الأزمة الأوكرانيةروسيا

موسكو على خريطة صعود وهبوط الأمم: كيف تنمو حدود الاتحاد الروسي؟

لا يوجد خلاف على أن العالم أجمع بات بحاجة إلى نظام جديد غير ذاك القائم على “القطب الواحد”. والأسباب وراء هذه الحاجة كثيرة ومتعددة. فبغض النظر عن مدى شرعية الحرب في أوكرانيا، يظل العالم على كل حال بحاجة حقيقية وماسة إلى نظام دولي ذي قواعد وأسس ومبادئ ثابتة لا يستثنى منها أصحاب دولة القطب الواحد، في نفس الوقت الذي تُطبق فيه نفس المبادئ وبقوة على كل من عداهم. 

ومن هذا المنطلق، تُثير الحرب الروسية الأوكرانية الدائرة، في الوقت الراهن، تساؤلات حول دوائر صعود وأفول الأمم الكبرى، على غرار، كيف تصعد الأمم، وتكتسب صفة “القوة العظمى”؟ وكيف تسقط فيما بعد؟ وعلاقة الردود على هذه الأسئلة بالنمو المستمر للحدود الروسية، وحدود الطموح الإمبراطوري “البوتيني”. يأتي ذلك في ظل توارد أنباء حول اعتزام جمهوريتي إقليم “دونباس”، بالإضافة إلى “أوسيتيا”، إجراء استفتاءات على إمكانية الانضمام بشكل رسمي إلى دولة الاتحاد الروسي.

أفدح الأخطاء: انهيار الاتحاد السوفيتي من وجهة نظرة بوتين

إن كلمات الرئيس الروسي، “فلاديمير بوتين”، التي تعكس وجهات نظره حول كيف يرى سقوط الاتحاد السوفيتي 1991، كثيرة ومتكررة، وينسب له العديد من التصريحات التي أصدرها في مناسبات ومؤتمرات عدة على مدار مشواره في الرئاسة منذ توليه الحكم عام 2000. كان آخرها وأبرزها، هو خطاب “بوتين” التاريخي، قبيل إعلانه التوقيع على مرسوم باستقلال “دونيتسك” “ولوجانسك”، في 21 فبراير من العام الجاري. عندما ألقى باللوم، مباشرة، في انهيار الاتحاد السوفيتي على قيادات روسيا السابقين. حيث قال “أدت أخطاء البلاشفة والحزب الشيوعي في السياسة والاقتصاد إلى ذلك. إن انهيار روسيا التاريخية تحت اسم الاتحاد السوفيتي يتحمله ضميرهم”. 

إذًا، أعلنها “بوتين” صراحة أن القيادات القديمة هي المذنبة فيما لاقته روسيا من مصير. وهذا ما يأخذنا إلى متابعة موقف الرئيس الروسي الأسبق، “ميخائيل جورباتشوف”، آخر رئيس للاتحاد السوفيتي، والرئيس الحالي للمؤسسة العامة الدولية للأبحاث الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والذي يصدف أنه لا يزال على قيد الحياة. ففي وقتٍ ليس بعيد، خرج “جورباتشوف” للحديث ردًا على تصريحات مماثلة بشأن انهيار الاتحاد السوفيتي أصدرها “بوتين”. وكانت تلك تعد هي المرة الأخيرة التي يحدث ويرد بها “جورباتشوف” على “بوتين” بهذا الصدد، فهو لم يظهر هذه الأيام، لم يُعلق بالرد على ما قاله “بوتين” أو حتى التحركات الخارجية الأخيرة لبلاده. 

لكنه صرح في نوفمبر 2019، ردًا على تصريحات سابقة لـ “بوتين” في تلك الفترة، مُرجعًا فيها انهيار الاتحاد السوفيتي لأسباب اقتصادية. ومن جهته، قال “جورباتشوف”، الاتحاد لم يتفكك بفعل أسباب اقتصادية، لكن العلاقات بين الجمهوريات كانت بحاجة إلى الإصلاح. مشيرًا إلى أنهم كانوا بحاجة إلى تطبيق روح الديمقراطية بعد أن طورت الجمهوريات النقابية من مفاهيمها الخاصة لتكوين الدولة، وكان لابد للقيادة السوفيتية من أخذ هذا الأمر في عين الاعتبار. ورأى، “جورباتشوف”، أنه ينبغي على جميع الجمهوريات التي كانت جزءًا من الاتحاد السوفيتي أن تُجري حوارًا من شأنه أن يمنع تراكم الغضب لدى أي من الأطراف. مؤكدًا، “يجب أن نتذكر تاريخنا”.

