الأزمة الأوكرانية

تقدم ضئيل… قراءة في فرص نجاح المحادثات الروسية الأوكرانية

الحرب والدبلوماسية فعلان لا ينفصلان تُفاضل بينهما الوحدات الدولية –على أساس حسابات المكاسب والتكاليف– وقتما تتطلب مقتضيات مصالحهما العليا؛ للتأثير على سلوكيات الوحدات الأخرى وإجبارها على تبني خيارات تتفق ومصالح الطرف المبادر بالفعل؛ فعندما تفشل الدبلوماسية والمفاوضات في تحقيق أهداف أحد الأطراف الدولية، يكون اللجوء إلى الحرب والإجراءات التصعيدية وسيلة لتحسين موقفها التفاوضي والتأثير على تصورات الطرف أو الأطراف الأخرى لخيارات عدم وجود اتفاق، وبالتالي يُمكن اعتبار الحرب شكلًا من أشكال دبلوماسية القوة، أو الدبلوماسية القسرية التي تهدف إلى إقناع الطرف الآخر بأن تسوية الخلافات عبر المفاوضات خيار أقل تكلفة. 

ومن هذا المنطلق، كان اختيار موسكو شن الحرب وفرض حصار على المدن الأوكرانية هادفًا إلى إقناع كييف بأن اتفاقًا وفق الشروط الروسية بديل أفضل وأقل كلفة من التدمير الكامل لأوكرانيا، أعقبه الانخراط في محادثات استكشافية انطلاقًا من إدراك الطرفين أن استمرار الحرب ينطوي على سلسلة من المكاسب المتضائلة، وأن اللحظة قد حانت للتفكير في كيفية وضع حد لنزيف الخسائر، ومنع تفاقم الثمن الذي سيتعين على شعوبهما دفعه مقابل الإصرار على الحسم العسكري.

تقدم ضئيل وعقبات ماثلة

يضمن خيار السلام المتفاوض عليه إنهاءً مشرفًا للحرب الأوكرانية، ويحفظ ماء الوجه لأطرافه، ويُعد بديلًا مثاليًا للهزيمة العسكرية أو تجميد الصراع بما يعزز احتمالات تصاعده مجددًا. ومن هذا المنطلق، عقد الوفدان الروسي والأوكراني سبع جولات محادثات ثنائية مباشرة (28 فبراير و3 و7 و10 مارس ومن 14 إلى 17 مارس و21 مارس و29 و30 مارس)، وقد أصبحت المفاوضات أكثر جدية خلال الجولة الأخيرة بمدينة إسطنبول التركية في 29 مارس الماضي، وهو ما عكسه المستوى التمثيلي الرفيع لوفدي البلدين بقيادة المستشار السياسي للرئيس الأوكراني ميخائيلو بودولياك ونائب وزير الدفاع الروسي أليكساندر فومين، مقارنةً بمستوي التمثيل الأدنى خلال الجولات السابقة الذي ضم المساعد الرئاسي الروسي فلاديمير ميدينسكي ورئيس لجنة الشؤون الخارجية في الدوما ليونيد سلوتسكي. فضلًا عن اختيار تركيا –المحايدة نسبيًا– لاستضافة المفاوضات بعدما كانت بيلاروسيا مقرها الرئيس، إذ يؤثر التفاوض على أراضي دولة متحالفة بشكل وثيق مع أحد أطراف النزاع على عملية التفاوض.

ذلك علاوة على وضع خطة تفاوضية مبدئية مكونة من 15 نقطة تركز على القضايا الرئيسة بشكل أكثر واقعية، كقضية شبه جزيرة القرم، ودونباس، وحياد أوكرانيا، وتراجع المطالبات الروسية بالإطاحة بحكومة زيلينسكي وحل الجيش الأوكراني وتنصيب نظام جديد صديق لموسكو، التي سيطرت على الخطاب السياسي خلال الأيام الأولى للحرب وما سبقها. 

فيما قدمت أوكرانيا تنازلات مرضية ضمن سلسلة من المقترحات، أهمها قبول الحياد الاستراتيجي الدائم –على غرار النموذج الفنلندي والسويدي– من خلال التعهد بعدم الانضمام إلى أي تحالف عسكري أو سياسي، أو استضافة أي قاعدة عسكرية أجنبية على أراضيها، مقابل الحصول على ضمانات أمنية ملزمة قانونًا من الدول الغربية الصديقة (الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن وتركيا وإسرائيل وكندا وألمانيا وبولندا وإيطاليا) تكون معادلة لضمانات الأمن الجماعي لحلف الناتو، وتقضي بمنح الدول الضامنة فترة ثلاثة أيام للتشاور حال وقوع عدوان عسكري أو حرب هجينة على أوكرانيا لإرسال قوات لها وتزويدها بالأسلحة، مع ضمان عدم معارضة روسيا لانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، والموافقة على مشاورات مدتها 15 عامًا بشأن شبه جزيرة القرم، والاعتراف بحقوق اللغة الروسية في أوكرانيا.

وقد انعكست الجدية النسبية للمفاوضات في موافقة الوفد الروسي على تقليص عدد القوات بالقرب من العاصمة كييف وتشرنيهيف، وتركيز الأولوية العسكرية القصوى على التقدم في إقليم دونباس شرق أوكرانيا، وتأمين ممر بري من الحدود الروسية إلى شبه جزيرة القرم. 

ويُظهر تقرير المتابعة اليومية للعملية العسكرية الروسية الصادر عن معهد دراسة الحرب “ISW” بتاريخ 3 أبريل استمرار القوات الروسية في إجراء انسحاب منظم من مواقعها حول كييف بقوات تغطية محددة مدعومة بالمدفعية والألغام، حيث انسحب الجزء الرئيس من القوات الروسية من الضفة الغربية لنهر دنيبر، ويكمل انسحابه من الضفة الشرقية.

لكن التراجع كان غير منظم بدرجة كافية، لدرجة أن بعض القوات الروسية تُركت معزولة، فيما تواصل القوات الأوكرانية التقدم وتطهير كييف من القوات الروسية المعزولة. ويتوقع التقدير أيضًا الانسحاب من حول تشيرنيهيف شمالًا ومن بروفاري شرقًا، مع السعي إلى السيطرة على كونوتوب وسومي لفترة كافية للسماح لقواتها بإكمال تراجعها بالقرب من كييف، وكذلك الانسحاب من جميع مواقعها تقريبًا غرب خاركيف.

ومع ذلك، يظل التقدم الحادث في المفاوضات ضئيلًا ولا يرقى إلى وصفه بالاختراق النوعي، وكذا لا يُمكن وصف التحركات الميدانية للقوات الروسية بالانسحاب الكامل أو التراجع، وإنما الأدق هي عملية إعادة انتشار للقوات التي فشلت في إلحاق هزيمة عسكرية ساحقة بالقوات الأوكرانية، وإسقاط العاصمة كييف، إلى محاور أخرى للتقدم بما يضمن تركيز الجهود على أولويات الكرملين العسكرية على الجبهة الشرقية. ويرجع ذلك إلى عدة أسباب منها:

• مطالبة روسيا لأوكرانيا بالاعتراف بضم شبه جزيرة القرم واستقلال الجمهوريتين الانفصاليتين دونيتسك ولوهانسك، وهو تنازل لا يحظى بقبول أوكراني شعبي؛ ففي استطلاع للرأي أُجري أوائل مارس الفائت أكد نحو 80% من الأوكرانيين أنهم ليسوا مستعدين لقبول السيادة الروسية على دونباس حتى لو كان ذلك يضمن إنهاءً فوريًا للحرب، وبالتالي سيكون صعبًا على الحكومة الأوكرانية القبول صراحةً بهذا السيناريو لما يحمله من مخاطرة بفقدان الشعبية الجارفة التي اكتسبتها جراء مقاومتها وصمودها أمام الغزو الروسي. 

وبالمقابل، يرى الجانب الروسي أن مسألتي القرم ودونباس غير مطروحتين للنقاش؛ ففكرة “القرم ملكنا” متأصلة داخل المجتمع الروسي. وكذلك قد ضمَّن البلدان مطالبهما بدونباس في قوانينهم المحلية؛ إذ يطالب الدستور الأوكراني بالسيادة القانونية على الإقليم، فيما أقرت روسيا قانونًا للاعتراف باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك. وبالتالي فإن الإصرار على إعادتهما كجزء من أي تسوية مستقبلية لن يؤدي إلا إلى إطالة أمد الحرب وجعل السلام الدائم مستحيلًا. 

وعليه، تتوقع التقديرات السياسية الالتفاف حول هذا المأزق بالاتفاق على الانسحاب من الأراضي الأوكرانية المحتلة منذ بدء العملية العسكرية في 24 فبراير، دون التطرق إلى الاستسلام رسميًا في النزاعات الحدودية التي اندلعت منذ عام 2014. ومع ذلك، فإن ترك القضية دون حل كامل سيمهد لاحتمال تجددها، وقد ترى روسيا أي إعادة تسليح أوكرانية على أنها استعداد لمحاولة استعادة شبه الجزيرة. ولعل ترك مسألة دونباس دون تطبيق اتفاقيات مينسك خير مثال على المخاطر المتمثلة في أن القضايا العالقة يُمكن أن تمهد الطريق لحرب مستقبلية.

• بداية القوات العسكرية الروسية مرحلة جديدة من حملتها في أوكرانيا بعد فشل خطتها الأولية للسيطرة على كييف والمدن الأوكرانية الكبرى الأخرى، وتركز الجهود الروسية الرئيسة الآن على شرق أوكرانيا لتحقيق هدفين رئيسين قبل التفاوض على وقف لإطلاق النار هما: الاستيلاء على مدينة ماريوبول الساحلية، والاستيلاء على كامل مناطق دونيتسك ولوهانسك؛ لإيجاد مسوغ مقبول أمام الشعب الروسي لفشل الحملة العسكرية بالترويج لأن هدف العملية الرئيس هو تمكين الجمهوريتين الانفصاليتين من السيطرة على الأراضي المطالبين بها. 

وبحسب تقدير مركز دراسة الحرب “ISW”، لا يزال خط الاحتلال الروسي الحالي في جنوب وشرق أوكرانيا مكسبًا كبيرًا في الأراضي التي تسيطر عليها روسيا منذ بداية الحرب، وبالتالي إذا أدى وقف إطلاق النار أو اتفاق سلام إلى تجميد خط مثل خط الجبهة الحالي، فستكون روسيا قادرة على ممارسة ضغط أكبر بكثير على أوكرانيا مما كانت عليه قبل الغزو.

العقبات السياسية والتقنية التي تعترض التوصل لاتفاقية واستمرار الغموض بشأن جوانبها الرئيسة وسط تعقد وتعدد موضوعات التفاوض، ويشمل ذلك ترتيبات الأمن، وثبيت وقف إطلاق النار وسط تزايد المخاطر المرتبطة بانتشار وحدات الدفاع الشعبية وغيرها من القوات غير النظامية التي لا تخضع للسيطرة المباشرة للجيشين الروسي أو الأوكراني.  هذا علاوة على إقرار الجوانب الفنية للانسحاب من حيث كونه كاملًا وفوريًا أم على مراحل، وعددها، والفترة الزمنية المقررة للانسحاب، وشروطه وضماناته، وآليات مراقبته، وما إذا كان سيتم إنشاء آلية مراقبة مشتركة أم إيكال المهمة للمنظمات الأمنية كالأمم المتحدة أو منظمة التعاون الأمني في أوروبا. إضافة إلى بحث ضوابط الحياد المسلح فيما يتعلق بإمكانية السماح لأوكرانيا بتلقي الأسلحة والتكنولوجيا العسكرية من الدول الأعضاء في الناتو. 

ذلك فضلًا عن التفاوض بشأن موقف الحقائق الميدانية الجديدة التي فرضتها العملية العسكرية الروسية، ومنها: السيطرة على الممرات المائية العذبة شمال شبه جزيرة القرم، والسيطرة على الساحل الأوكراني الذي يتدفق من خلاله 60% من صادرات أوكرانيا و50% من وارداتها، والسيطرة على أكبر محطة للطاقة النووية في أوروبا “زابوريجيا”، وإبقاء كييف داخل نطاق المدفعية الروسية. 

وربما تطرح روسيا مطالبات بخضوع أوكرانيا لنظام تفتيش دولي للاطمئنان بشأن عدم وجود أسلحة دمار شامل أو تطويرها على الأراضي الأوكرانية، على غرار الاتفاقات السابقة بشأن عمليات التفتيش الدولية التي رافقت مذكرة بودابست، وهي مسألة تستغرق فترات طويلة للتفاوض بشأن الإجراءات الفنية للتفتيش.

• وجود شكوك جدية لدى أوكرانيا بشأن الضمانات الأمنية الغربية نجدها متجذرة في تجربة عام 1994 عندما وافقت –بموجب مذكرة بودابست غير الملزمة– على التخلي عن جميع الرؤوس الحربية النووية وثالث أكبر ترسانة ذرية في العالم ورثتها عن الاتحاد السوفيتي، مقابل تأكيدات أمنية مكتوبة من الولايات المتحدة وروسيا والمملكة المتحدة تقضي باحترام السيادة الإقليمية لأوكرانيا وتقديم مجلس الأمن المساعدة لها إذا ما أصبحت ضحية لعمل عدواني. لكن الممارسة الواقعية أظهرت عدم التزام الأطراف الموقعة، فموسكو نفذت غزوها وسط فشل الضامنين الغربيين في استصدار قرار أممي يدين السلوك الروسي نظرًا لتمتع الأخيرة بحق الفيتو. لذلك، تريد أوكرانيا ضمانات أمنية ملزمة قانونيًا لعدد من القوى الغربية والمحايدة بالتدخل للدفاع عن أمنها ضد أي عمل عدواني روسي مستقبلًا.

• ضبابية موقف الدول المقترحة كضامن، فمن أصل 11 دولة طُرح اسمها أبدت المملكة المتحدة وألمانيا وتركيا استعدادها للعمل كضامن أمني لأوكرانيا من حيث المبدأ دون تقديم تفاصيل، فيمل يظل موقف الدول الأخرى غامضًا، في ظل عدم استعداد الدول الغربية لإشراك نفسها بشكل مباشر في الصراع، مع ترجيحات برفض موسكو أيضًا انضمام أي دولة غربية للاتفاقية كضامن، واستمرار المخاوف بشأن أن تكون التنازلات الروسية مجرد مناورة للمماطلة بهدف كسب الوقت لإعادة تجميع القوات الروسية قبل استئناف هجوم جديد.

متغيرات محفزة

رغم أن خيار المفاوضات بدا غير مطروح أو مجدٍ بالأمس القريب للحيلولة دون اندلاع الحرب، لكن متغيرات الأوضاع السياسية والعسكرية والميدانية المتصلة بالصراع الحالي دفعت طرفيه المباشرين –روسيا وأوكرانيا– لإعادة تقييم الأدوات والاستراتيجيات المتاحة لتحقيق أهدافهما، وبدا خيار المفاوضات مقبولًا حتى وإن لم يُحدث اختراقًا حقيقيًا حتى الآن. وفيما يلي نستعر ض أبرزها:

• الفشل الجزئي للعملية العسكرية أمام المقاومة الأوكرانية: بعد نحو 45 يومًا من القتال، فشلت استراتيجية الحرب الخاطفة في تحقيق أهدافها الرئيسة بالاستيلاء على المدن الأوكرانية في الشمال والشرق خلال أيام معدودة وبأقل الخسائر المدنية الممكنة، مما استلزم معارك شرسة ومكلفة اصطدمت بمقاومة شعبية اعتمدت أساليب حرب المدن استراتيجيةً لاستنزاف القدرات الروسية، مما أبطأ تقدم القوات وكبدها خسائر بشرية ومادية ومعنوية باهظة، بشكل أدركت معه القيادات السياسية والعسكرية الروسية استحالة استمرار التقدم ضمن محاور قتال متعددة، وصعوبة إسقاط المدن الرئيسة الكبرى وفي مقدمتها العاصمة كييف، أو تنصيب نظام صديق سيفتقر إلى الدعم والشرعية ويتطلب بقاؤه وجودًا دائمًا للقوات الروسية، بمعنى تحول أوكرانيا إلى مستنقع للجيش الروسي إلى أجل غير مسمي. وتبرز مؤشرات على أن الكرملين وقع ضحية للتحليل والتنبؤ الخاطئين، وأن التحركات الروسية استندت إلى معلومات استخبارية غير دقيقة تشير إلى إمكانية انهيار القوات المسلحة الأوكرانية والدولة على الفور، لعل أهمها اعتقال رئيس فرع الاستخبارات الخارجية الروسية بجهاز الأمن الفيدرالي ” FSB”  سيرجي بيسيدا.

• تكبد الجيش الروسي خسائر باهظة: رغم عدم وجود تقدير رسمي موثق لحجم الخسائر المادية والبشرية للجيش الروسي، تُظهر التقديرات الأولية الواردة عن وزارة الدفاع الأوكرانية ومصادر البيانات المفتوحة، أرقامًا مرتفعة؛ إذ قدرت الأولى قيمة خسائر المُعدات بحوالي 10 مليارات دولار، مشيرة إلى تدمير الدبابات T-90M التي تصل قيمتها إلى 3 ملايين دولار ، ونظام صواريخ للدفاع الجوي Pantsir-S1 وتصل قيمته إلى 15 مليون دولار، وطائرات الهليكوبتر Ka-52 التي تصل قيمتها إلى 15 مليون دولار، وطائرات النقل العسكرية من طراز Il-76 وتصل قيمتها إلى 27 مليون دولار، والمقاتلة Su-35S التي تصل قيمتها إلى 65 مليون دولار، ونظام الصواريخ الباليستي قصير المدى من نوع Iskander-M بقيمة تصل إلى 100 مليون دولار.

وأجملت الخسائر في 625 دبابة و1751 عربة قتال مصفحة و316 نظام مدفعي و96 صاروخ إطلاق متعدد و54 نظام دفاع جوي و143 طائرة و131 مروحية و1220 مركبة وسبع سفن. فيما تُشير البيانات المفتوحة إلى تدمير ما مجموعه 2055 مركبة عسكرية روسية تشمل 331 دبابة و235 عربة قتال مصفحة و313 مركبة قتال مشاة و40 نظام صواريخ أرض جو، وبين هذا وذاك يُعتقد أن الأرقام الحقيقية تتوسط تلك التقديرات.  

أما على المستوى البشري، فلا تزال التقديرات غير رسمية أيضًا، لكن الولايات المتحدة قدرتها بحوالي 10 ألف جندي، وهو رقم يقل بحوالي 7 ألاف عن تقديرات وزارة الدفاع الأوكرانية البالغة 17 ألف جندي، لكنه يرتفع كثيرًا عما أعلنته وزارة الدفاع الروسية في 25 مارس ويُقدر بحوالي 1351 جنديًا. وتواجه موسكو صعوبات في توفير المزيد من القوات لتعويض الخسائر القتالية أو مناوبة القوات التي تقاتل حاليًا، لاسيمَّا أن الدراسات تشير إلى أن الجنود يقضون 60 يومًا في القتال قبل أن يفقدوا قدرتهم على الاستمرار، بينما يجادل آخرون بأن المدة 45 يومًا فقط، وبحلول أواخر أبريل تكون القوات الروسية قد أمضت 60 يومًا في القتال.

وقادت تلك الخسائر إلى خفض الروح المعنوية للجنود الروس، حيث زعمت هيئة الأركان العامة الأوكرانية في 3 أبريل أن الجنود الروس يقاومون وفي بعض الحالات يرفضون أوامر بالدخول أو العودة إلى المجهود الحربي. وقالت هيئة الأركان العامة أن الكتيبتين التكتيكيتين اللتين انتقلتا من أوسيتيا الجنوبية باتجاه دونباس قبل أقل من أسبوع رفضتا القتال، وأن خطط إعادتهما إلى أوسيتيا الجنوبية قيد الإعداد.

وزعمت هيئة الأركان أن حوالي 25 جنديًا من اللواء الروسي الحادي والثلاثين المنفصل المحمول جوًا رفضوا الأوامر بالدخول مرة أخرى إلى القتال بسبب الخسائر الفادحة، وأكدت هيئة الأركان أن القادة في مختلف المستويات في الفرقة الروسية الآلية الثالثة رفضوا المشاركة في العمليات القتالية.

• الدعم الغربي العسكري لأوكرانيا: رغم تأكيد الولايات المتحدة ودول الناتو عدم إرسال قواتهم المسلحة للدفاع عن أوكرانيا، فإن الأسلحة الغربية التي تم توفيرها لكييف، وخاصة الصواريخ المضادة للدبابات المحمولة على الكتف، مثل جافلن الأمريكية وNLAWs البريطانية المضادة للدبابات، أحدثت فرقًا في عرقلة تقدم القوات الروسية. ومنذ بدء العمليات العسكرية الروسية ضد أوكرانيا في 24 فبراير، انخرط عدد كبير من أعضاء الناتو في توريد أو الموافقة على توريد أسلحة لأوكرانيا، بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا وبلجيكا وكندا والتشيك وإستونيا وفرنسا وألمانيا واليونان ولاتفيا وليتوانيا وهولندا وبولندا والبرتغال وسلوفاكيا وسلوفينيا. وعلى سبيل المثال، قدمت واشنطن معدات عسكرية بقيمة مليار و150 مليون دولار، وخصص الاتحاد الأوروبي 950 مليون يورو لإمداد أوكرانيا بالسلاح، وسلمت بريطانيا أوكرانيا 3615 من الصواريخ الخفيفة المضادة للدبابات.

• التكلفة المرتفعة لإطالة أمد الصراع: إن إطالة أمد الحرب من شأنها استنزاف القدرات الروسية والأوكرانية وتراجع التصميم الشعبي على تحمل تكلفة الحرب، وزيادة المعاناة الإنسانية والدمار المادي لأوكرانيا دون أي ضمان للنصر؛ فمن غير المرجح أن تستطيع أوكرانيا شن هجوم مضاد عبر الجبهات مترامية الأطراف ولا تحقق روسيا تغييرًا في النظام. وبالتالي يصبح الجمود سيد الموقف ويستلزم تنازلات سياسية كبيرة لن يكون الطرفان على استعداد لقبولها.

• تراجع فاعلية العقوبات الاقتصادية على الأجل البعيد: فرضت الولايات المتحدة وأوروبا حزمة واسعة من العقوبات الاقتصادية لإبعاد روسيا عن نظام التجارة والتمويل العالميين، ورغم محدودية تأثيرها الآني فإنها تنطوي على ضغوطات اقتصادية مستقبلية باهظة ليس فقط على موسكو وإنما تطال النظام الاقتصادي العالمي؛ جراء ارتفاع أسعار النفط وتعطل سلاسل توريد السلع الرئيسية بما سيخلق محاولات دولية للالتفاف عليها، وبالتالي تفقد وظيفتها كأداة ضغط فعالة مستقبلًا لإجبار روسيا على إنهاء عمليتها العسكرية كما قد تعتقد أوكرانيا.

في الأخير، تظل الدبلوماسية والمفاوضات الخيار الأمثل لمنح الطرفين إنهاءً مشرفًا للصراع يضمن لهما تسويقًا داخليًا للنصر يحفظ لهما ماء الوجه؛ فتوقيع أوكرانيا على معاهدة حياد على غرار المعاهدة الفنلندية السوفيتية لعام 1948 التي أنهت حرب الشتاء بين الجانبين وضمنت استقلال فنلندا على المدي البعيد، والمعاهدة التي انسحبت بموجبها القوات الغربية والسوفياتية من النمسا في عام 1954، يتيح لبوتين الترويج لنجاح الهدف الرئيس للمعركة العسكرية المتمثل في منع أوكرانيا الانضمام إلى الناتو ووضع قواعد وصواريخ غربية على أرضها.

فضلًا عن أن انسحاب القوات الروسية من جميع المناطق التي احتلتها منذ بدء الغزو يشكل نجاحًا للمقاومة الأوكرانية، لاسيمَّا أن الصفقة المنشودة تتضمن احتفاظ أوكرانيا بجيشها الخاص كرادع عسكري تقليدي مع حظر إقامة القواعد الأجنبية على أرضها، وهذا الأخير لا يشكل تنازلًا فعليًا كونه لم يتحقق وممنوع أصلًا بموجب القانون الأوكراني، بحسب ميخايلو بودولاك كبير مستشاري زيلينسكي. كذلك، سيمثل اتفاق كهذا تراجعًا –على الأقل مرحليًا– عن تنصيب حكومة صديقة لروسيا، بما يجعله أكثر مقبولية لكييف بوصفه سيكون ضمانًا لاستقلالها السياسي.

لكن التحديات التي تعترض مسار المفاوضات ستجعل تقدمه بطيئًا، بما يعني استمرار الحملة العسكرية، وتأخر حدوث انفراجة على المدى المنظور، وهنا سيكون الدعم الغربي لاتفاق سلام عنصرًا حاسمًا لإنجازه عبر تقديم حوافز للطرفين تقترح التقديرات السياسية والعسكرية اشتمالها على رفع جميع العقوبات المفروضة على روسيا، والتحرك جديًا تجاه تجديد معاهدة القوات النووية متوسطة المدى لتطمين المخاوف الأمنية الروسية بشأن الصواريخ الهجومية الأمريكية في أوروبا الشرقية، واستعادة مجلس روسيا والناتو، والتفاوض على معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا الشرقية بهدف استعادة الأوضاع العسكرية لروسيا والناتو في أوروبا الشرقية بحلول ديسمبر 2021، ويشمل ذلك خفض عدد القوات الأمريكية وقوات الناتو في أوروبا الشرقية إلى ما لا يزيد على 9000 جندي. فضلًا عن تخصيص حزمة ضخمة لإعادة إعمار أوكرانيا تساعدها على تبني النموذج الاقتصادي الغربي –على غرار فنلندا والنمسا اللتين اتبعتا هذا المسار خلال الحرب الباردة رغم وضعهما المحايد– مع إمكانية اتخاذ خطوات فعلية في مسار انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى