
الوثيقة التوافقية السودانية.. خطوة نحو حلحلة الأزمة
شكٌل توقيع عدد من الأحزاب السياسية السودانية على ما يُعرف باسم “الوثيقة التوافقية لإدارة المرحلة الانتقالية” في التاسع عشر من أبريل 2022، نقطة مهمة في خضم المشهد السياسي المتأزم، ومسارًا لحلحلة الأزمة الناجمة عن تصدع العلاقة بين المكونين العسكري والمدني التي نتجت قبيل قرارات 25 أكتوبر 2021 وما بعدها، ليبدأ السودان في مرحلة انتقالية جديدة ربما تُفضي في نهاية المطاف إلى معالجة التراكمات السياسية، وتُعيد الهدوء مرة أخرى للسودان على كافة المستويات.
ولعل تلك الوثيقة الناجمة عن توحيد قرابة 32 مبادرة وطنية لحل الأزمة السياسية السودانية بمثابة المؤشر للانتقال من مربع المبادرات والأطروحات المختلفة إلى مربع الحلول الواقعية والبراجماتية للتعاطي بين مكونات العملية السياسية من ناحية وبين قضايا السودان المتأزمة من ناحية أخرى، وتحقق تقدمًا إيجابيًا نحو الدفع بالمرحلة الراهنة لمسار من التماسك والاستقرار.
توافق حزبي وانفراجة للأزمة
إن تدهو الوضع السياسي السوداني بالرغم من النجاحات التي حققها الشعب السوداني بتغيير النظام ووضع وثيقة دستورية تشاركية كادت أن تعيد السودان مرة أخرى إلى مربع البداية في ضوء تأزم المشهد السياسي وتدهور الاوضاع الاقتصادية.
وما زاد من تعقيد هذا المشهد هو الاضطراب الذي شاب العلاقة التبادلية والتكاملية بين المكون العسكري والمدني والتي دفعت إلى اتخاذ إجراءات لتصويب المسار في الخامس والعشرين من أكتوبر، تبعها وضع تصعيدي سواء أكان على مستوى التكتلات الحزبية أو ميدانيًا، مما تطلب الأمر معه قدرًا من التدخل وجولات الحوار على ضوء تلك الأزمة، والتي استدعت مبادرات متعددة داخليًا وإقليميًا عبر الاتحاد الأفريقي ودول الجوار ودوليًا من خلال بعثة الأمم المتحدة “يونيتامس”، من أجل الوصول إلى نقاط تفاهم مشتركة وأرضية لمواجهة التحديات وإعادة استكمال المسار الانتقالي.
وبالرغم من فشل كافة الجولات المتعلقة بحلحلة الأزمة في ضوء تمسك قوى الحرية والتغير بمطالبها برفض التفاعل والتعاون مع المكون العسكري والإطاحة به في هذا التوقيت الحرج والذي أنتج وضعًا مشحونًا بين المؤيد والمعارض، خرجت قوى سياسية ومجتمعية بالسوادن للتوقيع على ما يُعرف باسم “الوثيقة التوافقية لإدارة الفترة الانتقالية” كأحد المبادرات الحيوية لحل الأزمة من أجل إدارة المرحلة الانتقالية وبمثابة الخروج من عنق الزجاجة حلًا للأزمة المتفاقمة وكسرًا لجمود العملية السياسية وأرضية حيوية للحوار بين الأطراف المختلفة للأزمة، تنص الوثيقة على الآتي:
- الإقرار بالحكم الانتقالي المزدوج والتشاركي بين المدنيين والعسكريين، مع تمديد الفترة الانتقالية، وإشراك كافة الأطراف السودانية وتوسيع المشاركة السياسية لكافة المكونات ما عدا حزب المؤتمر الوطني المنحل.
- اتخاذ الإجراءات اللازمة نحو تهيئة المناخ لإطلاق سراح المعتقلين السياسيين ورفع حالة الطوارئ التي اتُخذت في 25 أكتوبر 2021، مع العمل على بلورة وصياغة وثيقة دستورية توافقية جديدة تأخذ بعين الاعتبار متطلبات المرحلة الانتقالية وقضايا المجتمع السوداني.
- تمديد الفترة الانتقالية لمدة تسعة أشهر إضافية تنتهي بإجراء انتخابات رئاسية في مايو عام 2024.
- الاعتماد على نظام الحكم الفيدرالي، والالتزام بما تضمنته اتفاقية جوبا للسلام بشأن نوع الحكم، مع العمل على خفض عضوية مجلس السيادة إلى 11 عضوًا ليتشكل من ثمانية أعضاء مناصفة بين المدنيين والعسكريين وثلاثة أعضاء من أطراف اتفاق جوبا للسلام.
- اختيار رئيس للوزراء من الكفاءات الوطنية عقب عملية للتشاور بين القوى السياسية والمجتمعية وأطراف اتفاق جوبا للسلام، مع تشكيل مجلس تشريعي انتقالي من 300 عضوًا.
فرص النجاح والتنفيذ
بالنظر إلى التفاهمات الأخيرة والوثيقة التوافقية المشار إليها وما تضمنته من بنود مختلفة يمكن القول إنها مؤشر حيوي ومحرك ضروري للمرحلة الحالية، وتستند فرص نجاحها إلى الآتي:
شمولية التوافق: إن التوقيع على تلك الوثيقة وليدة المشاورات السياسية على مدار قرابة الستة أشهر نتج عن توافق نحو 79 من الأحزاب والحركات السياسية والمجتمع المختلفة، وهذا التوافق يُعد العمود الفقري للدفع بتلك الوثيقة نحو التطبيق، وصمام أمان لتنفيذها، ومن ثٌم نجاح هذه المبادرة والبناء عليها، خاصة في ضوء ثقل الأحزاب المشاركة بالتوقيع على تلك الوثيقة وعلى رأسها حزب الأمة القومي والحزب الاتحادي الديمقراطي وعدد من قوى الحرية والتغيير، إلى جانب حركة تحرير السودان وتجمع قوى تحرير السودان وحركة العدل والمساواة.
تطويق التحركات الإسلامية ومساعي العودة: الأمر الثاني يتجلى في بروز ما يعرف باسم “التيار الإسلامي العريض” الذي نجم عن تطورات المشهد السوداني الراهن وحالة السيولة السياسية والأمنية الداخلية في أعقاب التصدعات التي مرٌت بها الخرطوم في أعقاب الحراك الشعبي عام 2019، مما أسهم في تهيئة المناخ أمام بروز التيار الإسلامي في نمط مستجد. ويتجلى ذلك في الإعلان عن “التيار الإسلامي العريض” والذي يضم عناصر فاعلة من المؤتمر الوطني المنحل في عام 2019 والذي يُمثل الذراع السياسية للإخوان، علاوة على مجموعة أخرى من الأحزاب المتشددة منها حزب دولة القانون والتنمية وهو أحد الاحزاب المتشددة التي تتقارب فكريًا مع تنظيم داعش الإرهابي، والحركة الإسلامية، وحركة الإصلاح الآن، ومنبر السلام العادل، ولعل ذلك يتطلب التفافًا حزبيًا وشعبيًا ومجتمعيًا حول تماسك العملية الانتقالية للحيلولة دون صعود ذلك الحزب مرة أخرى.
افتقاد الثقة في تحالف الحرية والتغير: هناك تراجع بشأن التأييد والدعم الذي كانت تحظى به قوى الحرية والتغير –الشريك المدني السابق للعسكريين في السلطة الانتقالية- وفي القلب منها لجان المقاومة السودانية، والتي لا تزال تتمسك بموقفها حول اللاءات الثلاثة (لا تفاوض – لا شراكة – لا شرعية) هذا التراجع سواء من خلال تقلص مساحة وتكرار التظاهرات المختلفة أو عبر الانسلاخات المختلفة من هذا التكتل، مما ينذر بقدر من التعاطي الإيجابي العام مع هذا الطرح ويحقق قدرًا من الاستقرار السياسي نسبيًا.
وفي التقدير؛ إن تلك الوثيقة بمثابة نقطة جوهرية لتجاوز الأزمة السياسية وتأمين الانتقال الديمقراطي والسلمي لحكم مدني بالسودان، وتسهم بصورة كبيرة في تماسك النسيج السوداني الداخلي للحيلولة دون تفكك المجتمع وتحوله إلى ساحة للصراعات الأهلية والحزبية، خاصة وأنها تُعيد بناء الثقة بين المكونات السياسية بمختلف أطيافها وبين المكون العسكري من زاوية أخرى، لذا فهي منصة وطنية مفتوحة تشارك الأطراف السياسية جميعًا لبناء المرحلة الحالية، ولعل التوافق والتفاهم الواسع حيالها داخليًا وخارجيًا يفضي إلى نجاحها ومن ثٌم المضي قدمًا نحو إتمام المرحلة الانتقالية.