
النفط الليبي: معركة السيادة وصراع المصالح.. إلى أين وصل بعد سنوات من الصراعات؟
يعد النفط الليبي موضع جدل في الساحة الليبية، ويُعد ارتباطه بمصالح قوى خارجية على صعيدي الدول والشركات عاملًا حاسمًا في مسار صراع السلطة والنفوذ، وتعد المؤسسة الوطنية للنفط من أهم المؤسسات السيادية في ليبيا، فهي المسؤولة عن ۹٠٪ من دخل ليبيا النفطي، وتختص المؤسسة، والتي تم إنشاؤها عام ١۹٧٠، بإدارة إنتاج وتكرير وتصدير النفط، وتتحكم في أسعار المنتجات النفطية داخل ليبيا، فضلًا عن القيام بإجراء المفاوضات ومنح رخص التنقيب والإنتاج النفطي داخل الأراضي الليبية.
مقدمة
إن النفط قد شكل منذ اكتشافه في عام ١۸٥۹، ولا يزال حتى الآن، أحد أهم أسباب الصراع في العالم، وقد شغلت الطاقة مساحة كبيرة من خريطة الصراع العالمي طوال القرن الماضي. ولا يزال النفط حتى اليوم يشكل العصب الرئيس للطاقة، وحتى عندما ارتفعت أسعار النفط عقب حرب أكتوبر ١۹٧٣، وشعرت الدول الصناعية الكبرى وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا بإمكانية تحكم وسيطرة الدول المنتجة في الأسعار أو في ربطها بالمواقف والأجندات السياسية.
ولذلك سعت الدوائر العلمية في تلك الدول إلى أن تبحث عن بدائل للبترول وبأسعار معقولة، تحت شعار بأن ذلك في المتناول ومتاح، ولكن مع الوقت اكتشف العالم أن تلك لم تكن إلا خدعة إعلامية. وانطلاقًا من هذه الاعتبارات السياسية والاقتصادية كانت محاولات السيطرة على النفط تعني ضمان استمرار عمل الآلة الصناعية والآلة العسكرية معًا، أي بمعني أخر عنصري القوة والرخاء، وبات النفط يشكل قطاعًا مهمًا للاستثمار الرأسمالي، وهكذا كان النفط محورًا لصراع الرأسماليات والشركات والدول.
بجانب أن اكتشاف النفط قد أحدث ثورة هائلة في شكل الآلة وحجمها وقدراتها، وأصبح النفط بمثابة الدم الذي يجرى في شـريان الصناعة والحرب والنقل والتكنولوجيا، بل إن اكتشاف النفط شكل في حد ذاته حافزًا علميًا مهمًا لتسهيل المزيد من الاختراعات. ويمكننا القول إن الطائرة والصاروخ والأقمار الصناعية، وغيرها من الآلات المتقدمة لم تكن لترى النور من دون النفط.
وعليه فقد ظل النفط أقل تكلفة، وأفضل مصدر معروف للطاقة حتى الآن، وكان من الطبيعي أن تحاول الدول الصناعية الكبرى السيطرة على منابع النفط بصورة أو بأخرى، والتأثير بكل الوسائل على المنتجين، وقد دخل المعادلة منذ ذلك الوقت ما يسمى بالدم مقابل النفط، أي استعداد تلك الدول لنشر جيوشها وخوض الحروب من أجل تحقيق تدفق آمن ورخيص لهذه المادة الحيوية.
مدخل
اكتُشف النفط في ليبيا في وقت متأخر مقارنة بدول الخليج وانضمت إلى أوبك بعد عامين من التأسيس، وعند تأسيس منظمة الدولة المصدرة للنفط (أوبك) لم تكن ليبيا من الدول المصدرة للنفط آنذاك، ولكنها انضمت إلى المنظمة بعد عامين تقريبًا، وتحديدًا في عام ١۹٦٢، لتصبح العضو السابع في هذا الكيان.
ويعتمد اقتصاد ليبيا البالغ عدد سكانها حوالي ٦ ملايين نسمة بشكل أساسي على قطاع النفط الذي يشكل حوالي ٦۹٪ من عوائد الصادرات، وتسهم العوائد الكبيرة المحققة من قطاع الطاقة، إلى جانب انخفاض عدد السكان، في جعل ليبيا واحدة من أعلى الدول في أفريقيا من ناحية نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي.
وتعد ليبيا من أبرز الدول ذات الاحتياطات النفطية الكبيرة، والقيمة التصديرية العالية للنفط على مستوى العالم، حيث بلغت احتياطاتها حوالي ٤۸٬٤٧ مليار برميل وذلك في عام ٢٠١٥، وبلغ إنتاجها حوالي ١٬٠۸٣ مليون برميل يوميًا من النفط الخام، و١٬١٣٣ مليون من إجمالي السوائل، وأدت الفوضى المنتشرة في ليبيا منذ بداية عام ٢٠١١، إلى انخفاض معدلات إنتاج النفط إلى ما دون ١٬٦ مليون برميل، وتم إعفاء ليبيا، إلى جانب نيجيريا، من الصفقة الأولية لخفض الإنتاج التي وضعتها منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) وعشرة منتجين من خارج المنظمة وذلك في نهاية عام ٢٠١٦.
أهمية ليبيا استراتيجيًا
تُشكل الجغرافيا السياسية أداة مثالية لشرح طبيعة الدولة الليبية ووضعها الداخلي وتأثيرها في بيئتها الإقليمية والدولية، فالجغرافيا السياسية في أبسط تعريفاتها هي محاولات دراسة تأثير الجغرافية على السياسة، وعنـدما نتكلم عن الجغرافيا، فنحن نتحدث عن الحدود والموقع وطبيعة الأرض والسكان والموارد.
وهناك العديد من عوامل الضعف والقوة في الجغرافيا الليبية
تتشكل عوامل القوة في طبيعة الدولة الليبية ذات الطبيعة الصحـراوية؛ فهي تعد حاجزًا قويًا بين الشرق ممثلًا بمصر والسودان وبين الغرب ممثلًا بالكتلـة المغاربية، هذا الحاجز الصحراوي الممتد طولًا إلى ما يقرب من حوالي ٢٠٠٠ كيلو متر يمنع ذوبان هـذه الدولة الصحراوية في كل من الكتلتين الأكثر كثافة سكانية والأكثر إمكانيات من صناعة وتجارة وزراعة من الدولة الليبية.
وفي هذا الصدد يقول الدكتور جمال حمدان المتخصص المصري في الجغرافيا السياسية (العالم مضطر إلى أن يفرد ليبيا كوحدة جغرافية متميزة؛ فقد تكون هذه الوحدة ضئيلة الحجم والثقل كثيرًا أو قليلًا ولقد تختفي تمامًا أو حتى تتمزق وتُتَقاسم أحيانًا ولكنها تعود دائمًا إلى الظهور وتفرض نفسها حتى على المستعمر الخارجي كما على أبنائها أنفسهم في الداخل).
ويعد عامل القوة الثاني في ليبيا هو النفط، والذي بات يُمثل حوالي ۹٥٪ من موارد البلاد والذي اكتشف فيها لأول مرة في عام ١۹٥۸، وبدأ إنتاجه رسميًّا في البلاد في عام ١۹٦١، ووصل إنتاج النفط الليبي أقصى ذروته في الثمانينيات من القرن الماضي وبلغ ما يقرب من ثلاثة ملايين برميل يوميًا. وتتـزايد أهمية مكـانة ليبيا على خريطة النفط العالمية بوجود حوالي ٤٦٬٤ مليار برميل فيها كاحتياطيات مؤكدة من النفط، وهو ما ساعدها لاحتلال المركز الثامن دوليًا في حجم الاحتياطي الخام، وبنسبة ٤٬٤٪ من الاحتياطي العالمي.
وأكثر البترول الليبي يتم تصديره إلى الدول الأوروبية بما يعادل ٧۹٪ من صادرات النفط الليبي بسبب القرب الجغرافي والعلاقات التاريخية التجارية وجودة أنواع الخام الليبي والذي يتمتع بانخفاض المحتوى الكربوني وهو ما يساعد على سهولة عمليات تكريره. وكانت ليبيا تضخ ما يقرب من ١٬٢ مليون برميل يوميًا، ولكن بعد إغلاق حقلي النفط الشرارة والفيل في الفترات الماضية انخفضت معدلات إنتاج النفط الليبي إلى رقم غير مسبوق حيث بلغ معدل ٧٥ ألف برميل يوميًا.
وهذه الثروة الضخمة الناتجة عن تصدير النفط لها فاعليتها وقدرتها الهائلة؛ خاصة عندما نتحدث عن بلد بعدد سكان ليبيا يتجاوز ستة ملايين بقليل، وعند عمل مقارنة بين ليبيا وغيرها من الدول الصحـراوية العديدة التي جعل البترول منها كيانًا هو في الأصل كيان اصطناعي أو جعل منها الاستعمار كيانًا مصطنعًا من لا شيء؛ فالبترول في ليبيا لم يوجد كيانًا مصطنعًا وإنما (عمَّق ورسَّخ أساسها المادي وجدَّد شبابها السياسي) كما يقول جمال حمدان.
وبالانتقال إلى عوامل الضعف في الدولة الليبية، فنجد أهمها انفصال وحداتها المركزية الداخلية عن بعضها بفضل الصحراء أو بالصحراء والجبال معًا؛ فبالرغم من كون الصحراء أعطت قوة للدولة الليبية كحائط صد أمام أي ذوبان أو هجـوم خارجي، إلا أنها من جهة أخرى شكلت عامل ضعف أو عدم التئام أو ضعف التواصل بين أقاليـم ليبيا الثلاثة الرئيسية (طرابلس، وبرقة، وفزان)، وإذا كان تباعد إقليم فزان في الجنوب الصحراوي أمرًا مشهورًا، فإن هناك حاجزًا أيضًا يفصل بين إقليم برقة في الشرق وإقليم طرابلس في الغرب، وهي مسافة على امتداد حوالي ٦٥٠ كيلو مترًا من الصحراء الشاسعة بطول خليج سرت، وعزز من هذا التفكك ضعف المواصلات الداخلية بين هذه الأقاليم؛ فليبيا هي الدولة الوحيدة في منطقة المغرب العربي التي لا تمتلك شبكة للسكك الحديدية، والخطوط التي تم إنشاؤها لأغراض عسكرية في فترة الاستعمار الإيطالي غير مستخدمة منذ وقت طويل.
اكتشاف النفط الليبي
مؤشرات وجود النفط في ليبيا تعود إلى بدايات الربع الثاني من القرن الماضي على يد الجيولوجي الإيطالي ارديتو ديسيو والذي كان أول من اكتشف النفط في ليبيا وذلك عام ١۹٣۸، فقد وصل ديسيو إلى ليبيا مع المستعمر الإيطالي في أوائل الثلاثينيات وقاد أول حملة استكشافية وصل بها حتى جبال تيبستى، وعاد ليرسم أول خارطة جيولوجية للدولة الليبية؛ واكتشافه للنفط كان مصادفة من خلال إشرافه على حفر آبار مياه جوفية عميقة شرق مصراتة، وعبأ منه زجاجتين، أخذ إحداهما إلى إيطاليا حيث ظهرت في صورة توثيقية وهو يحملها في يده، بينما ترك الثانية في ليبيا حيث لم يُعرف شيء عن مصيرها.
أما اكتشاف الذهب الأسود بكميات اقتصادية فقد كان في عام ١۹٥۸، وبدأ تصديره في عام ١۹٦٢، أي بعد عقد من استقلال البلاد حيث مكنها النفط من الشروع في برنامج اقتصادي تنموي أحدث نقلة واضحة في الواقع الاقتصادي والاجتماعي الليبي، بعد أن صنفت ليبيا كأفقر بلد عالمي في عام ١۹٥١. وكانت من بين أولى الشركات العالمية والتي دخلت الأراضي الليبية هي شركتي إيسو وموبيل وذلك في عام ١۹٥٥، وقد حصلت الشركات على امتيازات وإعفاءات كثيرة، حيث تمركز نشاطها فيما عُرف بحوض سرت، وبالتحديد البريقة والواحات، فقد كان حقل إيسو أول حقول إنتاج النفط وأطولها عمرًا إذ لا يزال حقلا منتجًا إلى يومنا هذا، وقد نجحت الشركة في الوصول لمعدلات إنتاج تصل إلى حوالي ١٧٠٠٠ برميل يوميًا في العام الأول، ثم ارتفع سقف إنتاجها ليتخطى حاجز ١٠٠ ألف برميل يوميًا قبل انتهاء عقد الستينيات.
والمفارقة أن القفزة النوعية حدثت في إنتاج النفط الليبي حيث أصبحت ليبيا من أكبر منتجي النفط في العالم العربي، متخطية سقف إنتاج المملكة العربية السعودية، حيث ارتفعت معدلات الإنتاج من ١٠٠ ألف إلى مليون برميل خلال ٥ سنوات، ثم استمرت معدلات الإنتاج في الارتفاع حتى بلغت ٣٬٥ مليون برميل يوميًا، وأصبحت ليبيا تضاهي إيران في الإنتاج في ذلك الوقت، وسعر برميل النفط مع إنتاجه بكميات اقتصادية كان في حدود دولارين.
ووقعت الطفرة السعرية مع بداية مطلع السبعينيات وذلك بعد إبرام اتفاقية طرابلس، حيث قادت ليبيا عملية تغيير الأسعار العالمية، وباتت الدول المنتجة هي التي تحدد أسعار النفط، ثم وقع التغيير الأهم في عام ١۹٧٣ وذلك مع تأسيس مجموعة الدول المنتجة والمصدرة للنفط أوبك. ومن بين السياسات التي مرت بها ليبيا في صناعة النفط هي التأميم الذي كانت له أنواع مختلفة، منها التأميم بمقابل أي بتعويض، و التأميم الجزئي، والتأميم الكامل مثل مع حدث مع شركة BP والتي أصبح اسمها شركة الخليج العربي.
ثروة ليبيا النفطية
تمتلك ليبيا أكبر احتياطيات مؤكدة من النفط الخام في أفريقيا، والصراع المستمر منذ عام 2011، وأطاح بالرئيس الأسبق معمر القذافي، أثر بالسلب في مستويات الإنتاج في البلاد؛ وحتى نهاية عام ٢٠٢٠، كانت ليبيا تمتلك حوالي ٤۸٬۸ مليار برميل من احتياطيات النفط الخام المؤكدة، وفق بيانات بي بي، أي ما يعادل حصة قدرها ٤٬١٪ من احتياطي منظمة الدول المصدّرة للنفط (أوبك).
وتشغل ليبيا بذلك المرتبة السابعة في قائمة أكبر الدول في منظمة أوبك من ناحية الاحتياطي النفطي، بحسب البيانات المنشورة على موقع أوبك، وتحتوي أراضيها على أحواض وحقول وموانئ نفطية مهمة، ويمثل النفط نحو ۹٥٪ من إجمالي الإيرادات في ليبيا، وتخطت إيراداته العام الماضي حوالي ٢٢ مليار دولار، ويؤمن الجيش الليبي أهم حقول النفط في البلاد، وأبرزها حقل شرارة النفطي، الأكبر في البلاد الذي ينتج حوالي ٣٠٠ ألف برميل من النفط يوميًا، ويقع حقل الشرارة، المكتشف عام ١۹۸٠، في صحراء مرزق جنوب طرابلس.
وليس بعيدا عن الشرارة يوجد حقل الفيل، الذي يوجد أيضًا في حوض مرزق، ويغطي مساحة واسعة في الجنوب الغربي. مكامن الثروة النفطية في ليبيا تكمن أيضًا في الهلال النفطي شمال شرقي البلاد، وتمتد المنطقة على طول ٢٥٠ كيلومترًا إلى الشرق، بين سرت وبنغازي، وتخضع لسيطرة الجيش الوطني، وتتمركز فيها أهم موانئ البلاد النفطية مثل ميناء السدرة ورأس لانوف والبريقة والزويتينة.
الغاز الطبيعي
تمتلك لبيبا ١٬٤ تريليون متر مكعب من الاحتياطيات المؤكدة للغاز الطبيعي بنهاية عام ٢٠٢٠، وفق بيانات بي بي السنوية، ما يجعلها خامس أكبر مالك لاحتياطي الغاز في القارة الأفريقية. وقد تعطل إنتاج الغاز الطبيعي الليبي بالكامل تقريبًا كما هو الحال مع النفط لفترات طويلة وذلك في عام ٢٠١١، قبل أن يبدأ في التعافي حتى بلغ ١٣٬٣ مليار متر مكعب بنهاية عام ٢٠٢١، مقارنة مع ١٦ مليار متر مكعب عام ٢٠١٠، بحسب شركة بي بي.
وصدّرت ليبيا حوالي ۹٬١ مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي عام ٢٠١۹، مقارنة مع ٤٬٥١ مليار متر مكعب في العام السابق له، إذ تحاول الصناعة التعافي بعد الأزمة السياسية، وتذهب جميع صادرات ليبيا من الغاز الطبيعي إلى إيطاليا عبر خط أنابيب جرين ستريم (Green stream) إذ يعالج الغاز الطبيعي المنقول من حقل الوفاء البري وحقل بحر السلام البحري من أجل التصدير.
أين تقع حقول النفط
تعتبر منطقة الهلال النفطي، أبرز المناطق التي تضم حقول نفط ليبية، ويمثل إنتاجها حوالي ٦٠٪ من صادرات النفط الليبي، وتقع هذه المنطقة في حوض سرت الذي يقع شرق ليبيا، ويضم ١٦ حقلًا منتجًا منها حقل السرير، وهذه المنطقة بها ٤ موانئ رئيسة هي ميناء الزويتينة والبريقة ورأس لانوف والسدرة، وجميعهم يطلق عليهم الهلال النفطي، نظرًا لأن شكل المنطقة يشبه الهلال على الخريطة.
وتعد المنطقة موردًا مهمًا لخام النفط الخفيف منخفض الكبريت والذي تصدره ليبيا، وينتشر النفط الليبي فيما بعد في عدة أحواض منها حوض غدامس ويقع في الشمال الغربي من ليبيا، وتمتد أجزاء منه داخل حدود تونس والجزائر، وحوض مرزق في الجنوب الغربي وحوض تريبوليتانيا البحري الذي يقع في المياه الليبية إلى الشمال الغربي باتجاه مدينة صبراتة، وفي ليبيا نحو ٣١ خطًا لأنابيب النفط الخام بطول ٣٤۸۹ ميل، بحسب بيانات المنظمة العربية للدول المصدرة للنفط (أوابك).
إنتاج النفط الليبي
كان إنتاج النفط الليبي قد وصل إلى مستوى ١٬٥٥٧ مليون برميل يوميًا في عام ٢٠٠۹، لكنه انخفض بشكل حاد إلى ٤٦٢ ألف برميل يوميًا عام ٢٠١١، وهو ما تُرجم إلى انكماش اقتصادي بنحو ٦٦٬٧٪ في العام ذاته، قبل أن يعود إلى التعافي. ومنذ عام ٢٠١٧، اتبع إنتاج النفط الخام في ليبيا اتجاهًا صعوديًا، إذ زاد من ۸١١ ألف برميل يوميًا إلى ۹٥١ ألف برميل في العام التالي له، قبل أن يسجّل ١٬٠٧۹ مليون برميل يوميًا في عام ٢٠١۹.
وأدى الانخفاض الحاد في إنتاج ليبيا النفطي خلال عام ٢٠٢٠ إلى انكماش اقتصاد البلاد حوالي ٦٦٬٧٪ كما تشير تقديرات صندوق النقد الدولي، وجاء الهبوط في إنتاج النفط الليبي خلال عام ٢٠٢٠، على الرغم من إعفاء البلاد من اتفاق كبح الإمدادات بين تحالف أوبك+ الذي بدأ في منتصف عام ٢٠٢٠، استجابة إلى انهيار أسواق الخام على خلفية تداعيات وباء كورونا.
ومنذ أكتوبر من عام ٢٠٢١ تضخ ليبيا ١٬١٦٤ مليون برميل يوميًا من النفط الخام، وعلى خلفية تصاعد التوتر في ليبيا التي تشهد نزاعًا متصاعدًا، أكد وزير النفط الليبي أن إنتاج البلاد من الخام تراجع إلى ما دون المليون برميل يوميًا، وذلك رغم الارتفاعات الكبيرة للأسعار خلال الربع الأول من عام ٢٠٢٢، في وقت تحتدم فيه الأزمة السياسية بالبلاد، وفي سياق دولي متوتر على خلفية الغزو الروسي لأوكرانيا.
ويمثل تراجع الإنتاج الليبي مشكلة أخرى لإمدادات منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) والتي يطالبها كبار المستوردين، ومن بينهم الولايات المتحدة الأمريكية واليابان، بالإسراع في زيادة معدلات الإنتاج بهدف خفض سقف الأسعار التي يشهدها العالم كنتيجة للعمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا. وكان الإنتاج في حقلي الشرارة النفطي، أكبر حقول ليبيا، والفيل قد تعطل خلال الأيام الماضية بعدما أغلقت جماعات غير معروفة صماماتهما الرئيسة، وتم إغلاق ستة موانئ لشحن النفط الليبي إلى الأسواق الدولية الخميس الماضي، إلا أنه جرى استئناف العمل في أربعة.
النفط الليبي والخلافات السياسية
شكّل النفط طوال العقود الماضية العمود الفقري لاقتصاد ليبيا وكان أهم مصدر للدخل في البلاد، لكنه اليوم بات سببا رئيسًا في انهيار المنظومة الاقتصادية عوضًا عن أن يكون محركها بعد أن أصبح وقودا للصراع المسلح بين الشرق والغرب وسببا في المشاكل التي تعيشها البلاد. ما يلبث إنتاج النفط الليبي أن يتعافى حتى يتلقى ضربة جديدة، ليظل ضحية الخلافات السياسية والاضطرابات الأمنية في البلاد منذ عام ٢٠١١.
وقد توقف إنتاج النفط في البلاد مرارًا خلال الأزمات السياسية على مدى العقد الماضي، وما لبث أن تعافى خلال ٢٠٢١، من تداعيات الاضطرابات السياسية وأزمة كورونا، حتى استقبل العام الجاري بأزمات أخرى؛ فضلًا عن العديد من الإغلاقات التي شهدها حقل الشرارة منذ ٢٠١١، كان أبرزها إغلاق صمامات ضخ النفط الخام بين عامي ٢٠١٤ و٢٠١٦، وتزامنت أيضًا مع طفرة الأسعار.
ففي منتصف الشهر الماضي شهد إنتاج النفط في ليبيا صدمة جديدة بإعلان حالة القوة القاهرة في حقلي الشرارة والفيل، بعد إغلاق صمامات ضخ الخام من قبل ما أسمته مؤسسة النفط الليبية مجموعة من العصابات المشبوهة المسلحة قبل أن تعلن استئناف الإنتاج في حقل الشرارة وحده بعد ٤۸ ساعة من الإغلاق.
والقوة القاهرة هي إجراء يُتخذ عادةً في ظروف معينة خارجة عن إرادة الأطراف، مثل الحرب أو الأعمال العدائية أو الكوارث الطبيعية؛ ما يعفي أحد الطرفين أو كليهما من تنفيذ العقد بطريقة ما بعد وقوع مثل هذه الأحداث، ولن يكون هذا الطرف مسؤولًا عن إخفاقه في الالتزامات المنصوص عليها في العقد المبرم؛ وتسبب إغلاق حقلي الشرارة والفيل لمدة ٤۸ ساعة فقط، بفقدان حوالي ٦٦٠ ألف برميل من إنتاج النفط الليبي؛ مما وصل حجم الخسائر إلى ما يقارب ۸٠ مليون دولار خلال ٤۸ ساعة، في وقت عانقت فيه أسعار الخام مستويات لم تشهدها منذ ٢٠٠۸، وذلك بالقرب من ١٢٠ دولارًا للبرميل.
سلاح النفط الليبي يدخل لعبة السياسة خلال أسبوع واحد فقط!
من جديد يصبح قطاع النفط الليبي ضحية أولى للاضطرابات السياسية في الأراضي الليبية، بعد أن أغلق محتجون اثنين من أكبر حقول النفط، وتراجعت معدلات الإنتاج إلى 920 ألف برميل بعد أن قاربت خلال الأشهر الماضية حاجز ١٬٣ مليون برميل يوميًا، مما يشكل ضربة لاقتصاد البلاد في وقت اقتربت فيه أسعار النفط من سعر ١٢٠ دولارًا للبرميل الواحد، وعانت حقول الإنتاج وموانئ التصدير الليبية الإغلاقات المتكررة خلال السنوات الماضية، مما تسبب في تذبذب مستمر لمعدلات الإنتاج التي لم تصل أبدًا خلال هذه الفترة إلى معدلاتها القياسية، والتي تقترب من حوالي ١٬۸ مليون برميل يوميًا؛ سلسلة جديدة من الاغلاقات وإعلان القوة القاهرة خلال أسبوع واحد.
أعلنت المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا حالة القوة القاهرة في حقل الفيل ثاني أكبر حقول النفط في البلاد بسبب توقف الإنتاج بعد اقتحامه من قبل مجموعة من الأفراد وقالت المؤسسة الوطنية، في بيان الأحد الماضي، تعرض حقل الفيل النفطي يوم السبت الماضي إلى محاولات الإغلاق التعسفي، بسبب دخول مجموعة من الأفراد ومنع المستخدمين من الاستمرار في الإنتاج الذي توقف بالكامل اليوم الأمر الذي جعل من تنفيذ المؤسسة لالتزاماتها التعاقدية أمرًا مستحيلًا؛ وتابع البيان وعليه فإن المؤسسة الوطنية للنفط مضطرة لإعلان حالة القوة القاهرة لحين إشعار آخر، مشيرًا إلى أن المؤسسة الوطنية للنفط تطالب بتغليب لغة العقل والنأي بقطاع النفط عن الصراعات للحفاظ على ما تبقى من البنية التحتية المتهالكة والمهترئة أصلًا، بسبب تبعات الإغلاقات العشوائية طوال السنوات الماضية، فضلا عن شح الميزانيات خلال الأعوام الماضية، ويقع حقل الفيل في جنوب غربي ليبيا، وتبلغ طاقته الإنتاجية في السابق ٧٠ ألف برميل يوميًا.
وأعلنت المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا، يوم الاثنين الماضي، فرض حالة القوة القاهرة على حقل الشرارة النفطي بمنطقة حوض مرزق جنوب غرب ليبيا؛ وأشارت المؤسسة في بيان، عبر وكالة الأنباء الليبية (وال) إلى سبب الإعلان إلى دخول مجموعة من الأفراد على المستخدمين في حقل الشرارة النفطي الأمر الذي اضطرهم إلى ايقاف تدريجي للإنتاج بالحقل.
وأضافت، إن إيقاف الإنتاج بحقل الشرارة النفطي جعل من تنفيذ المؤسسة لالتزاماتها التعاقدية أمرًا مستحيلًا، وعليه فإن المؤسسة مضطرة لإعلان حالة القوة القاهرة على الحقل إلى حين اشعار آخر، ويعد خام حقل الشرارة المزود الرئيسي لمصفاة الزاوية والتي تغذي بدروها السوق المحلي بالمحروقات، حيث يُدار حقل الشرارة بواسطة شركة أكاكوس، والتي تتوزع أسهمها بين المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا وشركات ريبسول الإسبانية وتوتال الفرنسية وأو إم في النمساوية كما يبلغ إنتاج الحقل ٢۸٥ ألف برميل يوميًا.
وأعلنت المؤسسة الوطنية للنفط الليبية يوم الثلاثاء الماضي، في بيان، حالة القوة القاهرة فى ميناء البريقة النفطي؛ لاستحالة تنفيذ التزاماتها وتعهداتها تجاه السوق النفطية وقالت المؤسسة الوطنية للنفط الليبية إن الخام الليبي يتعرض إلى موجة اقفالات غير شرعية فى وقت تشهد فيه أسعار النفط انتعاشًا كبيرًا جراء زيادة الطلب العالمي عليه.
وحذر بيان المؤسسة من أن هذه الإقفالات سيكون لها بالغ الضرر على الآبار والمكامن والمعدات السطحية لقطاع النفط، إضافة إلى فقدان خزينة الدولة لفرص بيعية محققة بأسعار قد لا تتكرر لعقود مقبلة؛ وحذرت المؤسسة من أن إيقاف الإنتاج بشركة سرت لإنتاج وتصنيع النفط والغاز ستكون له تداعياته على استقرار الشبكة العامة للكهرباء وخاصة المنطقة الشرقية، إذ إن معظم المحطات الكهربائية تتغذى على الغاز المنتج من حقول الشركة.
ووجهت هذه الإغلاقات ضربة إلى الآمال الليبية والتي عُلقت على الزيادة الكبيرة في أسعار النفط الخام وإعطاء دفعة للاقتصاد الليبي الذي يواجه أزمات كبيرة، وتأتي في وقت تسببت فيه الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا بزيادة سعر برميل النفط؛ وكشفت المؤسسة الوطنية للنفط حجم الخسائر التي تكبدتها جراء إغلاق صمامات ضخ الخام من حقلي الشرارة والفيل، مبينة أنها تتسبب في فقدان ٣٣٠ ألف برميل يوميًا وخسارة يومية حوالي أكثر من ١٦٠ مليون دينار ليبي أي ما يعادل حوالي ٣٣٬٣ مليون دولار.
خلاصة القول، يعمق الصراع الدولي على النفط في ليبيا، الذي يعد رابع أكبر احتياطي في أفريقيا، الانقسامات المحلية والخلافات الدولية على موارد النفط في البلاد التي تشهد حالة فوضى منذ سقوط نظام معمر القذافي في عام ٢٠١١؛ ويحتاج قطاع النفط الليبي إلى وضع خطة طويلة الأجل، تبدأ أولًا بسداد الديون المتراكمة على شركات النفط، وذلك بسبب ضعف التمويل منذ عام ٢٠١٥، إذ ما زالت مؤسسة النفط تتلقى حوالي ٤٥٪ فقط من موازنتها؛ وكي تستمر معدلات الإنتاج يجب إنشاء صندوق للتنمية المستدامة لإدارة المساعدات المخصصة للمناطق المجاورة للعمليات النفطية، لتجنب أي خلافات مع المكونات القبلية حولها، مما يجعل رفع سقف الإنتاج استراتيجية وطنية يجب أن يتعاون فيها الجميع، ويحتاج تنفيذها إلى خطة ذات أبعاد أمنية ويقابلها شفافية تشارك فيها جميع مؤسسات الدولة، حتى تنعكس إيراداتها على تطوير حياة الشعب الليبي.
وفي الأخير عندما يحترق النفط وينتهي؛ سوف ينتهي معه مسلسل وحدة ليبيا وحدة أراضيها، وسوف يعود الليبيين إلى مربع ما قبل اكتشاف النفط وينتبه المواطن الليبي إن الزراعة مهمة والصناعة مهمة والسياحة والتنمية مهمة أما النفط فهو لعنة الليبيين منذ اكتشافه.