
اتفاقية السلام في جنوب السودان “خطوات بطيئة وآمال معلقة”
عانت الدولة الوليدة جنوب السودان ويلات الحروب الأهلية منذ انفصالها عام 2011، وتزايدت وتيرة الحرب عام 2013 باتهام سيلفا كير نائبه ريك مشار بمحاولة الانقلاب، والتي هدأت نسبيًا بتوقيع اتفاقية السلام سبتمبر 2018 برعاية سودانية ومباركة دولية، إلا أن هناك العديد من التحديات التي حالت دون تطبيق بنود الاتفاقية وآخرها الاشتباكات التي شهدتها البلاد بين الفصائل المتناحرة في الأسابيع الأخيرة وهو الأمر الذي أثار قلقًا أمميًا وأعربت الولايات المتحدة عن قلقها من انهيار اتفاق السلام، حتى أعلنت القيادة في جمهورية جنوب السودان الخميس 14 أبريل 2022 بتشكيل القيادة الموحدة للقوات النظامية، تنفيذًا لاتفاق هيكلة القيادة الموقع في الثالث من نفس الشهر، فما مدى فاعلية هذه الخطوة في تعزيز آمال السلام في جنوب السودان؟
الوضع في جنوب السودان
عقب سنوات من الحروب المتأججة بين شمال وجنوب السودان حصلت دولة جنوب السودان على استقلالها يوليو عام 2011، وفقًا لاتفاقية السلام عام 2005 التي منحت الجنوب حكمًا ذاتيًا إلى جانب التمثيل في حكومة تقاسم السلطة الوطنية، إثر سنوات من الصراع قادتها الحركة الشعبية لتحرير السودان وجناحها المسلح جيش تحرير السودان، كما جرى الاستفتاء بتصويت ما يقرب من 99% من سكان الجنوب لصالح الانفصال، لتتكون دولة جنوب السودان لتضم 10 ولايات، متنوع لغويًا وعرقيًا، وتعد “الدينكا والنوير والشلك” من بين أكبر المجموعات العرقية هناك.
وما لبثت حتى انفجرت التوترات الأهلية نهاية عام 2013، بسبب الخلاف حول السيطرة على الدولة الجديدة بين الرئيس سيلفا كير ميارديت – المنحدر من جماعة الدينكا – ونائبه رياك مشار المنحدر من جماعة النوير، فاندلع النزاع المسلح بين الجانبين وأعفى سيلفا كير مشار من منصبه كنائب للرئيس، واستمرت الاضطرابات حتى تم توقيع اتفاقية أغسطس 2015، وكان لسيلفا كير بعض التحفظات ولكن تم التوقيع عليها إثر ضغوط دولية وأممية بفرض العقوبات، وعاد بموجبها مشار نائبًا للرئيس، ولم تصمد الاتفاقية سوى عدة أشهر نتيجة الضغوط الدولية وعادت الحروب الأهلية مرة أخرى، حتى وقعت الأطراف المتحاربة في سبتمبر 2018 على اتفاق السلام بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا في ظل جهود منظمة “الإيجاد” ووجود السودان وأوغندا كضامن ومراقب، فتم بموجبه تشكيل حكومة انتقالية ممثلة لجميع أطراف الصراع. وأسفرت الحرب التي استمرت خمسة أعوام عما يقرب من قتل 400 ألف شخص وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة، ونزوح ثلث إجمالي السكان إلى الدول المجاورة وخاصةً أوغندا والسودان.
وأثرت الأحداث السابقة على تشكك القوى الدولية على قدرة اتفاقية السلام 2018 على تحقيق الاستقرار في البلاد، حيث أعربت الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية مارس الماضي عن قلقها عقب ازدياد حالة التوتر بعد انسحاب “الحركة الشعبية لتحرير السودان في المعارضة” بقيادة مشار انسحابها من الهيئة المشرفة على عملية السلام، وتجدد الاشتباكات مع جماعة سيلفا كير في ولاية أعالي النيل شمال شرق البلاد.
وأدت الاضطرابات المتلاحقة إلى تفاقم الأزمات الإنسانية والأوضاع الاقتصادية في البلاد، فتوقعت الأمم المتحدة مواجهة نحو 63% من سكان جنوب السودان أي أكثر من 7,7 ملايين مواطن أزمات غذائية بحلول يوليو المقبل وخاصة من ولايات “الوحدة وجونقلي وأعالي النيل وواراب وشرق الاستوائية”؛ نتيجة تصاعد الصراعات وتصاعد موجات النزوح وبالتزامن مع موسم الجفاف بارتفاع قدره 7% مقارنةً بالفترة نفسها من العام الماضي، وهو ما أدى لزيادة القلق العالمي نحو ضرورة دفع الدولة نحو اتخاذ إجراءات جادة لتنفيذ اتفاقية السلام 2018.
إجراءات بطيئة وتحديات تنفيذ اتفاقية السلام
هيكلة القوات النظامية: تنفيذًا لاتفاقية السلام 2018، وقعت الأطراف المختلفة “الحكومة في جنوب السودان، وفصيلا نائبي الرئيس الدكتور رياك مشار عن الحركة الشعبية وحسين عبد الباقي وعن مجموعة سوا” بوساطة سودانية بقيادة نائب رئيس مجلس السيادة رئيس اللجنة العليا لمتابعة تنفيذ اتفاقية السلام المنشطة لجنوب السودان الفريق أول محمد حمدان دقلو على وثيقة لـ “هيكلة القيادة العليا في جميع القوات النظامية”، وذلك ضمن بند الترتيبات الأمنية في 3 أبريل الحالي ضمن مقترح تقدم به السودان منذ أغسطس الماضي، لإنشاء “قيادة موحدة للقوات المسلحة” وفقًا لاتفاقية السلام 2018 متضمنًا خارطة طريق وخطة زمنية للتنفيذ؛ إلا أنه سرعان ما تجددت المعارك مرة أخرى الجمعة في الثامن من نفس الشهر، حول معسكر “كوتش ميرمير” الذي يضم قوات موالية لمشار في ولاية الوحدة، من قبل جماعة مسلحة منشقة وموالية للرئيس سلفا كير بحسب مسؤولين من الطرفين مجتمعين في العاصمة جوبا. فطالب الطرفان بضرورة احترام وقف اتفاق النار.
وفي 14 أبريل 2022، تم الإعلان عن تشكيل القيادة الموحدة للقوات النظامية بترحيب سوداني بالاتفاق على تواجد القوات داخل المعسكرات وبدء ترتيبات التخريج إيذانًا بدخول مجموعات جديدة والتي كان مقرر تخريجها منذ تشكيل الحكومة الانتقالية الجديدة في فبراير 2020، إلا أن ضعف توفير الموارد المالية لتكملة تنفيذ بند التدريب لجيش مكون من 85 ألف جندي في ظل بند الترتيبات الأمنية، بما فيها تخريج القوات المشتركة وإعادة انتشارها والإسراع في تحريك ملف الدمج والتسريح قد حال دون تنفيذها، حتى قام سيلفا كير بالإعلان عن دمج ضباط بالجيش موالين لنائبه ريك مشار رسميًا في قيادة موحدة للجيش، وهو ما يعد خطوة قد تكون بطيئة نوعًا ما لكنها تشير إلى التزام الأطراف بالسلام الموقع وخطوة نحو توحيد القوات، والتي جاءت عقب الضغوط الدولية باحتمالية فرض عقوبات دولية حال عدم التنفيذ، فيما أسمى حميدتي المظاهر العسكرية الموجودة “بالأمر الروتيني الذي لا يمثل أي تهديد لأي طرف.” فيما لم تحسم بعد النسب الدقيقة لتواجد القوات من الفصيلين “قوات سيلفا كير ومشار والتي ستتراوح بين “55 إلى 45” أو “60 إلى 40”.
تحديد نسب تقاسم السلطة: سبق أن انتقدت الجماعات المعارضة الاتفاق الجديد لافتقاره لتحديد نسب تقاسم السلطة في كافة مستويات الحكم، بوجود 20 عضوًا من جماعة كير في الحكومة الجديدة المؤلفة من 35 عضوًا فيما ستحصل جماعة مشار ومجموعات معارضة أصغر فحصدت مجموعة رياك مشار ٩ وزراء ومجموعة سوا ٣ وزراء والمحتجزون السابقون وزيران والقوى السياسة الأخرى وزير واحد، واستطاعت الأطراف المتنازعة أن تنفذ اتفاقية تقاسم السلطة والتي بمقتضاها تولى رئيس جنوب السودان سلفا كير ميارديت منصب الرئيس خلال الفترة الانتقالية التي تستمر ٣ سنوات منذ إعلان تشكيل الحكومة الانتقالية، وتولى رياك مشار النائب الأول لرئيس الجمهورية، وأربعة نواب للرئيس تتقاسمهم القوى السياسية المختلفة، عقب تقديم الطرفين تنازلات جوهرية والتي بمقتضاها وافق كير على العودة إلى تقسيم الدولة إلى 10 ولايات بعد أن كانت 32، لاغيًا خطته لإنشاء ثلاث مناطق إدارية تحيط بحقول النفط الرئيسية والتي كادت أن تعطل المحادثات حينها.
وتأخر أطراف اتفاقية السلام في إعادة تشكيل مجلسي التشريعي القومي والولائي، لأكثر من عام من تشكيل الحكومة الانتقالية حتى أصدر سيلفا كير قرارًا في مايو 2021 بحل المجلسين تمهيدًا لإعادة التشكيل على أن يتكون المجلس التشريعي لجنوب السودان من ٥٥٠ نائبًا منهم ٣٣٠ للحكومة الحالية و١٢٣ مقعدا لرياك مشار و٥٠ مقعدًا لمجموعة سوا و٣٠ نائبًا للقوى السياسية و١٠ مقاعد للمحتجزين السياسيين السابقين، كما نصت الاتفاقية على زيادة عدد أعضاء مجلس الولايات. وفي يوليو الماضي تم الإعلان عن تشكيل البرلمان القومي، وفي أغسطس 2021 تم الانتهاء من تشكيل البرلمان الانتقالي الجنوب سوداني بغرفتيه – المجلس التشريعي ومجلس الولايات.
إجراء الانتخابات: تنقضي الفترة الانتقالية بموجب اتفاقية السلام في فبراير 2023، مما يتطلب إجراء الانتخابات قبل هذا الموعد بنحو ستين يومًا، وهو الأمر الذي سيصعب تنفيذه في ظل عدم تحقيق الشروط الفنية لإجراء الانتخابات كصياغة دستور جديد للبلاد وإقرار قانون الانتخابات وإنشاء هيئة لإدارة الانتخابات ومراقبتها وتكوين اللجنة المختصة بإصلاح الجهاز القضائي، هذا إلى جانب عدم الاستقرار الأمني في البلاد، والخلافات الحدودية المستمرة، والانشقاق داخل الحركة الشعبية لتحرير السودان في الجنوب، التي تواصل نشاطها في السودان وجنوب السودان، والتي سبق أن أعلنت في مناسبات عدة عزل رئيسها الحالي رياك مشار من منصبه ومن ذراعها العسكرية “الجيش الشعبي لتحرير السودان” واستقالة العديد من الحركة اعتراضًا عل سياسة مشار في قيادة الحركة، وكان أخرها أغسطس 2021، وبالتالي فهناك مخاوف من تجدد الخلافات التي قد تقوض عملية السلام وإتمام العملية الانتخابية.
التمويل والدعم الدولي: أدت النزاعات المسلحة المتكررة وأزمات الفيضانات وفترات الجفاف إلى تهديدات بوجود أزمات غذائية والتأثير على الزراعة فظهرت حاجة أكثر من ثلثي السكان إلى المساعدات الغذائية بجانب النازحين المقدرين بنحو ثلث السكان إلى جانب الأزمات الاقتصادية؛ مما يتطلب الحاجة إلى “التمويل المستمر والدعم الدولي لتفادي تفاقم الأزمات”، والحاجة لتوفير ممرات آمنة للمساعدات الإنسانية.
وفي ظل الانشغال الدولي بالأزمة الروسية الأوكرانية ذات التداعيات الأكثر خطورة على الأمن الغذائي للبلدان الأفريقية، فظهرت الحاجة إلى زيادة الدعم الدولي وخاصة دول الترويكا “الولايات المتحدة والنرويج والمملكة المتحدة”، لتقديم الدعم لبعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في جنوب السودان بعد قرار تجديد عملها، لتقديم يد العون لها في تحقيق التوازن للمطالب المتزايدة لدعم التنفيذ المتأخر لعملية السلام.
إجمالاً، يضعنا الطرح السابق أمام خطوات في مسار السلام ولكنها قد تكون بطيئة نسبيًا لاستكمال اتفاقية السلام في جنوب السودان، من خلال اعتبار أن اتفاقية السلام 2018 مختلفة عن الاتفاقيات الهشة السابقة، ولكن البطء في التنفيذ قد يودي بنتائجها مع اقتراب موعد انتهاء الفترة الانتقالية 2023، دون وجود إجراءات فعلية على أرض الواقع في ظل اتفاقية اتهمها المراقبون بأنها تقاسم قبلي بين القبائل الرئيسية “الدينكا والنوير” يليها القبائل الأصغر، وبالتالي استمرار النزعة القبلية على مفهوم الدولة الشامل، مما يصعب من مهمة تحقيق الاستقرار والذي سينعكس بدوره على دول الجوار وخاصة السودان التي تعاني من أزمات حدودية واقتصادية وكان في المادة (5) من الاتفاقية أملًا لها حيث تنص على إعادة تأهيل حقول النفط في جنوب السودان بالاستعانة بجيش السودان لحماية مناطق إنتاج البترول، إلى جانب تبعات عدم الاستقرار على الإقليم ككل والتوازنات الدولية التي لم تستطع القوى الكبرى كالولايات المتحدة وروسيا والصين ودول الاتحاد الأوروبي بجانب الجهود الأممية من تنفيذ بنود الاتفاقية؛ مما يتطلب دفعًا دوليًا وإقليميًا للإسراع من استكمال عملية السلام.
باحثة بالمرصد المصري