مقالات رأي

الحياة والموت في واحة الجغبوب

ترك الشيخ محمد نصيب، الأب الروحي للحركة السنوسية، التي ينتمي إليها آخر ملوك ليبيا، آلاف الكتب والمخطوطات، في مكتبته في واحة الجغبوب، الواقعة في الصحراء، في أقصى الشرق الليبي. لقد توفي العام الماضي عن عمر 84 عامًا. كان رجلًا حالمًا يفتش عن مستقبل آمن في بلد مضطرب. 

التقيتُ به في الجغبوب قبلها بوقت قليل، وأكلت معه، في طبق واحد، من تمر الجغبوب المُحلى. وتحدثنا كثيرًا عن حال ليبيا، وكيف يمكن أن تخرج من الفوضى التي تضربها منذ 2011. كان الرجل ينحو إلى السلام، ولا يحبذ نبش الماضي، فهو كما كان يقول: إذا فتحنا الباب لما حدث في الماضي من أخطاء، فلن ننتهي. وهو لا ينسى ما حدث لمقابر القيادات السنوسية على يد حكم معمر القذافي في ثمانينيات القرن الماضي.

وبعد أن استمع إلى حديث طويل عن الواقع الصعب الذي أصبحت عليه بلاده، أسند ظهره إلى الحائط في غرفة الضيافة، وقال بكل هدوء: نأمل من الله أن يُفرِّج على الليبيين، وأن يأتيهم بكل خير. ثم ألقى بطرف عينه نظرة على صور مؤسسي الحركة السنوسية المعلقة على جدران الغرفة الواسعة. كان في غرفة الضيافة التي تشبه المستطيل الطويل، بابان؛ باب يفضي إلى الشارع لدخول الضيوف وخروجهم، وباب داخلي يؤدي إلى باقي المنزل. 

وعلى يسار الباب الداخلي توجد غرفة تضم كنوزًا تاريخية من كتب ومخطوطات وصور يعود عمر بعضها إلى مئات السنين. لقد اقترن اسم الحركة السنوسية، منذ نشأتها في النصف الأول من القرن التاسع عشر (1837)، بأمرين رئيسين.. الأول هو الدعوة ونشر الدين الإسلامي خاصة في إفريقيا. والثاني، بناء مؤسسات للإدارة. ولا تنسَ أنه في ذلك التاريخ كانت معظم بلاد العرب تتخبط في ظلام الاحتلال العثماني. 

وفي حالة ليبيا، كان العثمانيون يسيطرون على السواحل الليبية، ويشنون حروبًا على سكان الدواخل، أي القبائل الليبية التي ترفض الاحتلال العثماني، واضطرت إلى النزوح من ساحل البحر المتوسط، والتمركز في داخل الصحراء، وشن غارات معاكسة لمقاومة الوجود العثماني، من طرابلس غربًا إلى بنغازي شرقًا. 

لكل هذا، اصطدمت الحركة السنوسية بالدولة العثمانية، ولهذا غيرت مكان أول مقر رئيس أسسته في 1843، في مدينة البيضاء الساحلية، إلى واحة الجغبوب الصحراوية. وتقع الجغبوب على بعد نحو 280 كيلومترًا جنوب شرق بلدة طبرق، قرب الحدود مع مصر. وهي عبارة عن واحة خلابة في الصحراء، فيها عيون مياه صالحة للشرب، وعدة بحيرات كبريتية، وتعتمد على زراعة النخيل. 

وظلت العلاقة تتسم بالريبة والشكوك بين مؤسس الحركة السنوسية وأبنائه، من جانب، والدولة العثمانية من جانب آخر. كان حكام العثمانيين في الآستانة يدركون أن قائد الحركة، محمد بن علي السنوسي (1787-1859)، يمكن أن يكون منافسًا لهم في حكم ليبيا. 

في خضم حركات إسلامية عدة

في ذلك الزمن يمكن القول إنه كانت هناك حركات تؤثر في العالم الإسلامي، ويحاول أن يعتمد على كل منها حكام كثير من الدول، حينذاك، في محاولة منهم على ما يبدو للتغلب على تأثير الأزهر (تم تأسيس الجامع الأزهر عام 970، وتم التوسع في اختصاصاته التعليمية بداية من 1749).

ومن بين تلك الحركات المنافسة، الحركة الوهابية، بقيادة محمد بن عبد الوهاب (1703 – 1791) في الحجاز، والحركة الأفغانية بقيادة جمال الدين الأفغاني (1838 – 1897)، في الآستانة (إسطنبول حاليًا)، ثم الحركة السنوسية التي حاولت التأسيس لمنهج دعوي إداري، انطلاقًا من ليبيا، وتكون فيه هي بنفسها من يتولى الحكم!

وجدت كل تلك الحركات الإسلامية، بأفكارها وعلاقاتها المتشعبة، بما فيها الحركة السنوسية، أرضًا خصبة للعمل، والانتشار، والصدام أيضًا. باختصار وجدت نفسها في خضم وضع عالمي جديد.. نهم أوربي للقضاء على الإمبراطورية العثمانية، وتنافس أوروبي للتمدد في أفريقيا وآسيا. 

وفيما يتعلق بالحركة السنوسية، فوجئ العالم، مع مطلع القرن العشرين، بتأسيسها للعديد من الزوايا الدعوية الإدارية، في داخل ليبيا وخارجها، خاصة في تشاد.. ولك أن تتخيل موقف الإمبراطورية العثمانية من هذه الحركة التي تعمل تحت عباءتها.. فهي، الإمبراطورية العثمانية، تريد من الحركة السنوسية أن تؤازرها ضد الأوروبيين، وفي الوقت نفسه تريد منها أن تكون خاضعة لها، بينما كان للحركة منهجها الخاص.          

كانت توجد صور كبيرة معلقة على جدار غرفة الضيافة في بيت الشيخ محمد نصيب، منها صورة لمحمد المهدي (1844- 1902)، ابن محمد بن علي السنوسي، وصورة لابنه الآخر، محمد الشريف (1846-1805) وصورة لأحمد الشريف (1873-1933)، أحد أحفاد محمد بن علي السنوسي. أي أنه كان ابن محمد الشريف! 

لاحظ هنا أمرين.. الأول أن الحركة السنوسية لا تحرِّم الصور، كما تفعل بعض الحركات الإسلامية المتشددة الأخرى، والثاني أن بعض أسماء أبناء مؤسس الحركة السنوسية وأحفاده، أسماء مركبة.. أي أن اسم الشخص الواحد يتكون من اسمين، مثل والد أحمد الشريف، وعمه، محمد المهدي.

في ذلك الوقت قاد أحمد الشريف الحركة السنوسية، وظهر إلى جانبه قادة كبار، منهم عمر المختار (1858- 1931). وبدأ أول صدام للحركة السنوسية، يشارك فيه المختار، ضد الاحتلال الفرنسي لتشاد في عام 1900. وسريعًا وجد أحمد الشريف نفسه وسط رياح عاتية لمغيرات دولية، منها بدء الحرب العالمية الأولى في 1914.  الطريف أن أحمد الشريف كان يعتقد أن الدولة العثمانية ستقف مع حركته ضد الغزو الأوروبي لأفريقيا، لكنها تخلت عنه، بل باعت ليبيا، لإيطاليا، في صفقة معاهدة أوشي عام 1912. 

توجد في مكتبة الشيخ محمد نصيب الكثير من التفاصيل المصورة حول بداية الصراع بين الحركة السنوسية، والاستعمار الإيطالي، تفوق ما يمكن أن تتذكره من أحداث فيلم عمر المختار، الذي أدى دوره الممثل العالمي أنتوني كوين. لقد تلقى المختار تعليمه هنا في الجغبوب، منذ كان صبيًا، ولمدة ثماني سنوات.

العقول الجديدة قد لا تستوعب الأفكار الحالمة التي تركها قادة الحركة السنوسية في الجغبوب. لهذا عليك أن تتذكر أن الاطلاع على الكتب التي ألفها أبناء السنوسي الكبير وأحفاده، يحتاج إلى فهم أن كل تلك الأفكار كانت تدور في زمن مختلف وظروف مغايرة. 

يكفي أن عملية نسج تلك الأفكار، سواء الدينية أو الإدارية، كانت تجري في رؤوس رجال يتنقلون فوق ظهور الإبل، ويغلقون أبواب الواحة على أنفسهم ليلًا خوفًا من الغزاة واللصوص. وحتى سنوات قريبة، كان من يريد أن يدخن سيجارة في الجغبوب عليه أن يبتعد عنها مسافة لا تقل عن عشرة كيلومترات!

ورغم انتشار الاتصالات الهاتفية والإنترنت، وتغير الكثير من المفاهيم، إلا أنه، وحتى يومنا هذا، يمكن أن تلاحظ استمرار بعض العادات والتقاليد التي كانت موجودة منذ عهد السنوسيين، في الزمن الغابر، في واحة الجغبوب. منها على سبيل المثال وقت حركة النساء في الواحة، وهو وقت ما بعد صلاة العشاء! 

كما قلنا سابقًا، كانت الحركة السنوسية تسير على خطين؛ الدعوي والإداري. لهذا كان على الرجال الاستيقاظ طوال النهار، وبدء العمل في الفلاحة والرعي، بعد أداء صلاة الفجر جماعة. وفي المساء، أي من صلاة المغرب، يلتحق الرجال مرة أخرى بالجماعة، ويشرعون في ترديد الأناشيد الدينية معًا، ويعودون إلى بيوتهم بعد صلاة العشاء، ولا يخرجون منها إلا مع صلاة فجر اليوم التالي، وبالتالي تخلوا منهم الشوارع والأزقة، وهنا تبدأ حركة النساء في التزاور والتنقل بين البيوت. إذن إذا ذهبت إلى الجغبوب هذه الأيام، فلا تتعجب إذا رأيت أن معظم نسوة الواحة يجبن الطرقات في الليل فقط.

معلوم أن آخر حكام ليبيا، وهو الملك محمد إدريس السنوسي (1890 – 1983)، هو أحد أحفاد مؤسس الحركة السنوسية، وأطاح معمر القذافي بحكمه في 1969. وعليه تعرض الشيخ محمد نصيب للسجن في عهد القذافي خمس مرات. إلا أنه، خلال تذكر تلك الفترة، لم يكن يحمل أي أحقاد.. كان يمكن استشعار ذلك من ألفاظه ومن نبرة صوته أيضًا.

مسح بيده على وجهه ولحيته، وقال في لهجة مسالمة، كأنه لا يتحدث عن مآسيه: كان القذافي يخشى من استمرار وجود الحركة السنوسية، ولهذا كان يرسل رجاله لأخذي من الجغبوب والزج بي في السجن، بعيدًا، في العاصمة.

وخلال ذلك تناول الشيخ محمد نصيب كتابًا فيه صور وخرائط، وواصل سرد ما حدث هنا في ذلك العهد، وهو يشير بإصبعه، دون ضغينة، إلى معالم الآثار التاريخية للحركة السنوسية التي هدمتها قوات القذافي في الجغبوب، عام 1984. وكان من بين هذه الآثار الزاوية الرئيسية للحركة التي يعود تأسيسها في الجغبوب إلى عام 1851، وضريح مؤسساها محمد بن علي السنوسي. يقول الشيخ نصيب: حين هدم القذافي الزاوية، أخذ رجاله جثمان مؤسس الحركة، ومنذ ذلك الوقت لا نعرف المكان الجديد الذي دفنوه فيه. لم يخبرونا أبدا. 

ورغم مرور أكثر من 36 عاما على الواقعة، ما زال الشيخ نصيب يتذكر بعض التفاصيل، قائلًا: جاءت قوات حكومية ضخمة إلى الجغبوب. زعموا في البداية أنهم قادمون لإقامة مزارع جديدة في الواحة. لكن السيارات كانت محملة بالمتفجرات. هدموا مركز الحركة، ودمروه بالديناميت، وأخذوا جثمان محمد بن علي السنوسي.

إن الجلوس مع الشيخ نصيب، والاستماع إلى روايته لأحداث صعبة مر بها هو شخصيًا، يجعلك تعيد التفكير في مفاهيم التشفي والانتقام والغل. كل هذه المفاهيم لم تكن موجودة على لسانه، ولا في نظرة عينيه، ولا في حركة إصبعه وهو يشير به إلى المعالم المهدمة لدور السنوسية في الجغبوب. 

يقول في لهجة مسالمة محايدة: قبل إجراءات الهدم جرى احتجازي في السجن في العاصمة طرابلس. ويضيف: بعد أن انتهوا من عملية الهدم، أخرجوني من السجن، ورجعت إلى الجغبوب. نظرت إلى الأنقاض، وشعرت بالألم. لقد دمروا أشياء لا تقدر بثمن، منها حلقات الدراسة، والمكتبة، بما كان فيها من كتب نادرة، إضافة إلى مشغولات خشبية بديعة كانت واردة من ماليزيا.

يعتقد الشيخ نصيب أن الواحة مباركة. وفي ذلك اليوم، وبعد أن قدم طبقًا آخر من التمر المُحَلي، قال كأنه يشعر بدنو الأجل: من يحيا في الجغبوب يحيا سعيدًا، ومن يمت فيها يمت شهيدًا.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى