
“ماكرون” أم “لوبان”: من سيفوز بأصوات اليسار في الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة الفرنسية؟
كشفت المناظرة التليفزيونية التي عقدت مساء الأربعاء الموافق العشرين من أبريل 2022، قبل الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة الفرنسية المُقرر عقدها في الرابع والعشرين من نفس الشهر بين مرشحي الرئاسة الفرنسية الذين تأهلوا بعد الجولة الأولى، عن رؤى وتصورات كل منهم بشأن العديد من الملفات الداخلية والخارجية، التي من المتوقع أن تؤثر على عملية التصويت يوم الأحد المقبل بشكل كبير.
تأتي المناظرة بعد أن تمكن الرئيس الفرنسي المُنتهي ولايته “إيمانويل ماكرون” من إحراز تقدم في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة الفرنسية التي عقدت في العاشر من أبريل، وحصل على أعلى نسبة تصويت بنحو 28 %، فيما جاءت في المركز الثاني رئيسة حزب “التجمع الوطني” زعيمة اليمين المتطرف “مارين لوبان” التي نالت 23.15%، وهو ما أهلهم لخوض الجولة الثانية من الانتخابات للمرة الثانية بعد خمس سنوات.
كما نال إجمالي أحزاب اليسار ما يقرب من 30%؛ إذ حصل “يانيك جادو” زعيم حزب الخضر على 4.5%، ونال “فابيان روسيل” زعيم الحزب الشيوعي على 2.31% من الأصوات، فيما حصلت مرشحة الحزب الاشتراكي على ما يقرب من 1.8%، أما اليساري المتشدد “جان لوك ميلينشون” مرشح حزب “فرنسا الأبية” وحده حصل على ما يقرب من 22% من الأصوات، مُحتلاً بذلك المركز الثالث، وهو ما سيجعل أصوات ناخبوه ذات تأثير كبير بشكل نسبي على عملية التصويت في الجولة الثانية، وخاصة أنه ناشدهم بعدم التصويت لصالح “لوبان”، ولكنه لم يقل صراحة أنه سيدعم “ماكرون”.
في المقابل؛ دعا مرشحو الأحزاب اليسارية (الاشتراكي، الخضر، والشيوعي) بجانب مرشحة الحزب الجمهوري ناخبيهم للتصويت إلى “ماكرون”، وعليه يمكن القول إن أصوات ناخبي اليسار بصفة عامة، وناخبي “ميلينشون” خاصة سيكونون معروفين باسم “صانع الملوك”. على الجانب الآخر دعت لـ “لوبان” للتصويت لها في الجولة الثانية وخاصة من لم يصوتوا لـ”ماكرون”، كما إنه تلقت دعمًا من قبل مرشح حزب “الاسترداد” “إريك زيمور” الذي حث ناخبوه للتصويت لصالح “لوبان”.
براجماتية التصويت
كشفت عملية التصويت في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة الفرنسية على تفضيلات الناخبين الفرنسيين لاختيار المرشحين الذين تنافسوا لخوض الجولة الأولى -الذي بلغ عددهم 12 مرشحًا- عن عدد من الدلالات التي تجسدت بشكل واضح في التصويت لكل من “ماكرون” و”لوبان” و”ميلينشون” فيما يلي سيتم التطرق إلى الفئات التي قامت بعملية التصويت والأسباب التي حفزتهم للقيام بذلك:
أولًا: الخيار الآمن:
استطاع “ماكرون” الفوز بأعلى نسبة تصويت التي كانت متقاربة مع استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات؛ حيث كان أبرز ناخبيه من الأثرياء، وكبار السن فوق 65 سنة عامًا، بجانب ذوي المؤهلات العليا، والدخول المرتفعة، وسكان المدن، وذلك باعتباره أكثر مرشح يتوافق مع مصالحهم لعدد من الأسباب تتجسد أبرزها في:
تبنيه أجندة سياسية وسط قد تميل في بعض الأحيان نحو اليمين، بجانب نهجه الإصلاحي، على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، مواقفه من عدد من الملفات مثل الهجرة التي يرغب في ضبطها من خلال إصلاح منطقة شنجن، وتعزيز أمن الحدود. أما فيما يتعلق بالإسلام فقد حاول محاربة “انفصالية الإسلاموية” وهو المشروع السياسي الذي يرغب في خلق مجتمع انعزالي موازٍ لقيم الجمهورية، بجانب اتخاذ موقف مهادن ومغاير عن “لوبان” فيما يتعلق بارتداء الحجاب، أما فيما يتعلق بسن التقاعد فكان من الملفات التي أثارت الجدل لأنه كان يرغب في رفعه إلى سن 65عامًا. فضلاً عن أنه من مؤيدي الاتحاد الأوروبي وداعم لعمليات التكامل بين الدول الأوروبية لتحقيق الاستقلال الاستراتيجي، ويعمل على تعزيز مكانة فرنسا كفاعل جيواستراتيجي في التعاطي مع القضايا الدولية والإقليمية.
إدارته للأزمة الأوكرانية باعتباره رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي، ودوره في لعب جهود الوساطة بالتنسيق مع ألمانيا، واستمرار فتح قنوات للاتصال والحوار مع روسيا في محاولة لوقف العملية العسكرية، وتجنب استمرار تفاقم الأوضاع الإنسانية في أوكرانيا التي ستكون لها تداعيات على كافة الدول الأوروبية في المرحلة المقبلة، وخاصة فيما يتعلق بتنامي عدد اللاجئين، وتداعيات العقوبات الاقتصادية على الدول الأوروبية.
بجانب تأخير الإعلان عن ترشحه للتقليل من تكلفة المواجهة السياسية التي قد تعصف بمنصبه وخاصة إنه يواجه عدد من التحديات الداخلية مثل حالة الانقسام بشأن سياساته الاصلاحية بين أبناء الطبقة الوسطى لكونها أثرت بشكل مباشر على قدراتهم الشرائية، علاوة على الانتقادات الموجهة إليه فيما يتعلق بملف الطاقة والمناخ والتقاعد والشرطة.
ثانيًا: الخيار المُضاد
حظيت “لوبان” بتأييد واضح من قبل الفئات التي قد تكون تضررت من سياسات “ماكرون”، التي تتراوح أعمارهم بين 25 و64 عامًا، ومتوسطة ومنخفضة الحال، والمؤهلات المتوسطة والعمال. وبالنظر إلى نسب التصويت لحزبي اليمين المتطرف فإنهم حققوا تقدمًا واضحًا في الجولة الأولى من الانتخابات فقد حصلوا على 30% من أصوات الناخبين في الداخل أما الخارج نحو 13%. لكن بالنظر إلى نسبة كل من “لوبان” و”زيمور” بشكل منفرد فمن الواضح أن “لوبان” استطاعت التأثير على ناخبي الداخل على عكس الخارج، وهو ما تجلى على سبيل المثال في المغرب فقد استطاع “زيمور” التقدم بشكل طفيف على “لوبان”؛ إذ حصل على 6.6%، مقابل 4.4% لــ “لوبان”. وقد يمكن إرجاع ذلك لعدد من الأسباب تتجسد في:
- حاولت “لوبان” تقديم خطابًا سياسيًا أقل تطرفًا قبل الجولة الأولى من الانتخابات الفرنسية يستهدف بالأساس المعارضين لسياسات “ماكرون”، والفئات العمرية المختلفة واستقطاب أكبر عدد من الشباب، وذلك من خلال التركيز بشكل أساسي على التحديات الداخلية مثل أزمة ارتفاع تكلفة المعيشة، وسن التقاعد التي ترغب أن يكون عند 62 عامًا.
- قللت من حدة خطابها بشأن عضوية فرنسا في الاتحاد الأوروبي، نافيةً فكرة الـ “فريكسيت”. فضلاً عن مناوراتها السياسية فيما يتعلق بروسيا وعلاقاتها السابقة بها؛ حيث أدانت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، فيما رفضت العقوبات الروسية لما لها من تداعيات على الفرنسيين أسوا من تداعيات الجائحة.
- استمرار خطابها المعادي للهجرة؛ حيث ترغب في إدخال عدد من الإصلاحات الحازمة بشأن الملف، فضلاً عن رفضها للحجاب ورغبتها في منعه في الأماكن العامة وتغريم من يرتديه، لإنها تعتبره “زي رسمي” تم فرضه من قبل الراديكاليين الإسلاميين. وبالرغم من ذلك حاولت أن تكون أقل تطرفًا من “زيمور” الذي لديه العديد من المواقف المُثيرة للجدل في كثير من الملفات هو ما انعكس في نسب التصويت.
ثالثًا: الخيار البديل
حصل “ميلينشون” على عدد كبير من أصوات الشباب، والداعمين له بجانب بعض الناخبين غير الراضيين عن سياسات “ماكرون”، والرافضين لنهج “لوبان”، وعلى أصوات من العائلات ذات الدخل المنخفض والمتعلمين، وأيضًا عدد من المهاجرين، والمسلمين.
- وبالرغم من ذلك لم تستطع هذه الفئات تحقيق تقدم كبير يعزز من موقف “ميلينشون” إبان الجولة الأولى، ولكنه ناشدهم بعدم التصويت لـ “لوبان”، وطرح عبر الإنترنت ثلاثة اختيارات لمؤيديه تتضمن: التصويت لماكرون، أو الإدلاء بصوت فارغ، أو الامتناع. لكي يقرروا بشكل نهائي موقفهم من الجولة الثانية.
- في هذا السياق؛ لم تكن نتائج الجولة الأولى من الانتخابات مُرضية لبعض الفئات مثل الطلاب التي خرجت للاحتجاج أمام عدد من الجامعات مثل جامعة السوربون، مُرددين “لا ماكرون ولا لوبان”. علاوة عن حدوث اشتباكات بين قوات الأمن التي حاولت تفريق المظاهرات الطلاب في الشوارع القريبة من محيط الجامعة.
- لذا من المتوقع أن يسعى كل من “ماكرون” و”لوبان” للحصول على أكبر عدد من أصوات اليسار وخاصة الأصوات التي دعمت “ميلينشون” التي تُقدر بنحو سبع مليون شخص؛ حيث أوضحت استطلاعات الرأي أن 30٪ من ناخبي “ميلينشون” قد يصوتون لـ “ماكرون”، مقابل 23٪ سيصوتون لـ “لوبان”، أما الباقي التي تقدر نسبتهم 47% فمنهم من سيصوت دون اختيار أي من “ماكرون” أو “لوبان”، ومنهم من سيمتنع عن التصويت. وذلك بالتزامن مع تقدم “ماكرون” بنحو 54% على “لوبان” التي حظيت بـ 46% في استطلاعات الرأي وفقًا لـ ” politico“.
محاولات للاستقطاب
تمهيدًا لخوض الجولة الثانية من السباق الرئاسي يحاول كلا من “ماكرون” و”لوبان” توظيف نقاط ضعف بعضهم البعض، وتحويلها لفرصة يمكن من خلالها حشد أكبر عدد ممكن من الناخبين من خلال تبني خطاب سياسي عقلاني في بعض الأحيان، إبان جولاتهم الانتخابية ولقاءاتهم لتوضيح مواقفهم من القضايا الداخلية.
بالنسبة لـ “ماكرون” فقد حاول مواصلة حملته الانتخابية مستهدفًا المناطق التي لم تصوت له بشكل كبير، ومعاقل اليسار الفرنسي، علاوة على الاهتمام ببعض القضايا التي تشغلهم مثل سن التقاعد؛ إذ أوضح أن هناك إمكانية لتعديل سن التقاعد ليكون أقل من 65 عامًا، مع جعل الحد الأدنى للمعاش بعد بلوغ سن التقاعد نحو 1100 يورو، والمناخ -فعلى سبيل المثال- أعرب “ماكرون” من موقفه من قضايا المُتعلقة بالبيئة والمناخ، والإجراءات التي سيتخذها بشأن هذه القضية إذا حصل على ولاية ثانية، خلال تجمع انتخابي له عقد في السادس عشر من أبريل، في مرسيليا -التي صوتت لصالح ميلينشون بنسبة 31% في الجولة الأولى- متعهدًا بجعل فرنسا “أمة إيكولوجية عظيمة”.
واستكمل قائلًا: “اليمين المتطرف هو مشروع متشكك في المناخ، ويريد أن يترك طموحات أوروبا المناخية ويريد تدمير طواحين الهواء”، في محاولة لاستمالة ناخبي الخضر بشكل خاص واليسار علمًا بتوجهاته المتعلقة بالبيئية والمناخ.
أما “لوبان” لم تكن في معزل عما ما يقوم به “ماكرون”، بل كانت تسير على نفس النهج الذي يركز على حشد أكبر عدد ممكن من المؤيدين من خلال الاهتمام بالقضايا الاقتصادية المُلحة مثل دعم الفئات الهشة في المجتمع، وسن التقاعد التي ترغب في أن يكون 62 عامًا، علاوة على محاولة تحسين صورتها، وخاصة إنها تتعرض لعدد من الانتقادات نتيجة موافقها في بعض القضايا مثل الهجرة، وتوجهاتها بشأن الاتحاد الأوروبي إذا فازت في الانتخابات، وموقفها من روسيا هو ما تم ترجمته في عدد من المظاهرات التي خرجت ضدها، في توقيت يجب أن تعمل فيه على دعم شعبيتها، وهو ما اعترضت عليه “لوبان” واعتبرت أن هذه المظاهرات “مناهضة للديمقراطية”.
ومن الواضح أن “لوبان” ستخوض جولة أخرى أكثر صعوبة لكونها مازالت عند موقفها من بعض القضايا التي حاولت فيها الالتزام بخطاب مهادن، ولكنه يحمل في طياته موقفًا مغايرًا لما هو مُعلن وهو ما سبق أن فعلته بشأن روسيا قبل الجولة الأولى، ومستمرة عليه حتى الآن؛ إذ صرحت في الثامن عشر من أبريل في مقابلة مع الإذاعة الفرنسية العامة “إنها إذا كانت رئيسة، فإنها ستتعامل مع روسيا بعد الحرب في أوكرانيا للتأكد من أن موسكو لن تنشئ تحالفًا مع بكين”، كما أنها “تقف إلى جانب أوكرانيا في الحرب لأنها من مؤيدي السيادة الوطنية”. أما فيما يتعلق بشبه جزيرة القرم فقد اعتبرت أن “وضعها مغايرًا تمامًا عن الغزو الروسي لأوكرانيا”.
مواجهة حاسمة
ناقش كلا “ماكرون” و”لوبان” عدد من الملفات والقضايا خلال المناظرة التليفزيونية الأخيرة التي استمرت ما يقرب من ثلاث ساعات وتم بثها على قناة TF1 و France 2، وشاهدها ما يقرب من 15.6 مليون مشاهد وهو عدد أقل من عام 2017 الذي بلغ نحو 16.6 مليون مشاهد، ولم يتم احتساب المشاهدين عبر الإنترنت في هذا الرقم؛ لذا قد تكون مواجهة فاصلة ومؤثرة على مستقبلهم السياسي من ناحية، ومن ناحية أخرى قد تلعب دورًا في بلورة قرار الناخبين الذي قد يكون قيد التشكل ولم يحسم بعد وعليه سيتم التطرق إلى أبرز القضايا التي تمت مناقشاتها:
- القوة الشرائية: تعهدت “لوبان” بتحسين القوة الشرائية للفرنسيين بعد أن تضررت على خلفية سياسات “ماكرون”، وذلك من خلال عدد من الإجراءات منها خفض الضرائب القيمة المضافة على الطاقة لتصل إلى 5 %، وإعفاء منهم أقل 30 عامًا من الضرائب، ودعم بعض الفئات الأكثر هشاشة، وذلك بهدف زيادة قدرة الفرنسيين لاستعادة أموالهم لتصل قيمتها إلى 150-200 يورو، أما “ماكرون” فقد كان له وجهة نظر مغايرة تتعلق بالتركيز على الحد من ارتفاع معدلات البطالة التي تراجعت في الآونة الأخيرة إلى 7.4%، وهو الملف الذي لم يتطرق لها برنامج “لوبان”، وفيما يتعلق بخفض الضرائب فقد اقترح وضع سقف لأسعار الطاقة كاقتراح أفضل من خفضها، هو ما اعترضت عليه “لوبان” لأن هذا الإجراء سينعكس بشكل سلبي على دافعي الضرائب. كما اقترح تقديم حوافز ضريبية لأصحاب الشركات لرافع القدرة الشرائية للعاملين بها من خلال حصولهم على مكافآت مالية مقدمة لهم. وهو انتقدته “لوبان” لأن المكافأة ليست عائد مستقر يمكن الاعتماد عليه.
- سن التقاعد: في إطار الحديث عن الضرائب اعتبرت “لوبان” أن زيادة سن التقاعد حتى 65 عامًا يمثل “ظلما لا يطاق”، مقترحة أن يكون سن التقاعد عند 62 عامًا وأن يتم هذا الارتفاع بشكل تدريجي، فيما حاول “ماكرون” توضيح أنه لا يريد زياة الديون، ولا الضرائب على المواطنين، مقترحًا زيادة سنوات العمل لمدة أطول بشكل تدريجي إلى سن 65 بحلول عام 2031 مع وجود استثناءات لبعض الوظائف، متعهدًا بجعل الحد الأدنى لمعاشات التقاعد 1100 يورو لمن أكمل مدة عمله كاملة. ويذكر أن البرنامج الانتخابي لـ “ماكرون” قد حدد زيادة المعاشات المتوسطة بنحو 60 يورو، وزيادة التعويضات الخاصة بالأجور المنخفضة للوظائف الحكومية لتصدي لتداعيات ارتفاع الأسعار.
- الهجرة: ترغب “لوبان” في تسوية أوضاع المهاجرين غير الشرعيين، وإصلاح منطقة شنجن، وطرد المجرمين الأجانب، وعقد استفتاء بشأن من يجب أن يبقى ومن سيغادر فرنسا، وإدخال إجراءات جديدة على اللجوء وقواعد الحصول على الجنسية. أما “ماكرون” فيقترح إصلاح شنجن لأن فرنسا “ليست نقطة وصول لشبكات تستغل آلام الناس”، وفي المقابل أعرب عن أهمية الهجرة الاقتصادية النظامية لفرنسا، فضلاً عن الاستمرار في حماية الفاريين من الموت في بلادهم.
- الأمن: قالت “لوبان” أن البلاد تعاني من أوضاع سيئة لابد من مواجهتها بتعزير قدرات الشرطة من خلال تسليحهم، وأن تكون هناك إجراءات حاسمة في مجال العدالة، مع معالجة الأزمة الناتجة عن “الهجرة الفوضوية” التي ساهمت في تراجع الشعور بالأمان. في المقابل تحدث “ماكرون” عن جهوده الحثيثة في هذا المجال وأنه التزم بتنفيذ وعده فعلى سبيل المثال زاد من ميزانية القضاء بنحو 30%، وتعيين 10 آلاف فرد أمن، واستكمل أنه سيركز على الهجمات الإلكترونية التي سيعيين لها محققين مختصين.
- قطاعي الصحة والتعليم: انتقدت “لوبان” قرار “ماكرون” بطرد 15 ألف عامل من قطاع الصحة على خلفية رفضهم تلقي لقاح “كوفيد-19″، أما في التعليم فقد قالت إنها ستعيد النظر في أجور المدرسين، وإعادة النظام إلى الفصول. أما “ماكرون” تطرق أيضًا إلى إنجازاته في مجال الصحة مثل توظيفه 50 ألف ممرض وعامل صحة، وفي قطاع التعليم تعهد أن يكون الحد الأدنى للأجور 2000 يورو لكل مدرس جديد.
- التغير المناخي: كان من أهم القضايا التي تجادلا بشأنها المرشحين؛ حيث ربطت “لوبان” ما بين استيراد المنتجات من الخارج وزيادة الاحتباس الحراري الذي يؤدي إلى تغير المناخ التي قالت إن معالجته ستبدأ من خلال الإنتاج المحلي. كما انتقدت توربينات الرياح داعية إلى تأسيس المزيد من محطات الطاقة النووية، مُنتقدة “ماكرون” ووصفته إنه “منافق مناخي”. في المقابل قال “ماكرون” إنه مهتم بملف المناخ ولديه من الإجراءات التي سيتخذها إذا فاز بولاية ثانية في هذا الملف، معترضًا على نهج “لوبان” في الاعتماد على الطاقة النووية على تكون بدلًأ لمزيج الطاقة، وتفكيك مزارع الرياح.
- العلمانية: أجابت “لوبان” فيما يتعلق بهذا الملف بأنها تسعى إلى التصدي للإسلام السياسي في شكله الأيديولوجي، داعية إلى التصديق على قانون ضد أيديولوجيا الإسلام السياسي، كما إنها مع حظر ارتداء الحجاب في الاماكن العامة. أما “ماكرون” فقد رد عليها منتقدًا أن منع ارتداء الحجاب، لن يحظر أبدًا إشارات المعتقد الديني في الأماكن العامة لأن القيام بذلك سيكون مخالفًا للدستور الفرنسي، ولأن فرنسا بذلك ستكون أول بلد تقوم بذلك، واستكمل قائلاً: “سوف تحرضون على حرب أهلية إذا حظرت الحجاب”. “لا معنى له، إنه يربك كل المشاكل، الخلط بين الإسلام والأيدولوجية الإسلامية”.
- الاتحاد الأوروبي: حاولت “لوبان” أن تكون أكثر براجماتية بشأن الاتحاد الأوروبي من خلال اقتراحها إنها تريد إصلاحه من الداخل بدلًا من مغادرته، ولأن فرنسا في الاتحاد الأوروبي الحالي لم تتمكن من الدفاع عن مصالحها، لذا فإنها ستتوقف عن التفاوض بشأن الصفقات التجارية لكونها تنعكس بشكل سلبي على الزراعيين والمنتجين الفرنسيين. في المقابل اعترض “ماكرون” نهج “لوبان” تجاه الاتحاد الأوروبي التعرف باسم “Europe of nations”.
- الأزمة الروسية الأوكرانية: كانت “لوبان” تحاول أن تدافع عن موقفها أكثر ما كانت توضح موقفها بشأن هذا الملف ويرجع ذلك لعلاقاتها السابقة بروسيا؛ حيث اتهمها “ماكرون” بتبعتيها لروسيا على خلفية القرض الذي حصلت عليه من موسكو في عام 2014، ويقدر بنحو 9 مليون يورو. في المقابل حاولت إظهار دعمها لأوكرانيا قائلةً: “إنها تؤيد أوكرانيا حرة مستقلة عن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا”. أما فيما يتعلق بتقديم الدعم المالي والعسكري لأوكرانيا، فقد قال “لوبان” إنها توافق على مساعدة أوكرانيا ماليًا ودفاعيًا وإنسانيًا، وتدعم العقوبات على الأوليجاركية الروسية، مع استمرار موقفها الرافض لحظر استيراد الطاقة الروسية. أما “ماكرون”، فقد أوضح أن فرنسا دعمت بالفعل أوكرانيا كي لا تسقط، وإنها تسعى إلى حشد القوى الدولية مثل الهند والصين لوقف التصعيد العسكري.
مُلاحظات ختامية
- يُذكر أن “ماكرون” تطرق إلى التحديات التي شهدتها البلاد إبان فترة ولايته الأولى التي تمثلت في تداعيات الجائحة التي أثرت على كافة مناحي الحياة، فضلاً عن عودة التهديدات الأمنية المتلاحقة في أوروبا خاصة مع الحرب الروسية الأوكرانية، كما وظف عدد من نقاط ضعف “لوبان” ضدها من خلال توجيه عدد من الانتقادات لـ “لوبان” وخاصة فيما يتعلق بالأوضاع الاقتصادية على الصعيد الداخلي، وعلاقات “لوبان” بروسيا منذ عام 2014 وموقفها من شبه جزيرة القرم، والقرض الذي أخذته من البنك الروسي، وهو ما نفته “لوبان”، وفي المقابل حاولت توضيح موقفها الداعم لأوكرانيا ورفضها الغزو الروسي، ولكنها مازالت عند موقفها الرافض لحظر الطاقة الروسية لأنه سيكون له تداعيات على الفرنسيين.
- عكست إجابات “ماكرون” خلال المناظرة قدرته على حسم الوضع لصالحه لما لديه من ثقة بالنفس وقدرة على الجدال والنقاش العملي والمنطقي وأن لديه إنجازات حقيقية تعكس قدرته على الوفاء بعهوده الانتخابية، بجانب عرضه لحججه اعتمادًا على الأرقام الرسمية والمتاحة للجميع، فضلاً عن النقاش الهادئ مع “لوبان” ومقاطعته لها في بعض المواقف. في المقابل أظهرت “لوبان” من خلال إجاباتها بإنها تلتزم بأقصى درجات ضبط النفس حتى لا تظهر أفكارها المتطرفة، بالرغم من إنها من بدأت المناظرة والإجابة قبل “ماكرون” إلا إنها بدت متربكة في إجابتها التي كانت أقرب إلى المثالية.
- ظل “ماكرون” مُتغلب على “لوبان” طول مدة المناظرة، وهو ما يعكس أنه لديه برنامج يأهله لخوض الاستحقاق المقبل والفوز فيه، هو ما أشار إليه استطلاع رأي أجراه “Elabe” إلى أن 59% من المشاهدين يعتقدون أن “ماكرون” كان أكثرًا إقناعًا من “لوبان” بنحو 39%، ومن بين مؤيدي “ميلينشون”، وجد الاستطلاع أن 61٪ اعتبروا “ماكرون” مقنعًا مقابل 36٪ “لوبان”وذلك وفقًا لما نشرته “The Guardian”. أما ” Reuters” فقد أوضحت أن استطلاع للرأي أجرته OpinionWay-Kea Partners لصالح صحيفة Les Echos كشف أن 14٪ فقط من الناخبين كانوا ينتظرون المناقشة لتحديد من سيصوتون، بينما قال 12٪ إنها ستكون حاسمة فيما إذا كانوا سيصوتون على الإطلاق.
- وصول “لوبان” للمرة الثانية لخوض الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة الفرنسية تكرارًا لما حدث في عام 2017؛ حيث استطاع “ماكرون” الفوز عليها نتيجة تراجع الأحزاب الكبرى التقليدية آنذاك، كما أنه قدم نفسه بإنه وسطي لا ينتمي إلى اليمن أو اليسار. أما الآن هو يكتسب زخم أكبر فقد تم اختباره في إدارة العديد من الملفات التي كانت مؤشر فعلي على مواقفه وتوجهاته التي تبناها من قبل ويرغب في استكمالها بجانب محاولة تعديل برنامجه لكي يتوافق مع أكبر عدد من الناخبين، فضلاً عن إنه يحظى بدعم بعض الفئات التي لا ترغب في التصويت لـ “لوبان” تجنبًا لوصول اليمين المتطرف إلى السلطة وهو ما يعرف باسم “التصويت العقابي” الذي سيصب في مصلحة “ماكرون”. لذا من المحتمل أن يحظى بدعم عدد كبير من ناخبي اليسار كرد فعل على صعود “لوبان” للجولة الثانية، ولكن مازالت كل السيناريوهات مطروحة ولا يمكن استبعاد “لوبان” من المشهد الانتخابي حتى يتم الإعلان عن نتائج الجولة الثانية التي ستقرر من سيكون سيد الأليزيه.
- ويُذكر تاريخيًا؛ أن القوى السياسية المُتطرفة سواء من اليمين أو اليسار لم تتمكن من الوصول إلى السلطة منذ تأسيس الجمهورية الخامسة على يد الرئيس الراحل “شارل ديجول”، وهو ما يمكن الاستدلال عليه أيضًا في انتخابات عام 2002؛ حيث تأهل في الجولة الأخيرة “جان ماري لوبان” زعيم “الجبهة الوطنية”، أمام الرئيس “جاك شيراك” الذي فاز بما يقرب من 82% من الأصوات في الانتخابات لتولي فترة ولاية ثانية؛ إذ كان جزء من التصويت له نتيجة رفضهم لوصول لـ “لوبان” للسلطة. لذا من المتوقع أن يتكرر هذا المشهد مرة ثالثة؛ ويرجع ذلك عدد من الأسباب أهمها الرغبة في جعل فرنسا دولة فاعلة في النظام العالمي، وأن يكون لديها دورًا واضحًا في إدارة العديد من الملفات الدولية والإقليمية، لكونها ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، والثالث أوروبيًا والسابع عالميًا، ومن المؤسسين للاتحاد الأوروبي والدولة النووية الوحيدة والعضو الدائم في مجلس الأمن بعد خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي.
- لذا فإن وصول “لوبان” سيضر بمكانة ونفوذ فرنسا على كافة الأصعدة، وخاصة في أوروبا فهى لا تزال مُتشككة في الاتحاد الأوروبي، كما ترغب في وقف التعاون مع ألمانيا فيما يتعلق بالصناعات الدفاعية لإنه لا يتوافق مع السيادة التكنولوجية ولا المصالح الصناعية لفرنسا. وفي المقابل ترغب في تعزيز الشراكة مع المملكة المتحدة، هو ما قد لا يكون في مصلحة فرنسا لإنه سينعكس على مكانتها كرائدة للسياسة الدفاعية والأمنية لأوروبا، كما إنه يتجاهل التحول الجيواستراتيجي الذي تتجه إليه ألمانيا خاصة بعد إعلانها زيادة استثماراتها الدفاعية في سياق الحرب الروسية الأوكرانية، بجانب أن خروج المملكة المتحدة أثار العديد من التوترات مع فرنسا، كما أن توجهات المملكة المتحدة وفرنسا فيما يتعلق بمجال الأمن والدفاع على المستوى الوطني والأوروبي مُختلفين.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية