
الغاز الروسي بالروبل الروسي.. حدود المواجهة بين موسكو وأوروبا
مهلة مدتها أسبوع منحها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لبنك بلاده المركزي لإيجاد صيغة لتنفيذ القرار الخاص ببيع الغاز والنفط الروسي للدول التي وصفها بغير الصديقة وعددها “48” بالعملة الوطنية “الروبل الروسي”، وذلك في انعكاس للانتقال من خانة رد الفعل إلى الفعل، ووضع الأوروبيين في “خانة اليك” التي لم يبقوا فيها طويلًا بعد أن قررت مجموعة السبع الإيعاز لشركات القطاع الخاص الأوروبية بعدم الرضوخ للقرار.
من ناحية أخرى، فإن الطريق أمام قرار بوتين غير معبدة؛ وذلك لالتزام أغلب المستهلكين للغاز الروسي بعقود طويلة الأجل لا تنص على أن يكون الروبل الروسي هو عملة الشراء المقررة، وهو الأمر الذي يتطلب عملية مفاوضات جديدة وممتدة لتوقيع عقود جديدة في سوق عالمية للطاقة لا احتمل مزيدًا من التعقيد. فضلًا عن أن الاتجاه الروسي في هذا المجال شديد التفاؤل، لأن الروبل لا يشكل في عالم العملات قوة تذكر أمام الدولار واليورو، الأمر الذي يضفي على القرار قدرًا كبيرًا من عدم الفاعلية بصور يمكن عكسها في النقاط التالية:
- من ناحية مناخية بحتة، فإن قرب حلول موسم الربيع ثم الصيف لا يخلق حالة من الطلب المحلي الأوروبي المتنامي على الغاز الروسي، ولكن على الرغم من ذلك ستظل الدول الأوروبية راغبة في ملء خزاناتها للاستخدامات الأخرى غير التدفئة في الصيف، وفي هذه الحالة فإن العواصم الأوروبية ربما تلجأ إلى موردين أكثر ملاءمة لاحتياجاتها مثل مصر والجزائر.
- القرار الروسي لن يضر بشكل كبير بنظام الدولرة؛ فحسب بيانات عملاق الغاز الروسي “غازبروم” فإنه حتى يناير الماضي شكل الدولار 39% من إجمالي التعاملات في الغاز الروسي مع الأوروبيين، فيما ذهبت النسبة المتبقية إلى اليورو والجنيه الإسترليني. ومن ثم فإن أوروبا هي أكثر الأطراف المتضررة. إلا أن الأمر قد يشكل هزة بالنسبة للولايات المتحدة ونظام الدولرة المتعارف عليه في بيع النفط داخل أوبك إذا ما استقرت الرياض على بيع النفط لبكين باليوان الصيني وضرب نظام ال “بترودولار” المستمر حتى يومنا هذا. وبطبيعة الحال فإن جزءًا كبيرًا من قوة العملة الأمريكية مرتبط بأن النفط يتم بيعه بالدولار الأمريكي- بمعنى آخر فإن القرار الروسي يمكن أن يشكل سابقة يبنى عليها ومقدمة للمزيد من القرارات في هذا الاتجاه.
- ربما يشهد العالم انتكاسة بالنسبة للاتجاه للطاقة المتجددة، خصوصًا بعد أن رفضت مجموعة السبع القرار الروسي، ولوحت موسكو بأن ردها سيتضمن منع توريد الغاز للأوروبيين- وهو ما يمكن أن تستعيض عنه أوروبا بالعودة لاستخدام الفحم الحجري.
- وحتى إذا نجح بوتين في تفعيل قراره واعتماد العملة الروسية في المعاملات التجارية يبقى التساؤل حول المصدر الذي سيحصل منه المستوردون على العملة الروسية هل هو البنك المركزي الروسي؟ وهل سيكون قادرًا على الوفاء بحجم الطلب المفاجئ على الروبل؟ خصوصًا في ظل العقوبات الصارمة المفروضة التي تجعل من وجود وسيط أو طرف ثالث بين روسيا وأوروبا للتحايل على العقوبات فكرة جاذبة.
- لا يمكن إغفال أن الإصرار على التعامل بالروبل الروسي يشكل خرقًا واضحًا للعقود التي وقعتها روسيا مع أوروبا، مما يعرض موسكو للمزيد من العقوبات والغرامات.
- من العوامل الأخرى التي يستدل بها على محدودية تأثير القرار الروسي، أن قرار بوتين يسري على غازبروم فقط بوصفها شركة حكومية، في حين أنه لا يسري مثلًا على شركة ” نوفاتيك” وهي التابعة للقطاع الخاص. ولكن على الجانب الآخر فإن أوروبا لا تمتلك سوى تقديم النصح لشركات القطاع الخاص التي تستورد الغاز الروسي بعدم الرضوخ للقرار.
- وفي ظل سعي الولايات المتحدة إلى سرعة توقيع اتفاق فيينا وما سينتج عن ذلك من رفع العقوبات عن طهران، تكون واشنطن قد أفرجت عن 2 مليون برميل يوميًا من نفط طهران، وهو ما يشكل 40% من طاقة التصدير الروسية النفطية. بجانب أن عالم السياسة لا ضامن له، وقد ينجح البيت الأبيض في انتزاع موافقة من الرياض وأبو ظبي لضخ المزيد من النفط في السوق العالمية – وإن كانت المؤشرات تؤكد أن انتزاع موافقة بهذا الحجم ستحتاج المزيد من الوقت.
- ستواجه روسيا مخاطر ارتفاع معدل التضخم بسبب طباعة الروبل بكميات كبيرة دون وجود غطاء.
ماذا لو نجحت روسيا؟
- سيخلق القرار إذا ما تم تنفيذه حالة من الارتفاع لقيمة العملة الروسية التي استقرت على فقدان 15% من قيمتها أمام الدولار حتى الآن إلا أنه ارتفاع مصطنع نتيجة الطلب المفاجئ.
- إذا انضمت السعودية إلى النهج الروسي بتوظيف اليوان في تعاملاتها فإن ذلك سيخلق حالة من الإرباك لنظام الدولرة العالمي، ويؤثر على قوة السياسة الأمريكية بالإجمال لأن جزءًا كبيرًا من فاعلية القرار الأمريكي في الخارج تستند إلى سيطرة الدولار على التجارة العالمية.
- على جانب آخر، سينجح الكرملين في تفادي جزء مهم من العقوبات الاقتصادية الأمريكية أو بمعنى آخر تفريغها من مضمونها. لأن الهدف الأساسي من تلك العقوبات هو ضرب قيمة العملة الروسية.
- تهدف روسيا من القرار إلى التنويع من مصادر قوتها وأوراق اللعب الخاصة بها أمام الغرب – فإضافة إلى القوة العسكرية عمدت موسكو إلى إشهار الورقة الاقتصادية التي سيكون لها تأثير وإن كان محدودًا، إلى جانب ورقة الغاز بالطبع، وكذلك ما ظهر مؤخرًا من أن ريادة روسيا في مجال تصنيع وتصدير الأسمدة سيترك أثرًا بالغًا على سلاسل الإمدادات العالمية.
- من ناحية أخرى، فإن الاقتصاد الروسي بأمس الحاجة للعملة الأجنبية، والاتجاه لبيع الطاقة الروسية بالروبل سيوفر إمدادات ضخمة من اليورو والتي تحتاجها روسيا لتدفع قيمة وارداتها بالعملة الأجنبية.
- من ناحية أخرى، تمتلك موسكو ورقة ينظر البعض إليها بوصفها رابحة- وتتضمن الحصول على عائدات النفط والغاز الروسي بالعملات الرقمية “البيتكوين”. وحسب رئيس لجنة الطاقة في “الدوما” فإنه من الممكن السماح للدول الصديقة لروسيا بالدفع بعملاتها المحلية أو عملة البيتكوين المشفرة. ولكن القرار سيلاقي مقاومة من بكين التي تحظر استخدام العملات الرقمية المشفرة، وينشأ عنها الكثير من المخاطر لتجارة بحجم الغاز الطبيعي.
عمومًا لن يكون هناك مسار واحد للتعامل مع القرار الروسي؛ فربما تخلق كل دولة طريقتها الخاصة في الامتثال للقرار أو التحايل عليه. وإجمالًا، يمكننا أن نشير إلى بيانات البنك الدولي التي تشير إلى أن صادرات روسيا من الطاقة بلغت في نهاية عام “2021” 165 مليار دولار، وانتصف الميزان لصالح أوروبا، ويعني ذلك أن حصة أوروبا هي 85 مليار دولار. وبما أن قرار اعتماد الروبل الروسي ملزم للدول غير الصديقة فقط، فإنه سوف يطبق على الأوروبيين بشكل أساسي، وانطلاقًا من هذا الطرح فإن القرار الروسي لو تم تنفيذه سيكون من أهم تداعياته كسر هيبة الدولار الأمريكي وهيبة واشنطن بالتبعية والتي تستند في جزء كبير منها على السيطرة التي تفرضها عملتها على النظام المالي العالمي.
باحث أول بالمرصد المصري