الأزمة الأوكرانيةأوروبا

رأس الحربة النووية… كالينجراد وملامح أزمة مستقبلية في أوروبا الشرقية

تستمر التداعيات الإقليمية المرتبطة بالأزمة الأوكرانية في الظهور تباعًا في شرق أوروبا، وهي تداعيات ترتبط بشكل أو بآخر بالصراعات التاريخية في القارة العجوز، والتي كانت لها انعكاسات جذرية على الواقع الجيوسياسي في معظم دولها، خاصة تلك الانعكاسات التي نجمت عن الفصل الأخير من فصول الحرب العالمية الثانية عام 1945 والذي مثل بداية حقبة جديدة لدول ومناطق أوروبية عدة، تضمنت تلك الحقبة محطات لا تقل أهمية عن هذا الفصل، على رأسها محطة انهيار الاتحاد السوفيتي وتفككه مطلع تسعينيات القرن الماضي.

اندلاع المعارك على الأراضي الأوكرانية أعاد إلى الأذهان ملف إقليم “كالينجراد” الروسي المطل على بحر البلطيق، والذي تحده من الشمال دولة ليتوانيا ومن الجنوب دولة بولندا. هذا الإقليم، الذي ظل خلال العقود الماضية، مثالًا من أمثلة المناطق الأوروبية التي تتسم بطبيعة سياسية واستراتيجية خاصة للغاية، تعاظمت أهميته بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، خاصة في ظل احتمالات لعبه دور “رأس الحربة” في أي نزاع عسكري واسع النطاق بين موسكو وحلف الناتو. وعلى الرغم من أن هذا الملف تم فتحه عدة مرات خلال سنوات ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، إلا أن دوره في هذا الفصل من فصول الصراع في شرق أوروبا يتسم بزخم أكبر من أي وقت مضى، بالنظر إلى موقع هذا الإقليم، وما يمتلكه من قوة عسكرية نوعية.

كالينجراد التاريخية…. التأرجح بين برلين وموسكو

رغم كون إقليم كالينجراد حاليًا جزءًا من الاتحاد الروسي، إلا أنه ارتبط دومًا عبر التاريخ بدول أوروبية أخرى، على رأسها ألمانيا. بدأ تاريخ هذا الإقليم بشكل عام في منتصف القرن الثالث عشر، عندما تم تأسيس قلعة “كونيغسبرغ” قرب مصب نهر “بريجوليا”، على يد فرسان “تيوتون” الألمان الذين اجتاحوا أراضي جنوب شرق بحر البلطيق، ومن ثم ضموا عدة مدن محيطة بهذه القلعة، ليتشكل بذلك إقليم “كونيغسبرغ” الذي ظل ضمن أراضي مقاطعة “بروسيا الشرقية” التابعة لمملكة “بروسيا” الألمانية حتى اندلاع حرب السنوات السبع عام 1756، التي شاركت فيها روسيا مع فرنسا والنمسا وروسيا والسويد وسكسونيا، ضد بروسيا وبريطانيا وهانوفر، وخلالها سيطر الروس على هذا الإقليم عام 1758، وظل ضمن السيطرة الروسية حتى أعيد مرة أخرى إلى مملكة بروسيا عام 1762، وظل ضمن هذه المملكة حتى عام 1919، مع تأسيس جمهورية “فايمار”، وصولًا إلى الرايخ الألماني الثالث خلال مرحلة الحرب العالمية الثانية.

عادت موسكو وسيطرت على هذا الإقليم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، بعد أن تم الاتفاق بينها وبين بقية دول الحلفاء -في إطار اتفاقيات “بوتسدام” الموقعة عام 1946- على نقل بعض الأراضي الألمانية إلى نطاق الاتحاد السوفيتي السابق، بما في ذلك هذا الإقليم الذي تم تغيير اسمه إلى الاسم الحالي -كالينجراد- تيمنًا باسم رئيس اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي آنذاك “ميخائيل كالينين”. عقب هذا الإجراء، بدأت السلطات السوفيتية في تغيير الواقع الديموجرافي في هذا الإقليم، عبر إجبار السكان ذوي الأصول الألمانية، على مغادرة الإقليم، وإحلال مواطنين سوفييت محلهم.

