
العائدون.. الزاوية الخفية في ملف مكافحة الإرهاب
يرتبط مصطلح “مكافحة الإرهاب” في أذهان الكثيرين، بالجهد الأمني والعسكري المباشر، الموجه ضد المجموعات والعناصر الإرهابية، والذي يشمل المداهمات وعمليات الرصد والبحث والتفتيش، والكمائن التي من خلالها يتم القبض على العناصر الإرهابية، لكن حقيقة الأمر أن مكافحة الإرهاب لها زاوية مستترة لا تقل أهمية عن الزاوية المعلنة، ألا وهي التعامل مع ملف “العائدون” والذي يقصد به مواجهة خطر العناصر الإرهابية العائدة إلى بلدانها الأصلية، من المناطق والدول التي تشهد أنشطة إرهابية رئيسية وهي زاوية مهمة للغاية تصيدتها الأجهزة الأمنية المصرية بشكل ساهم بشكل فعال في تمكين الدولة المصرية من تنفيذ الاستراتيجية الشاملة لمكافحة الإرهاب، وتجنيب البلاد مخاطر أمنية وداخلية جمة.
هذه الزاوية – التي لها ارتباطات مهمة بفترات مفصلية في التاريخ المصري – تم تسليط الأضواء عليها ضمن دراما رمضان لهذا العام، عبر مسلسل “العائدون”، الذي يتناول بشكل مركز ملف المقاتلين الأجانب الذين انضموا لتنظيم “داعش” الإرهابي، في مناطق سيطرته بالعراق وسوريا، خاصة في الفترة بين عامي 2018 و2020، وطبيعة أدوار ومهام هؤلاء بعد عودتهم إلى بلدانهم الأصلية، وكيفية تعامل الأجهزة الأمنية مع المخاطر التي يشكلها هؤلاء، وهو التعامل الذي اتخذ عدة أنساق منها ما كان على الأراضي المصرية، ومنها ما كان على شكل مهام خارجية خاصة.
العائدون من أفغانستان وألبانيا
العام الماضي، شهد شهر رمضان بث مسلسل “القاهرة – كابول”، الذي عرض لمرحلة مهمة من مراحل مواجهة الدولة المصرية مع “العائدون” من المناطق والدول التي تشهد أنشطة إرهابية أو ميليشياوية، وهي مرحلة تم تأطيرها بعدة قضايا شهيرة عرفت إعلاميًا باسم “العائدون من أفغانستان” و”العائدون من ألبانيا” و”العائدون من السودان”. بشكل عام، تمت تحركات “العائدون” إلى مصر في فترة تسعينيات القرن الماضي، على مرحلتين رئيسيتين، الأولى أوائل التسعينيات، وفيها عاد إلى مصر بعض المقاتلين المنتمين عقائديًا لتنظيمات جهادية، بعد أن قاتلوا القوات السوفيتية في أفغانستان خلال حقبة الثمانينيات، وانتمى معظم هؤلاء لتنظيمي “الجهاد” و”الجماعة الإسلامية”، بجانب جماعة الإخوان المسلمين. عقب عودة هؤلاء إلى مصر، انخرطوا في تنظيمات إرهابية استهدفت الدولة المصرية ومؤسساتها خلال حقبة التسعينيات، مستغلين في ذلك الخبرات القتالية التي تحصلوا عليها خلال القتال في أفغانستان.
من أبرز القيادات الإرهابية التي تولت قيادة أنشطة العناصر العائدة إلى مصر من أفغانستان، محمد شوقي الإسلامبولي ومصطفى حمزة ورفاعي أحمد طه وعثمان خالد إبراهيم، وجميعهم كانوا في الأصل من منتسبي تنظيم “الجهاد”، وكانوا ضمن المتهمين الرئيسيين في القضية المعروفة باسم “العائدون من أفغانستان”، خاصة رفاعي طه، الذي كان مسؤولًا عن تشكيل “مجلس شورى الجماعة الإسلامية” في أفغانستان، وظل مسؤولًا عن أنشطة الجماعة في الخارج، إلى أن تم القبض عليه في سوريا، عبر تعاون استخباراتي مشترك بين القاهرة ودمشق والخرطوم، ومن ثم تم تحييد أدوار عدد كبير من العائدين من أفغانستان، عام 1993، بعد اعتقال مئات منهم ضمن القضية المعروفة باسم “تنظيم طلائع الفتح”.
المرحلة الثانية من مراحل انتقال العائدون إلى مصر كانت في الفترة بين منتصف وأواخر التسعينيات، وتضمنت عودة بعض المقاتلين من البلقان والسودان وألبانيا. فخلال الحرب في البوسنة والهرسك، قاتل في البوسنة عشرات المقاتلين المنتمين للتنظيمات الجهادية المصرية المختلفة، وعادوا بعد انتهاء المعارك هناك إلى مصر، وانضم إليهم هناك أعداد أخرى من المتطرفين المنتمين للفكر الجهادي، كانوا يتواجدون ضمن عدة دول عربية وآسيوية، مثل الشيشان والمملكة العربية السعودية واليمن والكويت، بجانب ألبانيا، التي تم فيها عام 1998 اعتقال أحمد إبراهيم السيد النجار أحد أبرز المتورطين في هذه القضية، والذي تولى الإشراف على محطة تنظيم الجهاد في اليمن وكذلك إحدى لجان التنظيم وهي لجنة “التنظيم المدني”.
بشكل عام، كانت حقبة أواخر الثمانينيات وبداية ومنتصف التسعينيات الأقسى على مصر فيما يتعلق بالأنشطة الإرهابية التي نفذتها العناصر العائدة من الخارج، والتي أطلقت موجة أساسية من الموجات الإرهابية، شملت محاولة اغتيال وزير الداخلية المصري زكى بدر عام 1989، واغتيال رئيس مجلس الشعب الدكتور رفعت المحجوب عام 1990 ومحاولة اغتيال وزيري الداخلية حسن الألفي والإعلام صفوت الشريف عام 1993، ومحاولة اغتيال رئيس الوزراء عاطف صدقي عام 1993، واغتيال اللواء رؤوف خيرت مساعد مدير مباحث أمن الدولة عام 1994، بجانب عدة عمليات إرهابية تمت عام 1995، منها اغتيال الملحق الدبلوماسي المصري في سويسرا أحمد علاء نظمي، ومحاولة اغتيال الرئيس الأسبق حسني مبارك في إثيوبيا، وتفجير السفارة المصرية بإسلام آباد.
انتهت هذه السلسلة من العمليات الإرهابية بشكل شبه كامل عقب الهجوم الإرهابي على السائحين في مدينة الأقصر عام 1997، حيث أجبرت الضربات الأمنية المتلاحقة، والتي شملت القيادات الرئيسة للتنظيمات الجهادية المصرية، في إجبار تلك التنظيمات على إعلان “مبادرة وقف العنف”، التي تلتها مجموعة من المراجعات الفقهية، قامت بها تلك القيادات داخل السجون وأعلنت عنها عام 2002، وهنا لابد من الإشارة، إلى أن عددًا من قيادات الجماعات الجهادية المصرية التي انخرطت في هذه المرحلة السالف ذكرها بعد عودتها من الخارج، تم الإفراج عنهم من السجون عام 2012 بموجب عفو رئاسي أصدره الرئيس المعزول محمد مرسي، من بينهم مصطفى حمزة، مسؤول الجناح المسلح في الجماعة الإسلامية، والذي تولى إدارة معسكرات التدريب التابعة للجماعة في أفغانستان.
العودة من العراق وسوريا.. الحقبة الجديدة للعائدين
شهد العقد الأول من الألفية الجديدة، مرحلة جديدة لظاهرة “العائدون”، كان بطلها المقاتلين الجهاديين الذين قاتلوا القوات الأمريكية في العراق، ضمن تشكيلات تنظيم “القاعدة” وتنظيم “التوحيد والجهاد”. عاد بعض هؤلاء إلى مصر منذ أوائل عام 2004، وشكلوا خلايا عنقودية محدودة العدد، نفذت على مدار الفترة بين شهر أكتوبر 2004 وفبراير 2009، سلسلة من التفجيرات التي استهدفت القطاع السياحي في مصر، وهو القطاع الذي كانت الجماعات الجهادية تركز عليه خلال حقبة التسعينيات، وشملت هذه العمليات تفجيرات فندق “هيلتون طابا” عام 2004، والتفجير الانتحاري في شارع الموسكي عام 2005، وانفجار قرب المتحف المصري في نفس العام، الذي شهد أيضًا في شهر يوليو سلسلة من الانفجارات في منطقة “خليج نعمة” بمدينة شرم الشيخ، وتلا ذلك في العام التالي سلسلة انفجارات في مدينة دهب، وانفجار عام 2009 أمام أحد المقاهي في منطقة الحسين بالقاهرة.
هذه المرحلة شملت أيضًا عودة بعض أعضاء تنظيم القاعدة إلى مصر من دول مثل اليمن، لكن تمكنت أجهزة الأمن بحلول عام 2009، من إنهاء المخاطر التي مثلها هؤلاء على الداخل المصري، وتمكنت أيضًا من تغيير فكر وتوجهات بعض قيادات التنظيمات التكفيرية، مثل مفتي تنظيم القاعدة “سيد إمام”، الذي بدأ في نفس العام، بعد ترحيله من اليمن، مراجعات فقهية وفكرية.
العقد الثاني من الألفية الجديدة، شهد تطورًا لافتًا في طبيعة وتشكيل تدفقات العائدين من التنظيمات الإرهابية والتكفيرية، بظهور تنظيم “داعش” وسيطرته عام 2014 على مساحات كبيرة من سوريا والعراق، فقد استقطب هذا التنظيم كل من يعتنق الأفكار الجهادية، وأسس خلايا “الأجانب والمهاجرين”، والتي يتم فيها تجميع المقاتلين القادمين من خارج سوريا والعراق، ضمن مسؤولية ما يعرف بـ “إدارة الوافدين”.
عمليات التجنيد والتجميع هذه، أسفرت عن انخراط ما يقرب من 40 ألف مقاتل أجنبي، ينتمون إلى أكثر من مئة دولة، ضمن صفوف التنظيم، من بينهم نحو 18 ألف عنصر قدموا من شمال أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط. تشير التقديرات إلى أن عدد المصريين بين هذه العناصر يتراوح بين 600 وألف مقاتل، وهو عدد – وإن كان محدودًا – إلا إنه يمثل خطرًا كبيرًا على المستوى النوعي، بالنظر إلى طبيعة التدريبات والخبرة القتالية التي تلقاها هؤلاء، واحتمالات محاولة عناصر إرهابية من جنسيات أخرى دخول مصر.
التحدي الأساسي الذي كان أمام صانع القرار المصري خلال هذه المرحلة، كان في أن المخاطر التي تمثلها العناصر العائدة من سوريا والعراق، كانت متزامنة مع تصاعد الأنشطة الإرهابية لجماعة الإخوان والروافد المسلحة التابعة لها بعد إسقاط حكم الجماعة عقب ثورة 30 يونيو، لذا كان من الضرورة بمكان، أن تشمل الاستراتيجية المصرية لمكافحة الإرهاب، تتبع تحركات العناصر العائدة للخارج، وتحديد العلاقة بينهم وبين جماعة الإخوان، سواء على الجانب اللوجستي أو الجانب التنظيمي.
أهمية هذه الاستراتيجية ظهرت بشكل أكبر، بعد ثبوت ضلوع عدد من هؤلاء العائدين، في تنفيذ عمليات إرهابية على الأراضي المصرية، على رأسها تفجيرات كنيستي مارجرجس ومارمرقص في مدينتي طنطا والإسكندرية، في أبريل 2017، والتي نفذها انتحاريان اثنان ينتميان لتنظيم داعش، وأثبتت التحقيقات أنهما قاتلا سابقًا في سوريا وتلقيا تدريبات عسكرية نوعية هناك.
الاستراتيجية المشار إليها، تتضمن عدة محاور تم تأطيرها عبر قانون مكافحة الإرهاب الصادر في أغسطس 2015، المحور الأول، منها يقوم على رصد وتتبع كافة الشبكات الإرهابية داخل مصر وتفكيك قواعد الدعم اللوجيستي لها وقطع أوصالها وتجفيف منابع التمويل سواء من الداخل أو الخارج وتشديد الحصار المفروض عليها، وذلك بالتزامن مع تشديد أعمال الرقابة والتأمين على الحدود وكافة الاتجاهات الاستراتيجية بالتعاون مع كافة الأجهزة المعنية. المحور الثاني، يقوم على تنفيذ حملات المداهمة والضربات الاستباقية بالتعاون مع المواطنين في مختلف المحافظات وأهالي سيناء. أما المحور الثالث، فيقوم على البدء الفوري في مشروعات التنمية الشاملة والتنمية المستدامة في كافة أنحاء الجمهورية للارتقاء بالأوضاع المعيشية والاجتماعية للقضاء على البيئة المغذية للإرهاب، بالإضافة إلى تمكين الشباب واحتوائهم لحمايتهم من مخاطر الفكر والاستقطاب المتطرف.
بداية انحسار المخاطر التي شكلها “العائدون” من سوريا والعراق، كانت بمقتل القيادي في جماعة الإخوان “محمد كمال”، الذي تولى الإشراف على المجموعات المسلحة النوعية التابعة للجماعة، خلال مداهمة للشرطة بمدينة 6 أكتوبر 2016، حيث تمكنت أجهزة الأمن خلال هذه العملية ومن خلال النشاط الاستخباراتي السابق، من وضع اليد على الخريطة العصبية للمجموعات المسلحة التابعة للجماعة، وتفكيك العلاقة بين هذه المجموعات وبين العناصر العائدة من الخارج، والتي إما اضطرت إلى الفرار للقتال في سيناء، أو حاولت تنفيذ عمليات إرهابية في منطقة الدلتا، علمًا أن بعض هؤلاء قدموا الدعم الفني واللوجيستي لمجموعات الإخوان، خاصة فيما يتعلق بإعداد العبوات الناسفة.
الوعي الأمني المصري بالمخاطر التي تشكلها العناصر الإرهابية العائدة إلى مصر، كان حصيلة الخبرة المصرية في التعامل مع هذا الخطر الأمني خلال تسعينيات القرن الماضي، لذا بدأت الأجهزة الأمنية المصرية في اتخاذ إجراءات عاجلة لمواجهة هذا الخطر، فمنذ عام 2014، الذي شددت مصر فيه إجراءات السفر للخارج، لوقف محاولات بعض العناصر المتطرفة السفر للانضمام إلى التنظيمات الإرهابية في سوريا والعراق، وفرضت على المواطنين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و 40 سنة الحصولَ على موافقات أمنية مسبقة قبل السفر إلى دول مثل تركيا والعراق وسوريا.
تم تعزيز هذه الإجراءات عام 2017، عبر فرض إجراءات جديدة على دخول المواطنين إلى سيناء، تشترط وجود إثباتات أمنية أكبر حول الشخص الداخل إلى سيناء، ما يساعد على سرعة تحديد هوية الوافدين لسيناء، وتحجيم محاولات العناصر الإرهابية الوافدة من الخارج الدخول إلى سيناء لتنفيذ عمليات إرهابية هناك. هذه الإجراءات ترافقت مع دفع وزارتي الداخلية والدفاع، لمزيد من التعزيزات العسكرية إلى النطاقات الحدودية كافة، مدعمة بوسائط المراقبة الإلكترونية، وزيادة عدد الطلعات الجوية لتأمين الحدود ومراقبتها، ما ساهم بشكل فعال في إنهاء أية مخاطر قد تشكلها العناصر الإرهابية الوافدة من الخارج.
بالعودة إلى مسلسل “العائدون”، يمكن القول، إن أحداث الحلقات التي تم بثها منه حتى الآن، أشارت إلى جوانب متعددة في الاستراتيجية الأمنية المصرية لمكافحة الإرهاب ومخاطر العناصر الإرهابية العائدة من الخارج، والتي تشمل تكتيكات استباقية تتضمن اختراق التنظيمات الإرهابية في مواقع نفوذها في العراق وسوريا، سواء عبر عناصر متعاونة مع الأجهزة الأمنية المصرية، أو إدامة التواصل والتعاون الأمني والاستخباراتي مع أجهزة الأمن الوطنية في الدول العربية الشقيقة، مما يساهم في تطوير القدرة الذاتية المصرية على المستوى المعلوماتي واللوجيستي، على تتبع تحركات العناصر الإرهابية المصرية الجنسية في هذه الدول، وترقب وصولها إلى الأراضي المصرية، ومحاصرة أية محاولات من جانب هذه العناصر لنشر أفكارها المتطرفة أو استئناف أنشطتها الإرهابية، وهي استراتيجية أدت – بجانب استراتيجيات أخرى ضمن التجربة المصرية لمكافحة الإرهاب – إلى تمكن الدولة المصرية خلال سنوات قليلة، من تحجيم وإنهاء مخاطر الإرهاب التكفيري، ومن ضمنها ما يمكن أن تمثله العناصر العائدة من الخارج من تهديدات أمنية ومجتمعية.
باحث أول بالمرصد المصري