بعد “القِرم”.. “أوسيتيا” و”دونباس” على الطريق نفسه

صرح رئيس جمهورية “لوهانسك” الشعبية، “ليونيد باشنيك”، 27 مارس، بأنه من المحتمل إجراء استفتاء في المستقبل القريب حول الانضمام للاتحاد الروسي. وقال “ليونيد”، “أعتقد أنه في المستقبل القريب، سيتم إجراء استفتاء على أراضي الجمهورية، حيث سيمارس الشعب حقه الدستوري المطلق، ويُعبر عن رأيه في الانضمام إلى الاتحاد الروسي.” مضيفًا، “ولسببٍ ما، أنا متأكد من أن هذا هو بالضبط ما سيحدث”. 

وفي السياق نفسه، يُشار هنا إلى أن نائب مجلس دوما الدولة عن منطقة “روستوف”، “فيكتور فودولاتسكي”، قد أعلن في 20 فبراير، أن عدد سكان “دونباس” الذين حصلوا على الجنسية الروسية قد تجاوز 770 ألف شخص. بينما وصل عدد سكان الإقليم الذين تقدموا بالفعل بطلب للحصول على الجنسية الروسية هو 950 ألف شخص. في غضون ذلك، علق نائب مجلس الدوما، “ألكسندر بورودي”، خلال مقابلة صحفية له، على تصريحات رئيس “لوهانسك”، لافتًا إلى أن استفتاءً مماثلًا من المحتمل أن يُجرى في جمهورية “دونيتسك”. من ناحية أخرى، رأى سيناتور مجلس الشيوخ الروسي نيابة عن القرِم، “سيرجي تسيكوف”، 31 مارس، إنه لا توجد هناك حاجة إلى إجراء استفتاء على انضمام جمهوريتي “دونيتسك” و”لوهانسك” الشعبيتين، وكذلك أوسيتيا الجنوبية. 

في سياق موازٍ، خرجت إلى الصحافة الروسية، الخميس 31 مارس، تصريحات رئيس أوسيتيا الجنوبية، “أناتولي بيبيلوف”، بشأن ضرورة توحيد الأوسيتيين ودخولهم رسميًا ضمن أراضي الاتحاد الروسي. فقد قال “بيبيلوف”، خلال لقاء تليفزيوني له، إن كيانًا واحدًا بصدد حالة من التوحد والانضمام إلى روسيا. مؤكدًا إن “توحيد الأوسيتيين بات أمرًا ضروريًا”. وشرح أن أوسيتيا الجنوبية والشمالية من المقرر أن يتحدا داخل الاتحاد الروسي. 

ولفت إلى أنه يوجد بالفعل إجراءات داخلية لدمج الرعايا. وقال بيبلوف إن “الأهم من ذلك، أن المشاورات جارية بالفعل مع زملائنا الروس. ويجب أن تستند الإجراءات القانونية إلى القانون الدولي، وهناك أساس لذلك. لأن أوسيتيا الجنوبية دولة مستقلة ويمكنها اتخاذ تلك القرارات التي تعتبرها حيوية لنفسها”. وشدد على أن قرار الانضمام إلى روسيا يقوم على “الرغبة العظيمة للشعب”. في اليوم السابق، قال بيبيلوف إن أوسيتيا الجنوبية ستتخذ قريبًا خطوات قانونية للانضمام إلى روسيا. وقد يتم إجراء استفتاء حول هذه المسألة بعد الانتخابات الرئاسية في الجمهورية المقرر إجراؤها في 10 أبريل.

ونستنج من ذلك أن قرارات مماثلة بشأن استفتاء على انضمام إلى الاتحاد الروسي قد تكون الآن بصدد الخروج للنور في دولة أبخازيا، وهي الجمهورية التي اعترف الاتحاد الروسي باستقلالها في 26 أغسطس 2008، وتتشارك مع أوسيتيا الجنوبية بالتاريخ نفسه. فكلتاهما كانتا بلدين جورجيتين سابقتين، ولا تزال جورجيا حتى اليوم الحالي لا تعترف باستقلالهما وتنظر إليهما كإقليمين تابعين لها.

الحدود الجغرافية الروسية المتنامية في ضوء قصة صعود الأمم وأفولها

يُردد العرب مقولة شهيرة في مواقف مختلفة، “ما طار طيرٌ وارتفع إلا وكما طار وقع“، وهي المقولة التي تحمل مبدأً نستطيع إعماله بالحديث عن أشخاص، أو عن كيانات، أو حتى دول. والتاريخ الإنساني المديد، بكافة أشكاله وصوره ولغاته وقومياته، لطالما عرف صعود امبراطوريات إلى أوج قوتها، ثم انحدارها مرة أخرى. ويشهد على هذا المسار التاريخ، ليس فقط التاريخ السوفيتي فحسب، لكن نستطيع أن نرى أمثلة واضحة على ذلك، في مسارات الإمبراطورية العثمانية، والرومية، والفارسية، والسوفيتية، وأخيرًا وليس آخرًا المستقبل الذي يلوح في الأفق أمام القوة الأمريكية التي قالت عن نفسها، لعهود، إنها تقود العالم. 

وبينما نحن نعاصر اليوم، حربًا، يدرك الجميع أنها ستخلف وراءها تغييرات محورية في شكل النظام العالمي الجديد. نجد أنه من الضروري طرح سؤال، حول ما إذا كان التُمدد الجغرافي المستمر للحدود الروسية يعني بالضرورة أنها ستُعدل من موقفها العالمي، وتتحول من قوة وسطى أو قوة إقليمية رائدة إلى قوة عظمى؟!

قبل الرد على هذا السؤال، نعود بالتذكير إلى الكتاب المهم الذي صدر بتاريخ 1987، الذي كتبه المؤرخ البريطاني المتخصص في تاريخ العلاقات الدولية والقوة الاقتصادية والاستراتيجية الكبرى، “بول مايكل كينيدي”، وأثار نشره ضجة كبيرة في وقتها. في خلال كتابه يستعرض “كينيدي”، مسارات صعود الأمم وهبوطها. 

ويُجادل بأن قوة أي قوى عظمى لا يمكن قياسها بشكل صحيح إلا بالنسبة للقوى الأخرى، ويقدم أطروحة مباشرة تشير إلى أن صعود القوى العظمي –على المدى الطويل أو في صراعات محددة- يرتبط بقوة بالموارد المتاحة والاستمرارية الاقتصادية. ويؤكد أن الإجهاد العسكري المفرط غالبًا ما يصاحبه انحدار نسبي يرتبط بتهديدات أمنية تواجه القوى التي تكون طموحاتها ومتطلباتها الأمنية أكبر مما يمكن أن توفره قدرة مواردها على التحمل. يؤكد “كينيدي” أيضًا، “أن انتصار أي قوة عظمى أو انهيار أخرى، عادة ما يكون نتيجة قتال طويل من قبل قواتها المسلحة”.

وفي ضوء ما سبق، نُدرك أن روسيا وصلت إلى مرحلة “خلع القناع”، بمعنى أنها تعتزم الحصول على مخططاتها بصوت مسموع وواضح في عالم اليوم، وما تم الاعتراف باستقلاله على مدار السنوات الماضية ربما حان الوقت لإعلان انضمامه الرسمي لها. 

ونفهم من السياق الجاري للأحداث، أن الدلالات تشير إلى رغبة روسية في ضم أوكرانيا كذلك، وليس فقط إسقاط النظام أو تحييده كما ذهب محللون سياسيو من قبل.  بناءً عليه؛ نقول إنه من المرجح أن نكون الآن أمام حالة من اثنتين قد يكون لا ثالث لهما؛ أولهما: هزيمة أوكرانيا وإسقاط حكومتها وإعلان اعتزامها المضي قدمًا في الانضمام بدورها إلى الاتحاد الروسي. ثانيهما: هزيمة روسيا واضمحلالها النهائي بعد فقدانها مركزها الدولي الذي سبق خطوة الحرب. 

وبما إن السيناريو الثاني لا يزال مستبعدًا؟ وردًا على السؤال حول كيف يُفضي التمدد الجغرافي الروسي إلى حدود تقترب من حدود الاتحاد السوفيتي في الفترة التي سبقت انهياره، يضمن للرئيس الروسي استعادة مكانته الإمبراطورية القديمة؟! في الحقيقة ليس من الضروري أن يرتبط التوسع الجغرافي دائمًا باستعادة أوضاع امبراطورية سابقة. 

قد تكتسب روسيا – في الوقت الراهن- المزيد من القوى الاقتصادية والسياسية، بالإضافة إلى المزيد من النفوذ العالمي، لكن على المدى البعيد، يصعب تصور احتفاظها بهذا الوضع “كقوة عالمية”. وذلك نظرًا لأن احتمالية مضي موسكو قدمًا في العودة إلى حدودها القديمة سيعني دمارًا شاملًا يعود على العالم أجمع بالخراب من جهة. ومن جهة أخرى، سيظل من الأجدر القول إن الحرب الروسية الحالية، في كل الحالات، ستكشف لا محالة عن نظام عالمي جديد، تتصدر قيادته الصين. حتى لو توسعت الحدود الروسية في الوقت الراهن، وحتى لو تصورنا انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الروسي مرة أخرى، حتى لو تخيلنا في أكثر السيناريوهات جموحًا أن روسيا ستستعيد حدودها السوفيتية السابقة تمامًا. والسبب أو الأسباب لماذا؟!

أولاً: إن التوسعات الروسية الحالية وإجمالي طموحاتها الإمبراطورية مرتبطة بشكل وثيق بشخص الرئيس “بوتين” نفسه، وهو في الوقت الراهن يبلغ من العمر 69 عامًا. ووفقًا لمتوسط الأعمار البشرية، فمن الممكن القول إن وقتًا طويلاً في السلطة لم يعد في انتظاره، وسيتحتم على روسيا في خلال فترة زمنية –طالت أم قصرت- أن تختار لنفسها رئيسًا آخر. لكن ماذا لو كان ذلك الرئيس لا يحمل نفس الطموحات “البوتينية”؟! ويرى أن التمدد الجغرافي لبلاده سيكون محفوفًا بمخاطر ومسؤوليات اقتصادية أكبر؟! وبناءً عليه، لن يمضي قدمًا في تنفيذ بقية خطوات التوسع! 

ثانيًا: خلف كل حدث جاذب للانتباه هناك دائمًا حدث أو أحداث أخرى أكثر أهمية تجري في الخلفية. وكذا الحال، وراء كل طرف منهمك في شيء يستنفد قواه، هناك أيضًا طرف آخر يستغل المشهد لعلمه بأنه سواء فاز هذا الطرف أو خسر معركته، سيكون هو الفائز الأكبر في النهاية. 

بمعنى، انظر إلى وضع الصين والمستقبل الذي ينتظرها. إذا خسرت روسيا، لا يضر الصين هذا الأمر في شيء، فهي تعلم أن القوة الأمريكية –آفلة- بالفعل على كل الأحوال، وسبب أفولها يعود للاقتصاد الذي لا يمكن لأي قوة عظمى أن تستمر من دون قوة اقتصادية مصاحبة لها. وبكين وواشنطن، والكل، يعرف أن الصين هي القوة الاقتصادية الرائدة الآن في العالم، بالمقارنة مع قوة روسيا وقوة الولايات المتحدة على حد سواء. وإذا انتهت الحرب بفوز روسيا، تكون الصين ربحت إسقاط هيمنة النظام العالمي ذي القطب الواحد، ويصبح هناك عالم جديد هي أحد أكبر أقطابه، وعلى مقربة منها توجد روسيا بأسلحتها وعتادها. 

وعلى كل الأحوال، تجدر الإشارة إلى أنه توجد هناك مؤشرات بأن عدم قدرة روسيا على الاحتفاظ بمكانتها كقوة عظمى –في حالة فوزها- تعود إلى تآكلها السكاني الحاد، الذي بات يتخذ شكل أكثر حدة بعد الظروف الاستثنائية بفعل وفيات الوباء من ناحية، ووفيات الحرب التي لم تنتهي من جهة أخرى. 

وهو الأمر الذي تجد الصين لنفسها فيه بالفعل فرصًا سانحة، وتستفيد من وراء ذلك، من خلال تصدير العمالة الصينية المكثفة للعمل في مجال الزراعي على الأراضي الروسية المتاخمة للحدود الصينية في الشرق الأقصى الروسي، وهي المنطقة التي تنظر إليها الصين بالفعل بنظرة استعمارية.

ذلك علاوة على أن “بوتين”، وعلى الرغم من كل البرامج التي تبنتها الحكومة الروسية تحت قيادته على مدار السنوات الأخيرة وتشجع الأسرة على الإنجاب، والقوانين التي تسهل عملية الحصول على الجنسية الروسية، لم تحل حتى الآن أزمة تآكل العرقية الروسية، وفقدان روسيا القادم لا محالة –وفقًا للمعطيات الحالية- للقوة السكانية الكافية للعمل، ونحن في غنى عن ذكر حجم التهديد الذي يواجه الأمة التي لا تملك كوادر بشرية كافية للعمل! 

ختامًا، لو فازت روسيا وضمت إليها أوكرانيا سيعيد هذا الأمر تشكيل النظام العالمي وستصبح هناك الصين بصفتها “القطب الأكبر” الجديد، وروسيا “القطب الآخر” الأصغر التكميلي المُلاحق للصين، وسيكون المستقبل الوحيد الذي ينتظر روسيا –على المدى البعيد- هو الأفول أيضًا وراء التضخم الصيني المرتقب. ولو خسرت روسيا، كما ذكرنا آنفًا، لن تخسر الصين شيئًا، فمن لا يُقامر، لا يخسر موارده.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

داليا يسري

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى