياتها الإنتاجية تحتاج إلى الآت ومعدات عالية التطور وبمواصفات خاصة، ولذلك فإن إنشاء صناعة بتروكيماويات ناجحة يحتاج لتوافر رأس المال الكافٍ في الدول التي تسعى لإقامة هذه الصناعة، وللوقوف على مدى توافر مثل هذه المقومات في الدولة الليبية وبتحليل الجدول التالي والذي يبين رصيد ميزان المدفوعات والاحتياطيات الرسمية بالعملة الأجنبية وعوائد الصادرات الليبية خلال فترة من الفترات (١۹۹٥-٢٠١٥) والذي يتبين أن ميزان المدفوعات قد حقق فائضًا حوالي ١۹۸۹٬١ مليون دولار خلال عام ١۹۹٥؛ وارتفع خلال عام ٢٠٠٠ إلي حوالي ٥٧٦٥٬۸ مليون دولار؛ منخفضًا خلال عام ٢٠١٠ إلي حوالي ٤٥٠٠٬۸ مليون دولار وقد حقق هذا الميزان خلال عام ٢٠١٤ عجز يقدر بحوالي ١٥٥٧ دولارًا واستمر خلال عام ٢٠١٥ بحوالي ١۸۹٥٠ دولارًا وذلك كنتيجة متوقعة لعمليات الإغلاق وتوقف الإنتاج المستمرة وظروف البلاد الأمنية في الأراضي الليبية؛ ويتضح من هنا خطورة والآثار السلبية لعمليات توقف الإنتاج على الاقتصاد الليبي.
ومن ضمن العوامل والمقومات المهمة للدولة الليبية هو الموقع الجغرافي وقربها من الأسواق الدولية للبتروكيماويات، حيث يُعد الموقع الجغرافي من العوامل المهمة والمعززة لفرص إقامة وتطوير صناعة بتروكيماوية ناجحة وذلك من حيث القرب من الأسواق المهمة لهذه المنتجات، وما يترتب على ذلك من انخفاض في كلفة النقل، وتتمتع ليبيا بموقع جغرافي هام وحيوي وذلك لقربها من أحد أهم الأسواق العالمية للبتروكيماويات ألا وهو سوق الاتحاد الأوروبي؛ ومن المؤكد أن الطلب العالمي على هذه الصناعة قد بدأ يشهد تحولات جغرافية جذرية.
ويبقى السؤال المهم هو: كيف يمكن لصناعة المصب في ليبيا أن تتحسن وما هي آفاق تطورها؟
ويبقى السؤال المهم هو كيف يمكن لصناعة المصب في ليبيا أن تتحسن وما هي آفاق تطورها؟ كما ناقشنا فإن صناعة التكرير والبتروكيماويات أنشئت في الدولة الليبية تحت غطاء القطاع العام والمتمثل أولًا في قطاع الصناعة، ومن ثم جرى نقله إلى قطاع النفط ممثلًا في المؤسسة الوطنية للنفط؛ ويمكن القول إن الفكر الاستراتيجي في هذا التوجه انتقل من مرحلة إلى أخرى ليساير الظروف المحيطة بصناعة النفط العالمية، ففي فترة السبعينيات تركز الفكر النفط الليبي على كيفية إضافة قيمة على الثروة النفطية والتي تمتلكها ليبيا، وذلك بمحاولة تصنيع جزء منها ما يساعد علي الوصول لهدف التنويع في الاقتصاد الليبي وتحقيق أمن الطاقة والإمدادات المحلية خصوصًا مع التوسع الإنمائي الكبير والذي صاحب ارتفاع مستويات الأسعار النفطية؛ وهذا التوجه كان مطابقًا في دول أخرى كالسعودية والجزائر.
وقد دفع انهيار الأسعار في فترة ما قبل الارتفاع غير المسبوق في عام ٢٠٠۸ ومحاربة أوروبا الصناعة الوليدة في ليبيا باتجاه جديد من التفكير، وهو تجميد ووقف التوسع في الصناعة التكريرية، مع الحفاظ على ما تم إنجازه وتسييره بالأدوات الممكنة خصوصًا في ظل حصار تكنولوجي على الفكر الصناعي القديم، والموجة الأخيرة من الفكر في هذا المجال اتجهت للتخلص من مشاريع ما تُعرف بمشاريع الفيل الأبيض وهي التي تدل على المشاريع الضخمة والتي أنشئت منذ ربع قرن ذات التكلفة التشغيلية العالية والمثقلة بعمالة ضخمة واقتصاداتها ضعيفة؛ ولذلك يجب تنفيذ تلك البنود والتوصيات التالية:
- تطوير وهيكلة البنية التحية الموجودة في صناعة البتروكيماويات الليبية، مع الاستعانة بدول الجوار العربي والإفريقي وبالأخص الدولة المصرية لما تتمتع به من مقومات ضخمة في مجال صناعة البتروكيماويات وأيضًا قربها من الدولة الليبية.
- تطوير المنتجات البتروكيماوية الليبية وتعزيز قدراتها التنافسية، عن طريق العمل على خفض تكلفة الإنتاج ورفع جودة المنتج الليبي وذلك بتطبيق آخر ما توصلت إليه التكنولوجيا في مجال صناعة البتروكيماويات.
- العمل على تنويع الهيكل الإنتاجي لصناعة البتروكيماويات الليبية، والتوسع في الحلقات الأكثر ازدهارًا في هذه الصناعة كالصناعات البتروكيماوية الوسيطة والنهائية والمتخصصة وذلك بهدف تعزيز المنافع الاقتصادية من هذه الصناعة.
- العمل على تنويع أسواق التصدير للمنتج البتروكيماوي الليبي، والعمل على فتح آفاق وأسواق جديدة وبالأخص في المنطقة الإفريقية ومع ضرورة استغلال عامل القرب الجغرافي للتفوق على المنافسين في هذا الجانب.
- التوسع في الطاقات الإنتاجية من البتروكيماويات الأساسية، للوصول بها إلى الكميات والمعدلات الاقتصادية الملائمة والتي تساعد على تعزيز المزايا النسبية لتلك الصناعة الاستراتيجية وذلك من خلال خطط وأهداف واضحة يلعب فيها السوق دورًا أساسيًا.
- استغلال الاتفاقيات التكاملية الإقليمية على المستوى العربي والإفريقي، في تطوير صناعة البتروكيماويات الليبية وذلك من خلال التنسيق المشترك في سياسات التسويق الدولي مع تعزيز الموقف التفاوضي في مواجهة كبار صناعة البتروكيماويات عالميًا.
خلاصة القول، ارتفاع أسعار النفط في السوق العالمي حاليًا، والتوقعات الإيجابية باستمرار هذه الطفرة، يُشكل فرصة حقيقية لتوفير تمويل ضروري وهام يحتاجه الاقتصاد الليبي، بهدف إعادة العمل بمشروعات استثمارية وتنموية تعطلت لعقد من الزمان أو أكثر؛ ومن بين المشروعات الصناعية المتوقفة منذ سنوات في ليبيا، المجمع الكيماوي في منطقة أبو كماش، والذي أصبح في طي النسيان، المجمع كان ينتج مادة عديد كلوريد الفيلين والتي تصنع منها الأنابيب، وتدخل أيضًا في صناعة الكابلات الكهربائية بمختلف أنواعها، بصفة خاصة يبقى أن الخيارات صعبة وبها العديد من التحديات، وأن التوجه نحو إقامة مصافٍ جديدة من قبل بعض الصناديق الاستثمارية الحكومية قد يثبت استمرار الأزمة وليس حلها إذا لم تحل مسائل مبدئية هي؛ أسعار بيع الخام للمصافي، أسعار بيع المنتجات محليًا ودوليًا، طريقة تمويل الدعم الحكومي، والتأكد من قيمة الاسواق الخارجية.
وفى الأخير؛ إن الدولة الليبية تحتاج إلى برنامج تنموي متكامل وقوي لجميع قطاعات الدولة؛ لأن بناء اقتصاد حقيقي وقوي يحتاج إلى النهوض في البنية التحتية من الطرق والمواصلات والاتصالات، بالإضافة إلى تحسين التعليم والصحة، وتشريع قوانين تنظيمية للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقضائية.
دكتور مهندس متخصص في شؤون النفط والطاقة