
حروب القوى الكبرى بين موسكو- بكين وواشنطن.. كلمة السر “الأسلحة الفرط صوتية”
ما لفت الأنظار في الشأن الأمريكي خلال الأيام الأخيرة- الميزانية الضخمة التي طلبها الرئيس الأمريكي جو بايدن لوزارة الدفاع الأمريكية ورغم أن الميزانية السابقة للبنتاجون كانت ضخمة بالأساس ووصلت إلى 778 مليار دولار إلا أن الميزانية الجديدة المقترحة وصلت لحوالي 813 مليار دولار بزيادة قدرها 4.6%.
السبب المباشر الذي يمكنه تفسير الزيادة الكبيرة في ميزانية الدفاع الأمريكية هو الحرب الروسية – الأوكرانية التي دفعت بالعديد من الدول لزيادة الإنفاق العسكري بل أن دول مثل ألمانيا وفرت ميزانية مرعبة لتطوير جيشها وقواتها العسكرية في تحول عن نهجها السابق الذي اتخذته منذ الحرب العالمية الثانية. ولكن عندما يتعلق الأمر بميزانية الدفاع في الولايات المتحدة الأمريكية فإن السبب أكثر قدمًا من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا وإن كانت واشنطن قد تم تذكيرها بالأمر عندما استخدمت موسكو الصواريخ فرط الصوتية في عملياتها العسكرية في أوكرانيا- وهو ما ألح عليه البيت الأبيض بأهمية تطوير منظومة ما يعرف بالأسلحة “فرط الصوتية” والتي تفوقت فيها روسيا وتلتها الصين بينما فشلت واشنطن في تطوير نفس التكنولوجيا وهو ما لم يحدث منذ الحرب الباردة أن تكون الولايات المتحدة متخلفة من الناحية العسكرية عن روسيا أو الصين.
وحسب وزارة الدفاع الروسية، فإن عالم التسلح الجديد سيبنى على تكنولوجيا مختلفة تمامًا عن التكنولوجيا التي يتم توظيفها في الوقت الحالي، بحيث يتم توظيف مبادئ فيزيائية جديدة خصوصًا في الفترة المعاصرة والتي أضحت فيها الحروب تعتمد بشكل أساسي على تقليص الوقت اللازم لاتخاذ القرار إلى مجرد ثوان وذلك من شأنه تحديد الرابح والخاسر.
وكما هو الحال في الملف النووي الإيراني وكون الانسحاب الأمريكي من خطة العمل المشتركة أدى في نهاية المطاف إلى تمكين طهران من تطوير قدراتها الصاروخية فضلًا عن النووية- وهو ما تكرر في الحالة الروسية عندما أعلنت الولايات المتحدة من جانب واحد وفي أغسطس 2019 انسحابها من معاهدة القوى النووية متوسطة المدى مع روسيا والتي كانت تحظر تطوير وإنتاج ونشر كافة أنواع الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز الأرضية، النووية والتقليدية. وفي فبراير من نفس العام أعلن البيت الأبيض انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى لأن واشنطن اشتبهت وقتها في أن المدى الذي تصل له صواريخ كروز الروسية ينتهك بنود المعاهدة.
وكرد فعل على الانسحاب الأمريكي، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين موافقته على تطوير صواريخ كروز إضافة إلى ما يعرف بصورايخ “كاليبر إن كي” الأرضية والصواريخ الأرضية التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، كما تشمل الأسلحة فرط الصوتية التي طورتها روسيا صاروخ “كينجال” الذي تم استخدامه خلال العملية العسكرية في أوكرانيا إلى جانب صاروخ “زركون” و “أفانجارد” ومنها ما يتم إطلاقها عبر السفن الحربية والغواصات.
وتسير الصين على نفس طريق التطور، ففي أكتوبر من عام 2019 عرضت بكين صواريخ من طراز DF-17 الباليستية المزودة بمركبات انزلاقية تفوق سرعة الصوت يعتقد أنه قد تم تطويرها لاختراق أنظمة الدفاع. وحسب وسائل إعلام صينية فإن المركبة الانزلاقية التي تفوق سرعة الصوت الموجودة فوق DF-17 ويبلغ أقصى ارتفاع لها 60 أو حتى 100 كيلومتر، وبعد النزول من أقصى ارتفاع، يمكن أن تنزلق على ارتفاعات 60 كيلومترًا أو أقل. كما تتمتع الصواريخ الصينية بالقدرة على الوصول إلى الأهداف الثابتة عن طريق قدرات البحث الحراري الأمر الذي يغير تمامًا قواعد الحرب التقليدية وحسب وزارة الدفاع الصينية فإن صاروخ أرض – جو فرط صوتي يمكنه اللحاق بطائرة أف – 22 وتدميرها في غضون ثوان.
ما هي المركبات الانزلاقية الفرط صوتية؟
يمكن الإشارة للأسلحة فرط الصوتية اصطلاحًا بـ “هايبر سونيك” وهي تلك النوعية من الأسلحة التي تمتلك القدرة على الانطلاق بسرعة تصل إلى ” 5 ماخ” وهو ما يعني خمس أضعاف سرعة الصوت أو بلغة الكيلومتر 6100 كلم/الساعة وعمومًا ليس ذلك كل ما يميز هذا النوع، وإنما يمتلك القدرة أيضًا على المناورات غير المنتظمة بمعنى أنه لا يسير من نقطة انطلاقه وحتى الهدف الذي من المفترض أن يصيبه في خط مستقيم.
أما التكنولوجيا المستخدمة فهي شبيهة بتلك التي يتم توظيفها في الصواريخ الباليستية، حيث يتم إطلاق المركبات الانزلاقية عن طريق الصواريخ، وبمجرد أن تنتهي مراحل الصاروخ من حيث الاحتراق والانفصال عن المركبة فإن المركبة لا تقوم بدفع نفسها، ولكنها تعمل كطريقة عمل الطائرة الشراعية بشكل يفوق سرعة الصوت حاملة المتفجرات، وبما أنها تعمل بتكنيك الطائرة الشراعية فهي قادرة على القيام بمناورة مختلفة، ولهذا فإن مساراتها غير قابلة للتنبؤ مما يمكنها من استهداف نقاط لا يمكن لأجهزة الرادار رصدها وخصوصًا تلك الأهداف على مستويات منخفضة، ولذلك فإنه لا يمكن للصواريخ الباليستية اعتراضها .
واشنطن تحاول اللحاق بالركب
نظرًا لكون واشنطن قد تخلفت عن تطوير تكنولوجيا التسلح لديها في هذا المجال فقد لجأت إلى حل بديل ولكنه يبدو مؤقت بشكل كبير، يتضمن إطلاق مجموعة من الأقمار الصناعية ذات المدارات المنخفضة لتعقب الصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت والتي تمتلك مسارات منخفضة لا يمكن للأنظمة الدفاعية الحالية في الولايات المتحدة تعقبها أو اعتراضها، والمقصود هنا هو برنامج الاستشعار الفضائي للتتبع فوق الصوتي والذي تعمل واشنطن على تطويره حاليًا أو بمعنى آخر نظام أقمار صناعية جديد للإنذار المبكر لتحديد وتعقب الصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت.
ولكن إن كانت واشنطن سوف تنجح في التصدي للصواريخ فوق الصوتية أو تعقبها، فإن هذا غير كافي على المدى الطويل لأن الأهم في مجال الأسلحة فرط الصوتية هو توجيه الضربات الاستباقية خصوصَا أن الاتفاق بين الولايات المتحدة واليابان، يتضمن أن تقوم طوكيو بواجب الردع ضمن مبدأ “السياسة الأمنية الدفاعية الصارمة” فيما تترك القدرات الهجومية للولايات المتحدة. وبشكل عام تتنافس في هذا المجال خمس دول تتصدرهم روسيا والصين والولايات المتحدة فيما لا تزال ألمانيا وفرنسا والهند واليابان وأستراليا وكذلك كوريا الشمالية يعملون على تطوير التقنية. وفي نفس السياق فقد أشارت أبحاث صادرة عن الكونجرس الأمريكي أن كل من إيران وإسرائيل وكوريا الجنوبية أجروا أبحاثا أساسية بشأن هذه التقنية.
ويتمثل التحدي الأكبر للولايات المتحدة في عدد من الأوجه أولها أنها لا تمتلك حتى الآن لا هي ولا حلف الناتو أي سلاح يوازي ما تمتلكه روسيا والصين، كما أنها لم تستطع حتى الأن تطوير تكنولوجيا قادرة على تتبع أو اعتراض الصواريخ فرط الصوتية نظرًا لكونها تنطلق على ارتفاعات منخفضة كما أنها قادرة على المناورة وبالتالي لا تلتقطها الرادارات.
وتنبغي الإشارة هنا إلى أن الولايات المتحدة كانت من أوائل الدول التي سعت إلى تطوير الصواريخ فرط الصوتية منذ ستينيات القرن الماضي، إلا أنه مع انهيار الاتحاد السوفيتي وتكرار فشل التجارب الأمريكية وارتفاع تكلفتها جعل واشنطن تعيد التفكير في مسألة المضي قدمًا في تطوير هذه النوعية من الأسلحة وربما كان هذا هو السبب في تأجيل القرار الخاص بإنتاج 12 صاروخًا من هذه النوعية حيث تبلغ تكلفة اختباراتها حوالي 1.4 مليار دولار، وهو ما يفسر ارتفاع ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية في الطلب الذي تقدم به جو بايدن، مع الوضع في الحسبان أن البنتاجون يضع تطوير هذا البرنامج على رأس أولوياته خصوصًا أن الكونجرس كان قد عرقل توفير التمويل اللازم في أعقاب اجتماع جمع بين شركات “رايثيون” و”لوكهيدمارتن” و “نورثروب”.
وتتعامل الولايات المتحدة مع الأمر بجدية مفرطة وقد حددت هايدي شايو وكيلة وزارة الدفاع لشؤون التكنولوجيا (البحوث والهندسة) في مذكرة رسمية بتاريخ أول فبراير الماضي ثلاث مجموعات من سلاسل البحوث تشمل 14 مجالًا من المجالات التكنولوجية، التي يجب التركيز عليها في الاستراتيجية الجديدة للعلوم والتكنولوجيا، التي ستكون جزءا أساسيًا من استراتيجية الدفاع القومي للولايات المتحدة للعام الحالي 2022.
وقد يطرح البعض سؤالًا منطقيًا حول كيف تمكنت روسيا بميزانياتها الدفاعية التي لا يمكن مقارنتها بحجم الإنفاق العسكري في الولايات المتحدة على امتلاك هذه النوعية من الأسلحة، في الوقت الذي فشلت فيه واشنطن في امتلاك تقنية الهايبر سونيك حتى الآن، وللإجابة عن السؤال ينبغي تفسير الفروق بين الحالة الروسية والحالة الأمريكية ففي الوقت الذي قضت الولايات المتحدة فيه عقود في أفغانستان والشرق الأوسط – ركزت وزارة الدفاع الأمريكية على توظيف أنظمة القتال الحالية مثل طائرات “أف 14″ و”أف 22 رابتور” و”أف 35″. فقد كان يُنظر إلى صواريخ “الهايبر سونيك” على أنها أسلحة باهظة الثمن، بينما لا يوجد تهديد قوى لدى الخصوم للتعامل معه.
وكان من أهم الدوافع التي جعلت الولايات المتحدة تعيد التفكير في دخول برنامجها إلى نطاق التنفيذ، الهجمة التي شنتها موسكو بالصواريخ فرط الصوتية في 18 مارس الماضي عندما ضربت هدفًا تحت الأرض في أوكرانيا وكأنما قصدت روسيا استعراض قوتها فقط، لأن الإمكانيات العسكرية للجيش الأوكراني تجعل الأسلحة التقليدية التي تمتلكها روسيا كفيلة بحسم الأمور، ولذلك فإن استخدام روسيا للتكنولوجيا فرط الصوتية في أوكرانيا يقدم قيمة استراتيجية وهو نفس السبب الذي دعا الولايات المتحدة إلى الإسراع في امتلاك تكنولوجيتها بما يضمن لها الحفاظ على هيبتها كقوة عسكرية أولى في العالم
توازن الرعب
تتمثل خطورة هذه النوعية من الأسلحة من أنها قد تقود العالم في أي وقت لحرب مدمرة، وفي حالة وجود نزاعات سياسية فإن قدرتها على الانطلاق ستكون أسرع بكثير من التفكير في عواقب استخدامها، كما أنه لا يمكن التنبؤ بإذا ما كان الصاروخ يحمل رأسا تقليديًا أو نوويًا. وعلى الرغم من أن هذه الصواريخ قد لا تكون قادرة بعد على حسم الحروب إلا أن القدرة على امتلاكها يعطي مؤشرًا بأن الدولة قادرة على تطوير أسلحة غير تقليدية.
وبما أن هذه النوعية من الأسلحة غير خاضعة لأي اتفاقيات تحد منها أو تقنن استخدامها فإن الدول القادرة على امتلاك تقنيتها ستكون هي السباقة في مجال التسلح والحسم والردع، ورغم كون الأسلحة فرط الصوتية ترد الاعتبار للأسلحة غير النووية إلا أن هناك عدد من التحديات التي تواجهها- منها صعوبة التعامل مع الحرارة الناجمة عن الجسم المتحرك في الوقت الذي يحلق فيه بسرعة تفوق سرعة الصوت بما يضمن كفاءته ودقته في إصابة الهدف.
وحال نشبت حرب باستخدام هذه النوعية من الأسلحة فإن نتائجها قد تكون موازية لنشوب حرب نووية مع الأخذ بالحسبان هنا أن الدولة البادئة لا تتحمل مخاطر إدانتها دوليًا بشن حرب نووية وهو ما يؤدي إلى فقدان مزايا نظرية الردع الاستراتيجي القائمة على الأسلحة النووية ويغير خريطة التوازنات ويكفي أن نشير هنا إلى أنه لو قررت الصين استهداف مواقع أمريكية بأسلحة فرط صوتية، فإن أول رد فعل أمريكي تتلقاه الصين سيكون بعد ساعات وليس دقائق ولن تجدي هنا الدفاعات الجوية التي منحتها واشنطن لتايوان لا في ردع الهجوم الصيني ولا الرد عليه، وذلك لأن هذا النمط من السلاح يمكنه استهداف البنية التحتية وأجهزة الرادار ومراكز القيادة والسيطرة على الجزيرة التايوانية وبالتالي فإن التوازن المبني على الردع النووي سيصاب بحالة من الخلل.
إجمالاً، رغم التطور الكبير في عالم التسلح والوصول إلى تقنيات تصارع الصوت، إلا أن الأسلحة الفرط صوتية والصواريخ الباليستية ليست كافية لحسم الحرب، ولا يزال للأسلحة التقليدية دور كبير في حسم الحروب على الأرض وما يستدل به على ذلك العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا- وهي نفس العملية التي وضعت واشنطن في موقف حرج وأظهرت بحدة مدى تراجعها في مجال التسلح الفرط الصوتي، بشكل يدفع بقوة لسرعة تنفيذ البرنامج الفضائي الأمريكي للاستشعار وكذلك تطوير التكنولوجيا الفرط صوتية بالاعتماد على الميزانية الأضخم التي اقترحها جو بايدن لوزارة دفاعه.
باحث أول بالمرصد المصري