
نظرة عن كثب: نشاط “فاجنر” في الحرب الروسية الأوكرانية
أصرت السلطات الروسية، على مدار سنوات عديدة، على إنكار تبعية شركة “فاجنر” العسكرية الخاصة للكرملين. من ناحية أخرى، لطالما تعامل معها الغرب على أساس تبعيتها المؤكدة لإرادة صانع القرار الروسي. وعلى هذا الأساس، وافق الاتحاد الأوروبي على دمجها ضمن قائمة عقوباته المتعددة على روسيا، من ضمنها على سبيل المثال، العقوبات التي فرضت على الشركة في ديسمبر 2021، بالتزامن مع أنباء حول بدء غزو روسي محتمل للأراضي الأوكرانية. وتم إدراج شخصيات نافذة في “فاجنر” على القوائم ذاتها كذلك، مثل “ديميتري أوتكين”، الضابط السابق في المخابرات العسكرية الروسية، الذي أدرج بسبب رؤية الغرب أنه كان مسؤولًا عن تنسيق وتخطيط عمليات نشر المرتزقة في أوكرانيا بالشكل الذي يقوض سيادة ووحدة الأراضي الأوكرانية. مما يأخذنا، إجمالًا، إلى ضرورة إلقاء نظرة عن كثب حول درجة تورط مقاتلي مجموعة “فاجنر” في الأنشطة القتالية على الأراضي الأوكرانية منذ بدء النزاع وصولًا إلى لحظته الراهنة.
كيف بدأ نشاط “فاجنر” في أوكرانيا؟
تُشير تقارير إعلامية إلى أن أولى اختبارات القوة الفعلية لنشاط مجموعة “فاجنر” في أوكرانيا يعود إلى أحداث العام 2014، حينما لعبت الشركة دورًا فاعلًا في ضم شبه جزيرة القرم، وهو الشيء الذي كان بمثابة شهادة نجاح تثبت فاعلية وقوة الشركات العسكرية الخاصة. وكذا انخرطت “فاجنر” في الصراع المسلح الذي دار في المناطق التي كانت خاضعة إلى السلطات الأوكرانية حتى العام 2014، والمقصود هنا، إقليم دونباس في شرق البلاد. وكان لتدخلها تأثير كبير على مجريات الصراع لصالح قوات الانفصاليين الموالين لروسيا، منذ المراحل الأولى لبدء الصراع المسلح في دونباس.
مثال على ذلك، ما أوردته إدارة أمن الدولة الأوكرانية حول حادثة تحطم طائرة النقل “Il-76” التي كانت تقل مظليين أوكرانيين، بتاريخ 14 يونيو 2014، والتي قام بتنفيذها مقاتلان من عناصر مجموعة فاجنر، باستخدام مدافع الرشاش الثقيلة وتصويبها مباشرة نحو الطائرة التي كانت على وشك الهبوط في مطار لوهانسك وهي محملة بنحو 40 جنديًا أوكرانيًا، بالإضافة إلى معدات عسكرية.
وظهرت كذلك فيما بعد أدلة عدة تشير إلى مشاركة “فاجنر” بنشاط في الصراع العسكري بإقليم “دونباس”؛ من ضمنها: تسليم بيلاروس، أغسطس 2020، عددًا من مرتزقة “فاجنر” الذين تم احتجازهم على يد السلطات في مينسك، على الرغم من مطالبة كييف بتسليمهم إليها بعد تأكيداتها على أنهم يشتبه في ارتكابهم جرائم في إقليم دونباس. وفي أغسطس 2020، تناولت مواقع إخبارية أنباء حول قيام النائب الأوكراني عن حزب التضامن الأوروبي، “فلاديمير آرييف”، بنشر وثائق تحتوي على توثيق لقصص أولئك الذين قاتلوا ضد أوكرانيا في دونباس، وأسقطوا طائرات هليكوبتر وطائرات أوكرانية.
ما هو شكل النشاط الحالي لـ “فاجنر” في الصراع الروسي الأوكراني؟
ليس ثمة شك في ضلوع “فاجنر” بمهام قتالية متعددة في الحرب الروسية الأوكرانية الجارية منذ أواخر فبراير من العام الحالي. غير أن الاختلافات تكمن في التاريخ المحدد لبدء انخراطهم في الصراع العسكري في صورته ومساحته الحالية، بالإضافة إلى طبيعة تشكيلات عناصر المرتزقة وطريقة تجنيدهم. لذلك، سنحاول بقدر الإمكان، الاستدلال على أبرز الملامح المحددة لهذه الاختلافات.
في أواخر ديسمبر 2021، نشرت دورية “ميدوزو” الدولية الصادرة باللغة الروسية، تقريرًا سلطت من خلاله الضوء على تجمعات تضم مجموعة كبيرة من المرتزقة من ذوي الخبرات القتالية في روسيا. وأوردت أن المسؤولين عن تجميع وتوظيف هذا العدد من المرتزقة لا يذكرون تكليفهم بمهام محددة، عدا أنهم اكتفوا بالتلميح فقط إلى أنهم احتشدوا لأنهم بصدد المشاركة في مشروع جديد يتم إعداده في الأراضي المتنازع عليها في منطقتي دونيتسك ولوهانسك.
وبتاريخ 28 فبراير، عندما كان الغزو الروسي لأوكرانيا لا يزال في أيامه الأولى، بدأت روسيا في تنفيذ حملة تجنيد واسعة النطاق تهدف إلى ضم عناصر جديدة إلى مرتزقة “فاجنر”؛ بهدف إلحاقهم بصفوف القتال على الجبهة في أوكرانيا. ولقد قامت الشركة، هذه المرة، بإلغاء جميع الشروط التي لطالما كانت تعوق إلحاق المزيد من العناصر، على غرار مطالبة المُتقدمين بضرورة الحصول على شهادات تفيد بحسن السير والسلوك، وشهادات تثبت امتلاكهم لخبرات قتالية سابقة، لاسيما بعض التخصصات العسكرية. وأصبحت الشروط الأساسية التي يُطلب من المنضم حديثًا للمجموعة امتلاكها، هي شروط أكثر بساطة على غرار قدرة المُتقدم على حمل مدفع رشاش بين يديه. وبتاريخ 8 مارس، نشرت هيئة الأركان العامة الأوكرانية ما يفيد بأن روسيا تُخطط لنقل ما يصل إلى ألف مقاتل من شركة “فاجنر” إلى كييف.
وأفادت صحف بريطانية مثل “تايمز” و”إندبندنت”، بتاريخ 11 مارس، أن نحو 400 عنصر من “فاجنر” وصلوا إلى كييف في أواخر فبراير من العام الجاري بهدف الاستيلاء على المدينة واغتيال الرئيس الأوكراني، “فلوديمير زيلينسكي”. وبتاريخ 29 مارس، أشار موقع هيئة الإذاعة البريطانية إلى أنه من المتوقع وصول ونشر ما يقرب من ألف مسلح من عناصر “فاجنر” إلى أوكرانيا، بما في ذلك عناصر من كبار المسؤولين التنفيذيين في الشركة؛ بغرض تعزيز أحوال الوحدات العسكرية الروسية التي تدهورت بفعل الحرب.
في غضون ذلك، بات الحديث عن حضور مرتزقة أجانب للقتال في صفوف روسيا، في العلن، أمرًا لا بد منه بالنسبة للسلطات الرسمية في موسكو. مثال على ذلك، عندما لم يجد وزير الدفاع الروسي، “سيرجي شويجو”، 11 مارس، غضاضة في الإعلان عن وجود نحو 16 ألف متطوع من الشرق الأوسط يرغبون في الذهاب للقتال في دونباس. لافتًا إلى أن الرئيس الروسي، “فلاديمير بوتين” قد سمح لهم بالمشاركة في الأعمال العدائية وأمر بتقديم المساعدة اللازمة لهم للدخول إلى مناطق القتال.
وبتاريخ 20 مارس، ذكرت المخابرات العسكرية الأوكرانية أن الرئيس السوري بشار الأسد قد وعد بتزويد روسيا بعدد يبلغ حوالي 40 ألف مرتزق للمشاركة في الحرب الأوكرانية. وفي 9 إبريل، نشرت صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية أن موسكو بدأت بالفعل بسحب العشرات من عناصر “فاجنر” المنتشرة في أفريقيا بغرض إعادة توزيعهم على بؤر الصراع في أوكرانيا.
نظرة تحليلية
نستطيع أن نفهم، في ضوء ما تقدم، أن “فاجنر” بالفعل لعبت دورًا فاعلًا في جميع التحركات العسكرية الروسية تجاه أوكرانيا. غير أنه من الممكن تقسيم هذا الدور إلى مرحلتين؛ الأولى: بدأت منذ لحظة ضم شبه جزيرة القرم في 2014، وامتدت على مدار سنوات الصراع المسلح الذي شهده إقليم دونباس، وهنا نخلص إلى استنتاج يفيد بأن “فاجنر” لطالما كانت جزءًا لا يتجزأ من الدعم الذي قدمه الكرملين لقوات الانفصاليين.
وخلال تلك الفترة، كانت عناصر “فاجنر” التي تشارك في الصراع من الممكن وصفها بلفظة “العناصر الأصلية”، أي بمعنى، أنها من العناصر التي يعتمد عليها الكرملين خلال مشاركته بالصراعات المسلحة المتأججة في مناطق النفوذ الأخرى المتنازع عليها مع الغرب مثل بؤر الصراع في ليبيا ومالي بأفريقيا وغيرها. أي، أنها كانت عناصر مدربة، تم انتقاؤها بتأنٍ استيفاءً للمعايير والاشتراطات الخاصة بالشركة.
وفيما يتعلق بالمرحلة الثانية: نقول إن تحري التواريخ المحددة لانخراط “فاجنر” في الصراع الدائر في صورته الحالية على الأراضي الأوكرانية تظل خالية من الدقة؛ نظرًا لتضارب الأنباء المُعلنة من قبل وكالات الأنباء الغربية والروسية حول مستجدات الحرب بشكل عام، والتي تحول أيضًا بدورها دون إمكانية الوصول إلى الأعداد الحقيقية لعناصر “فاجنر” المشاركة في الصراع.
ومع ذلك، تظل هناك معالم رئيسة بارزة لملامح عناصر “فاجنر” التي انضمت أخيرًا إلى صفوف الصراع. من ضمنها، أنها عناصر غير مُدربة وغير مستوفية للشروط، كما ذكرنا آنفًا. وأنه لا يشترط فيها سابق شهادات تفيد بحسن السير والسلوك. بجانب أنها تفتقر إلى ذات العقيدة القتالية التي سبق وأن ذكرها خبراء سياسيون عن العناصر التابعة لـ “فاجنر”. علاوة على ذلك، تفيد الشواهد على أن الشركة ربما تكون بالفعل أدرجت في صفوفها مرتزقة من الشرق الأوسط، وهو ما يبرهن على تغيير كبير في التركيبة العرقية المعتادة لمقاتليها.
يظل كذلك من المنطقي فهم الأسباب التي قد تدفع موسكو إلى لاعتماد على عناصر “فاجنر” في الحرب بهذه الطريقة التي تقترب من إمكانية وصفها بأنها تتخذ شكلًا عشوائيًا ينم عن عجلة كبيرة. والسبب أو الأسباب، تذهب إلى أن موسكو ربما كانت تعتقد، في بداية الحرب، أنها لن تحتاج إلى مساعدة من “فاجنر” سوى فيما يتعلق بمهام تأمين إضافية في إقليم “دونباس”. والسبب في اعتقادها هو التصور الراسخ لدى الكرملين بأن الجيش الروسي سوف يخرج مظفرًا من الأراضي الأوكرانية برمتها خلال فترة لن تزيد على أسبوع بحد أقصى بعد أن يكون قد حظي وحده بالنصيب الكامل من مجد المنتصرين.
غير أن طول أمد الحرب والتطورات التي طرأت عليها كان يقتضي معها أن يقوم الكرملين بإدراج تغييرات جذرية على طريقة إدارته للحرب. ويأتي على رأس هذه التغييرات، ضرورة تقليص حجم الخسائر البشرية في صفوف الجيش الروسي، حتى لا يذهب الرجال إلى الحرب ويعودون إلى عائلاتهم محمولين في النعوش، مما يترتب عليه حالة من السخط العام في أنحاء البلاد. لذلك، لجأت موسكو إلى فتح الباب على مصراعيه أمام الفئة الأدنى من المرتزقة، من هؤلاء أصحاب الحيوات المجانية الذين يحضرون إلى الحروب طواعية لأجل المال. يُشار أيضًا إلى أن توجه الكرملين في التوسع في التجنيد وضم المرتزقة الجدد إلى صفوف الشركة سيسهم في الوقت نفسه في تقليص الحاجة إلى سحب عناصر الشركة المدربة من بؤر الصراع في أفريقيا والأماكن التي سبق وأن نجحت روسيا في تحقيق مكاسب خاصة لنفسها بها هناك.
نخلص من كل ذلك، إلى أن “فاجنر” بالفعل موجودون ومشاركون في مجريات الصراع على الأرض، غير أن مشاركتهم لا تعني بالضرورة ضمان مكسب أكيد لروسيا؛ نظرًا لافتقارهم نصيبًا وافرًا من التدريب والتأهيل العسكري، علاوة على نقص خبراتهم بتفاصيل جغرافيا الأرض التي يجري عليها الصراع، مما يجعل من الأقرب وصفهم بتكتلات عددية كبيرة من المُرجح أنها ستكون غير مجدية أمام قِلة مُدربة خبيرة بما تحمله من أسلحة. وهو ما يجعل الكفة تميل بشكل تلقائي نحو أفراد الجيش الأوكراني الذي تلقى تدريبات سابقة على يد خبراء غربيين ويحفظ بالفعل الطبيعة الجغرافية لأراضي بلاده عن ظهر قلب.
وإجمالًا، ليس من الممكن القول إن تدفقات المرتزقة من ناحية موسكو أو تدفقات الأسلحة على أوكرانيا من ناحية الغرب، تُبشر بأي شيء آخر سوى إطالة أمد الحرب التي أرهقت اقتصاد العالم أجمع.
باحث أول بالمرصد المصري