خلال الحقبة السوفيتية، كان هذا الإقليم مثالًا للصراع بين شرق أوروبا وغربها، فمن جهة حرصت السلطات السوفيتية على إغلاق هذا الإقليم على سكانه، وعزله عن محيطه الخارجي، أسوة ببقية المناطق السوفيتية. ومن ناحية أخرى، كانت الظروف المعيشية داخل الإقليم أفضل ممن معظم المناطق السوفيتية، بسبب دخول بعض البضائع الغربية إلى أسواق هذا الإقليم عن طريق التهريب، وكذلك رغبة السلطات الحاكمة في الحفاظ على التماسك الداخلي لهذا الإقليم الذي كان يضم القاعدة الأساسية لأسطول بحر البلطيق السوفيتي. هذه الظروف أسهمت مجتمعة في جعل هذا الإقليم خلال وجوده ضمن الاتحاد السوفيتي، أحد أفضل الأقاليم السوفيتية.

بانهيار الاتحاد السوفيتي أوائل تسعينيات القرن الماضي، دخل هذا الإقليم تحت السيطرة الروسية، ولكنه عانى من مصاعب اقتصادية كبيرة؛ إذ أهملته السلطات الروسية خلال حقبة التسعينيات، وقامت بتخفيض عدد الجنود المنخرطين ضمن وحدات أسطول بحر البلطيق بنسبة تقارب 90%، وعانى هذا الإقليم من معدلات فقر كبيرة رغم إعلانه كمنطقة تجارة حرة عام 1993، فضلًا عن تفشي كافة أشكال التجارة غير المشروعة فيه. في مطلع القرن الجديد، بدأت كل من أوروبا وروسيا النظر لهذا الإقليم نظرة مغايرة تمامًا لما كان الحال عليه سابقًا.

بداية المخاوف الأوروبية من الوجود العسكري الروسي في كالينجراد

بدأت أوروبا مطلع القرن الجديد في ملاحظة تغيرات جذرية في الرؤية الروسية لدور إقليم كالينجراد في المعادلة الأوروبية، وهذه المخاوف تزايدت بشكل أكبر اعتبارًا من مايو 2004، أي منذ انضمام كل من بولندا وليتوانيا المجاورتين لهذا الإقليم إلى الاتحاد الأوروبي. هذه المخاوف -التي تراوحت بين الجانب السياسي والجانب الأمني والعسكري- ترسخت على مدار السنوات اللاحقة وصولًا إلى المرحلة المعاشة حاليًا. بداية هذا الوضع كانت عام 2005، حين تجاهل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عشية الاحتفال بذكرى تأسيس إقليم “كالينجراد” بتسميته القديمة، إرسال دعوات إلى قادة دول بحر البلطيق -لاتفيا وإستونيا وليتوانيا- بجانب بولندا، ما أضفى أجواء من التوتر بين الدول المحيطة بهذا الإقليم وموسكو.

تصاعد هذا التوتر بشكل أكبر عام 2007، الذي يمكن اعتباره بداية تشكل الدور الجيوسياسي الحالي لإقليم كالينجراد، مع بدء تشكل الذهنية التوسعية الروسية وتعاظم اهتمام موسكو بمواطنيها الموجودين في الخارج، لذا شرعت روسيا في حملة لتعزيز تواجد مواطنيها في إقليم كالينجراد، وفي نفس الوقت اتخاذ هذا الإقليم كوسيلة لبث الرسائل المناهضة لحلف الناتو.

هذا كان واضحًا من خلال تصاعد لهجة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال كلمته في مؤتمر ميونيخ للأمن الذي انعقد في فبراير من نفس العام، وحمل تحذيرات واضحة لحلف الناتو من محاولات التمدد نحو الأراضي الروسية، وأطلق حينها ما يمكن أن يوصف بأنه “مرحلة السلام البارد”، وهو توجه كان له، بجانب قرار موسكو تعليق عضويتها في هذا المؤتمر، تأثيرات أساسية على وضع إقليم كالينجراد في المعادلة الأوروبية، فقد تحول هذا الإقليم إلى بؤرة حشد عسكري روسية ضد حلف الناتو، ضمن ما يعرف باسم “دبلوماسية إسكندر”.

فقد بدأت موسكو -منذ عام 2008- في التلويح بشكل دوري، بإمكانية نشر الصواريخ الباليستية التكتيكية “إسكندر-إم” على أراضي إقليم كالينجراد، وهي صواريخ تمتلك القدرة على حمل شحنات نووية، ويصل مداها العملياتي إلى 500 كيلو متر. هذا التلويح كان يتناسب بشكل طردي مع مستوى التوتر بين موسكو والعواصم الغربية، حيث شاركت وحدات صاروخية من هذا النوع في التدريب العسكري الواسع النطاق “زاباد” عام 2009، الذي أقيم جزء أساسي منه على أراضي إقليم كالينجراد. ولوحظ أن هذا التدريب تضمن محاكاة لهجمات صاروخية على أراضي دول معادية. 

انسحاب موسكو في مارس 2015، من اتفاقية القوات المسلحة التقليدية في أوروبا “CFE”، كان إيذانًا ببدء عملية التمركز الدائم لهذا النوع من الصواريخ في إقليم كالينجراد، والتي بدأت نظريًا عام 2016، وتم بحلول عام 2018، إعلان إنهاء البنية التحتية اللازمة للتمركز الدائم لهذا النوع من الصواريخ على أراضي الإقليم، والتي تتيح للقوات الروسية استهداف العاصمة الألمانية برلين.

تمركز هذا النوع من الصواريخ تزامن مع حملة تحديث واضحة للمنشآت العسكرية الروسية على أراضي الإقليم، بما في ذلك المنشآت ذات الطبيعة النووية، وعلى رأسها قاعدتي “كوليكوفا” الخاصة بتخزين الذخائر والعتاد العسكري، وقاعدة “بالتيسيك” البحرية، وقاعدة “تشيرنياكوفسك” الصاروخية، وقاعدة “تشكالوفسك” الجوية. بشكل عام تمثل القوة العسكرية الروسية الحالية في هذا الإقليم عامل تهديد أساسي أمام حلف الناتو، بالنظر إلى القدرات القتالية الكبيرة التي تتمركز بشكل دائم على أراضيه، وتنوعها ما بين القوة الجوية والقوة البحرية والقوة الصاروخية.

على مستوى القوة الجوية، تضم هذه المنطقة أربعة مطارات عسكرية روسية، وهي مطار “Chernyakhovsk” الذي يضم وحدات مروحية تابعة لقوة البحرية الخاصة بأسطول بحر البلطيق، ومطار “Chkalovsk” الذي يضم الفوج الجوي القتالي 689، ويتسلح هذا الفوج بمقاتلات “سوخوي-27” بجانب طائرات بدون طيار من نوع “فوربوست”.

ويضم هذا المطار فوج الطيران البحري الهجومي الرابع، ويتسلح هذا الفوج بقاذفات “سوخوي-24” ومقاتلات “سوخوي-30”. المطار الثالث هو مطار “Khrabrovo” وتتمركز به المروحيات القتالية “مي-24”. والمطار الرابع هو مطار “Donskoye”، ويتمركز فيه فوج المروحيات 396، الذي يتسلح بتشكيلة من المروحيات البحرية، منها المروحيات المضادة للغواصات “Ka-27″و”Ka-27″، بجانب المروحيات الهجومية من نوع “مي-24” ومروحيات النقل “مي-8″، وطائرات الدورية البحرية “BE-12”.

تم تعزيز القوة الجوية الروسية في هذه المنطقة في التاسع من فبراير الماضي، بوصول خمس مقاتلات من نوع “ميج-31″، إلى مطار “Chkalovsk” العسكري، محملة بصواريخ “كينزال” الأسرع من الصوت، البالغ مداها 2000 كيلو متر، وهو ما يوفر للقوات الروسية القدرة على استهداف معظم الدول الأوروبية، بما في ذلك بريطانيا. جدير بالذكر أن هذا الإقليم يتضمن قوة دفاع جوي أساسية، تتألف من فوج الدفاع الجوي 1545 الذي يتكون من كتيبتي صواريخ “أس-400″، بجانب فوج الدفاع الجوي 183 الذي يتضمن أربع كتائب “إس-400” وكتيبتي “إس-300″، ومنظومات بانتسير.

على المستوى البحري، يتمركز في قاعدة “بالتييسك” البحرية، القاعدة الرئيسية لأسطول بحر البلطيق، مجموعة متنوعة من الوحدات البحرية الهامة، على رأسها مدمرة الصواريخ الموجهة من الفئة “Sarych” المسماة “Nastoychivyy” وفرقاطتين من الفئة “Yastreb”، ونحو 20 كورفيت صاروخي متنوع من بينها ثلاثة من الفئة “Karakurt” وأربعة من الفئة “20380” وأثنين من الفئة “Buyan-M” وأربعة من الفئة “Ovod-1” وسبعة من الفئة “Tarantul”، وثلاثة كورفيتات مضادة للغواصات من الفئة “Parchim”، بجانب 11 كاسحة ألغام، وأربعة سفن للاستخبارات والتصنت، بواقع اثنتين من الفئة “864” واثنتين من الفئة “Alpinist”، وأربعة سفن للإنزال البحري، وزورقي هوفركرافت للإنزال البري، وعشر سفن صغيرة للإنزال البحري، بجانب سفن مساندة وزوارق صغيرة للدورية. 

يضاف إلى هذه الوحدات، فرق المشاة التابعة للأسطول، وتشمل فرقة ميكانيكية ولواء مشاة بحرية وفوج ميكانيكي وكتيبة قوات بحرية خاصة ولواء مدفعية، ولواء صواريخ ساحلية وفوج صواريخ ساحلية، يتسلحان بصواريخ “ياخونت” المضادة للسفن، بجانب فيلق الجيش الحادي عشر في منطقة “Chernyakhovsk”، الذي يضم لواء صواريخ “إسكندر” التكتيكية، بجانب فوج ميكانيكي ولواء مدفعية وفرقة ميكانيكية.

أهمية متعددة الأوجه لإقليم كالينجراد بالنسبة لموسكو

لا تقتصر أهمية هذا الإقليم بالنسبة لروسيا على الجانب العسكري فقط؛ فهذا الإقليم يمثل جزءًأ من الطموح الروسي لإكمال طوق الهيمنة على إمدادات الطاقة لأوروبا، وذلك عبر مشروع المحطة النووية “البلطيق”، والذي بدأت موسكو في إنشائها في أبريل عام 2008، في موقع على بعد 13 كيلو مترًا جنوب شرق مدينة “نيمان” شمال شرق الإقليم. 

يُنظر إلى هذا المشروع على أنه مشروع جيوسياسي، تريد موسكو من خلاله ضمان السيطرة على إمدادات الطاقة الكهربائية لدول البلطيق، ومن ناحية أخرى مواجهة مشروع ليتوانيا لبناء محطة طاقة نووية في منطقة “فيساجيناس”، وتأمين احتياجات الإقليم من الكهرباء، في حالة ما إذا قامت دول البلطيق بفصل نفسها عن شبكة الكهرباء الروسية، والربط مع الشبكة الأوروبية الموحدة “ENTSO-E”، وهو ما قد يتسبب في عزل الإقليم كهربائيًا عن روسيا.

حسب التخطيط العام لهذه المحطة، يتوقع أن تتكون من مفاعلين يعملان بالماء المضغوط، تبلغ قدرة كل منهما 1150 ميجاواط. تم إيقاف هذا المشروع بشكل مؤقت عام 2013، نتيجة لتعقيدات مالية، لكن مازال هذا المشروع قائمًا، خاصة أنه يترافق مع مشروعات كهربائية روسية أخرى في هذا الإقليم، على رأسها مشروع المحطات الغازية الثلاث لتوليد الطاقة الكهربائية، والتي تم افتتاح آخرها، وهي محطة “بريجلوسكي” عام 2019، وتبلغ قدرة المحطات الثلاث -بجانب محطة رابعة تعمل بالفحم- حوالي 1 جيجا وات.

على المستوى التجاري، أصبح ميناء كالينجراد نقطة مهمة من نقاط خط السكك الحديدية المار على طول خط الحزام والطريق من الصين إلى أوروبا. يضم إقليم كالينجراد مصنع للسكك الحديدية، ويوفر الخط الحديدي الرابط بين الصين والإقليم، مرورًا بكازخستان وروسيا وبيلاروسيا وليتوانيا، طريقًا تجاريًا سريعًا إلى بلدان الشمال الأوروبي، يتم تسليم الشحنات مباشرة إلى السفن في ميناء الإقليم، ثم نقلها إلى مباشرة إلى الدول الاسكندنافية أو البنلوكس أو بريطانيا، وهو ما يقلل من تكاليف التشغيل والشحن.

أوروبا تلوّح بفتح ملف كالينجراد

مع بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا، بدأت بعض الأصوات الأوروبية في إعلاء أفكار كانت قد طُرحت خلال السنوات الماضية، تتعلق بملكية هذه الدولة أو تلك لإقليم كالينجراد. آخر هذه الأصوات كان القائد السابق للقوات البرية البولندية، الجنرال فالديمار سكشيبتشاك، الذي أدلى بتصريحات تلفزيونية أكد فيها أن هذا الإقليم هو أرض بولندية، وقد سبق وصرح العام الماضي بتصريحات مماثلة، مبنية على اعتقاد بأن اتفاق “بوتسدام” قد منح روسيا هذا الإقليم لمدة 50 عامًا فقط، لكن حقيقة الأمر أن ألمانيا الموحدة قد قامت عام 1990 بتوقيع معاهدة تسوية نهائية مع روسيا، التزمت فيها برلين بعدم المطالبة بأية أراضي محل نزاع مع أي دولة أخرى. حقيقة الأمر أنه منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، واجهت ملامح نشاط انفصالي داخلي في هذا الإقليم، وكذلك مطالبات من جانب دول مثل ليتوانيا، بولندا وألمانيا بملكية هذا الإقليم.

سبق لعدة شخصيات غربية طرح ملف ملكية هذا الإقليم، مثل السفير الأمريكي السابق في روسيا، مايكل ماكفول، الذي ألمح إلى أحقية ضم ألمانيا لهذا الإقليم، وذلك بعد ضم موسكو شبه جزيرة القرم عام 2014. لسكّان إقليم كالينينغراد علاقة مميزة بالدول الأوروبية، فهم أقرب إلى دول الاتحاد الأوروبي من باقي المقاطعات الروسيّة، هذا بالإضافة إلى أنّ 25% من سكانه يمتلكون تأشيرة الـ “شنجن” الأوروبية، ونحو 60% من سكّانه حاصلون على جوازات سفر أجنبية، ناهيك عن تعاظم علاقاتهم بالدول الأوروبية المجاورة، حيث يدرس قسم كبير منهم في دول مثل ليتوانيا وبولندا وألمانيا، وهو ما يوفر نافذة لإمكانية خلق توترات لروسيا في هذا الإقليم من جانب حلف الناتو.

داخليًا، يوجد تيار انفصالي محدود داخل إقليم كالينجراد، يضم مجموعات تعتنق أفكار النازية الجديدة اليمينية، مثل “حزب البلطيق الجمهوري” المحظور في روسيا، وحزبي “BARS”و “CBS”. وقد سبق لأحد أعضاء هذا الحزب الأخير أن قام بتعليق علم ألمانيا على مبنى البلدية في عاصمة الإقليم في مارس عام 2014. هذه الجماعات ترتبط بمجموعات يمينية في ليتوانيا وألمانيا، وقد يمكن استخدامها من جانب دول أوروبية، في إثارة قلاقل داخل هذا الإقليم، بشكل مماثل لما تقوم به حاليًا المجموعات النازية في أوكرانيا. 

يضاف إلى هذه المجموعات، وجود بعض المجموعات الأخرى ذات التوجهات الثقافية، مثل منظمة البيت الروسي الألماني “RND”، التي تحاول الحفاظ على الإرث الالماني داخل الإقليم، وهو ما تحاول موسكو مناهضته بشكل لافت، وهذا يظهر بشكل كبير من خلال تحركات الكنيسة الروسية التي صرح ممثلها في منتدى مجلس الشعب الروسي الدولي عام 2015، البطريرك كيريل بأن كالينجراد تعد بؤرة المواجهة مع الغرب. علاوة على ذلك، دعا زعيم الكنيسة الأرثوذكسية الروسية إلى تصعيد الحملة ضد بقايا الإرث الثقافي الألماني في الإقليم.

موسكو من جانبها بدأت تستشعر احتمالات لجوء الغرب إلى هذا السلاح ضدها، وتزايدت مخاوفها بشأن علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع الإقليم، بعد أن أغلق الاتحاد الأوروبي مجاله الجوي أمام الرحلات الجوية الروسية، ما أجبر الطائرات على التحليق لمسافة أطول بين الإقليم وروسيا، وهو ما قد يتسبب في زيادة أسعار السلع الغذائية في هذا الإقليم، ومن ثم تزايد احتمالات حدوث قلاقل أمنية فيه. 

لذا، عمد الكرملين الى اتخاذ جملة من التدابير والإجراءات الاحترازية، رغم أن إغلاق الاتحاد الأوروبي للمجال الجوي أمام روسيا لا يعد حصارًا للإقليم بالمعنى المفهوم؛ نظرًا لأن موسكو لا تزال قادرة على إمداد الإقليم عبر السكك الحديدية والطرق البرية عبر ليتوانيا، وكذلك عن طريق البحر، وإن كان ذلك يتطلب مدة زمنية أطول لوصول البضائع. عززت موسكو خلال الأسابيع القليلة الماضية إمدادات الغذاء إلى الإقليم، وأطلقت هذا الشهر سفينة جديدة قادرة على حمل السيارات والقطارات بين الموانئ الروسية بالقرب من سانت بطرسبرغ والإقليم. 

على خط مواز، اتخذت موسكو أيضًا خطوات لضمان أمن الطاقة في الإقليم، حيث يتدفق الغاز الطبيعي الآن إلى هناك عبر خط أنابيب يمر من ليتوانيا، لكن الحكومة الروسية تخشى أن يتم إيقافه، ولذلك وضعت خططًا للاعتماد بشكل أكبر على الفحم والغاز الطبيعي المسال. وتحقيقًا لهذه الغاية، تخطط موسكو أيضًا لتحويل بعض محطات توليد الكهرباء في الإقليم من النفط إلى الفحم، إضافة الى وضع المزيد من سفن الغاز الطبيعي المسال على الطريق بين روسيا والإقليم، وقد تم التجهيز لذلك مؤخرًا عبر تمركز محطة عائمة لإسالة الغاز في الميناء الرئيسي للإقليم.

التطور الثاني المرتبط بهذا الإقليم كان تحليق أربع مقاتلات روسية، بواقع قاذفتين اثنتين من نوع “سوخوي-24” ومقاتلتين من نوع “سوخوي-27″، انطلاقا من إقليم كالينجراد أوائل الشهر الجاري، نحو جزيرة “غوتلاند” السويدية، مخترقة المجال الجوي السويدي. اللافت في هذا الحادث كان إعلان السلطات السويدية أن القاذفتين اللتين كانتا ضمن هذا التشكيل كانتا تحملان قنابل نووية جوية، وهي الخطوة التي تحمل رسائل حادة من جانب موسكو للسويد، التي التزمت مؤخرًا بإرسال مساعدات عسكرية إلى اوكرانيا، تضمن خمسة آلاف قاذف مضاد للدبابات، وهي المرة الأولى منذ عام 1939 التي ترسل فيها السويد أسلحة إلى بلد في حالة حرب. موقع انطلاق هذه الطائرات، ونوعية هذه الحمولة، وكذلك نوعية المنظومات القتالية التي تحتويها منطقة كالينجراد حاليًا تمثل مؤشرًا واضحًا على حرص موسكو على الحفاظ على هذه الورقة، كرأس حربة أساسية ضمن أي مواجهة محتملة مع حلف الناتو، أو أي محاولة لفرض حصار على هذا الإقليم.

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى