
اجتماع القاهرة: فرص تلافي الارتداد و”لم الشمل” الليبي-الليبي
يُعد اجتماع القاهرة بين ممثلي مجلسي النواب والدولة الليبيين جولة بالغة الأهمية في مسار الأزمة، وتأكيدًا على صدق الرؤية المصرية بأن الحوار السياسي هو الحل الأمثل للتسوية الشاملة، وأنها ستظل الأكثر قدرةً وحرصًا على أن يكون الحل الليبي-الليبي هو السبيل لإنجاح أية مبادرات تُقدمها وترعاها. وفي ظل المشهد الليبي الآخذ بالتأزيم والتعقيد، تمثل مبادرة القاهرة لاحتضان الفرقاء الليبيين فرصةً قوية لتجاوز حالة الانسداد والتعثر الراهنة، وأن حلحلة الأزمة الليبية وتحفيز جهود التسوية هو الهدف الأسمى للدولة المصرية وكافة مؤسساتها.
تأزيم متصاعد
شهد العام الماضي جُملةً من التحولات عززت المخاوف من ارتداد ليبيا إلى مربع الانقسام والصدام، فبعد بضعة أشهر من منح مجلس النواب ثقته لحكومة الوحدة الوطنية (مارس2021)، تصاعد الخلاف بين المجلس والحكومة حول العديد من الملفات، ومن بينها تسمية وزير الدفاع واعتماد الميزانية وصولًا للقوانين المُنظمة للانتخابات العامة، مما قاد لإفشال عقد الأخيرة بموعدها المقرر في 24ديسمبر2021، وحتى بعد تأجيلها لمدة شهر. ومطلع عام 2022، اتخذت الأزمة مسارًا غايةً في التعقيد، وهو ما يمكن استعراضه كالتالي:
أولًا: أزمة السلطة التنفيذية: أفضى انسداد الأفق بين مجلس النواب وحكومة الوحدة إلى بحث المجلس عن إنهاء سلطة الدبيبة، بعد حجب المجلس الثقة عن حكومته واعتمدها كحكومة تسيير أعمال (سبتمبر2021)، حيث انتهت مشاورات المجلس إلى اختيار حكومة جديدة برئاسة “فتحي باشاغا” ومنحها الثقة (فبراير2022). وبعد إعلان الدبيبة تمسكه بالسلطة ورفض تسليمه للحكومة الجديدة، صارت الدولة الليبية مهددة للانقسام بين حكومتين، لكل منهما أذرع عسكرية وتحالفات اجتماعية تنذر بإشعال المواجهات.
ثانيًا: إشكالية التوافق التشريعي: قاد الخلاف حول السلطة التنفيذية، والجدل المستمر بين مجلسي النواب والدولة حول القوانين الانتخابية، إلى إنتاج مُعضلة تتصل بمحاولات توظيف هذا الملف لاستقطاب الأنصار والداعمين. فالدبيبة بادر بتشكيل لجنة قانونية لوضع قوانين مُنظمة للانتخابات التي أعلن عقدها يونيو المقبل، فيما تمسك مجلس الدولة بضرورة توافقه مع مجلس النواب على التشريعات الانتخابية، وهو التوافق الذي مثل مدخلًا لعرقلة هذا المسار واستكمل النواب إصداره للتشريعات بالسابق دون التعويل عليه لتجاوز العرقلة.
ثالثًا: تجدد الجدل الدستوري: ظل الانقسام حول طبيعة وأطر القاعدة الدستورية المُنظمة للعملية الانتخابية قائمًا، رغم التوصل لصيغة توافقية بين ممثلي المجلسين حول إجراءات وضع تلك القاعدة، وتضمينها بالإعلان الدستوري عبر التعديل الثاني عشر (فبراير الماضي)، لاسيما بمحاولات بعض قوى مجلس الدولة التنصل من اتفاقها مع النواب، في أعقاب موجة الهجوم الذي شنته القوى المتحالفة مع الدبيبة على هذا التقارب. ناهيك عن طرح مبادرة المستشارة الأممية لمعالجة هذا الملف، وتشكك قطاع واسع من الليبيين فيما تستهدفه، وإعلان الدبيبة تشكيل لجنة لوضع قاعدة دستورية لتنظيم الانتخابات أيضًا، ثم تسمية مجلس النواب للجنة مُراجعة للمواد الخلافية بمشروع الدستور (إبريل الجاري).
رابعًا: بوادر الارتداد الميداني: صار تقويض اتفاق وقف إطلاق النار أكثر احتمالًا؛ بعد بلوغ الاحتقان بين القوى الميدانية ذروته، حيث أعلن ممثلو المنطقة الشرقية باللجنة العسكرية (5+5) تعليق نشاطهم، ودعوتهم القيادة العامة اتخاذ إجراءات رادعة لرئيس حكومة الوحدة؛ إذ استمر الدبيبة بقطع رواتب منتسبي الجيش الوطني، وانتهج سياسات مقوضة لأعمال اللجنة وجهود استدامة وقف إطلاق النار. وأعقب ذلك اجتماعات تعزز الانقسام الميداني، فالدبيبة يجتمع مع ممثلو المنطقة الغربية باللجنة العسكرية، ولقاء رئيس مجلس النواب بوزير الدفاع بحكومة “باشاغا”، لترسيخ فكرة أن كل طرف بالصراع لديه كيانًا عسكريًا قد يوظفه حال الحاجة لذلك.
مبادرة القاهرة .. فرصة قائمة
تبدو دعوة القاهرة لاجتماع ممثلو مجلسي النواب والدولة خطوة هامة وفرصة ثمينة لتلافي الارتداد الليبي مجددًا نحو الانقسام والصدام؛ ففي ضوء المشهد الليبي المتأزم سابق الذكر، أثبتت مصر حرصها على تقريب الفرقاء وتلاقيهم على أن يكونوا أصحاب القرار الحاسم في قضيتهم، بناء على رصيدها التاريخي والمعاصر لتحولات الأوضاع الليبية. وتنعكس أهمية المبادرة المصرية في مجموعة من النقاط، ومن أبرزها:
أولًا: تكاملية الرؤية المصرية: تمثل الرؤية التي قدمتها القاهرة، والتي حصدت دعمًا إقليميًا ودوليًا كبيرًا، خارطة مُتكاملة وشاملة لحلحلة الأزمة وتجاوز الانسداد الراهن. إذ تهدف المبادرة المصرية “لم الشمل” وتوحيد المؤسسات الليبية، وضمانة عدم إقصاء أي طرف من الحوار. بالإضافة لوضع ترتيبات تضمن استقلال مصرف ليبيا المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط وعدم تعطيل عملهم، وألا تُهدر ثروات الليبيون على الميليشيات. إلى جانب تحييد التدخلات الخارجية، ووضع خطة تدريجية لإقامة الانتخابات، وغيرها من الملفات المستهدف حلها لضمانة استقرار المشهد الليبي.
ثانيًا: التركيز على القضايا ذات الأولوية: يُرجح أن يُركز اجتماع القاهرة على قضية الدستور، عبر الدفع نحو التوافق على تشكيل لجنة قانونية محايدة لإعادة صياغة الدستور، وهذا الملف الهام حال تحقق إنجاز فيه سيفضي لتخفيض الاحتقان المتصاعد بين الأطراف الليبية، وسيمهد الطريق لتحقيق مزيد من الانفراجات السياسية والاقتصادية، ما سيرفع عن كاهل المواطن الليبي التداعيات السلبية التي خلفتها التجاذبات الراهنة، وسيمنح ليبيا فرصة لتلافي الانزلاق بمربع الاقتتال والفوضى مجددًا.
ثالثًا: فعالية الوساطة المصرية: تتمتع الوساطة المصرية بدرجة عالية من القبول والموثوقية، داخل وخارج ليبيا، ما يُضيف للدور المصري أهمية خاصة ويحمله مسؤولية كبرى؛ ففي ظل تراجع موثوقية أدوار الوساطة الإقليمية والدولية الأخرى بالأوساط الليبية، وتأزم بعض القضايا الليبية بفعل الاملاءات والتدخلات الخارجية غير المحايدة، صار على القاهرة أن تقود جهود التسوية، والبناء على ما حققته خلال السنوات الماضية من مكتسبات حصد الليبيون عوائدها بدرجة أو بأخرى، وهو ما يستدعي أن تتصدر الوساطة المصرية ملف معالجة القضية الليبية بدرجة أكبر.
رابعًا: خطورة استمرار الوضع الراهن: تتصاعد أهمية المبادرة المصرية في هذا التوقيت اتصالًا بخطورة التحولات الليبية التي جرت الإشارة اليها بالسابق؛ فإذا استمرت الخلافات والتجاذبات القائمة بين الأطراف والقوى المتنافسة بذات النمط، ستنزلق الدولة الليبية بمربع الفوضى والاقتتال مجددًا، وقد تكون سيناريوهات تقسيم وتفتيت ليبيا أقرب للتحقق عن أية وقت مضى. لذا، فالجولة المقرر ان تحتضنها القاهرة تُمثل مخرجًا بالغ الأهمية من هكذا احتمالات، ما يعزز أهمية التحرك الذي تقوده مصر بالوقت الراهن.
وإجمالًا، يمكن القول إن المشهد الليبي المتأزم في كافة أبعاده، التنفيذية والتشريعية والدستورية والأمنية، يهدد بالارتداد عما تم إنجازه من تقدمات سياسية واقتصادية، بالإضافة لكونه خطرًا على صمود اتفاق وقف إطلاق النار الذي جنب البلاد العودة للاقتتال منذ (أكتوبر2020). لذلك، فإن اجتماع القاهرة في هذا التوقيت الحاسم، وما يقترن به من خطوات جادة لحفظ استقرار وأمن ليبيا، يتجاوز فكرة كونها جولة تنسيقية تستهدف تجاوز الجمود الراهن بل ترقى لاعتبارها مأسسة لـ “لم الشمل” الليبي-الليبي، وتلافي الانزلاق والارتداد بمستنقع الانقسام والصدام، لوضع ليبيا على المسار الصحيح واستعادة الدولة المفقودة منذ 2011.