
الحل يبدأ من الداخل: توريد المزارعين للقمح المصري لتأمين مخزون الدولة الاستراتيجي
إنها الحرب الروسية الأوكرانية التي تضع العالم الآن في مأزق، ومصر ليست بمنأى عن العالم، ولا عن التداعيات الاقتصادية التي زلزلت كل بلد تعمل بجد من أجل حماية الأمن الغذائي لشعبها. ومسألة الأمن الغذائي في مصر هي مسألة أمن قومي، والقمح أصبح كنفط جديد، ستدور حوله حروب، لذا كان لا بد من إيجاد حلول سريعة، وقابلة للتنفيذ بآليات صحيحة، من أجل طمأنة المواطن، والتأكيد على أن الأيام القادمة قد أعدت لها مسبقًا إدارة قوية تعمل على تأمين مخزون استراتيجي قوي.
مخزون الدولة الاستراتيجي
استوردت الحكومة المصرية 5.5 مليون طن قمح، وجمعت نحو 3.5 مليون طن محليًا من الفلاحين العام الماضي، ومن المعروف أنها تستورد معظم احتياجاتها من القمح من السوقين الروسية والأوكرانية، وبلغ حجم المستورد سواء كان من الحكومة أو القطاع الخاص من روسيا 4.2 مليون طن بقيمة 1.2 مليار دولار، ومن أوكرانيا 651.4 ألف طن بقيمة 649.4 مليون دولار خلال أول 11 شهرًا من العام الماضي، بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. وفي عام 2020، استهلكت مصر نحو 20 مليون طن قمح، واستوردت 12 مليون طن، لتتصدر قائمة الدول العربية التي تستورد القمح الأوكراني والروسي في نفس العام.
وفي أعقاب الأزمة الروسية الأوكرانية، فكرت مصر في بدائل أخرى لتأمين احتياجاتها من القمح، ووضعت خطة لاستيراد القمح من مناطق أخرى بدلًا من الدولتين المتصارعتين، وشملت 14 دولة أخرى معتمدة لتوريد القمح، بعضها خارج القارة الأوروبية، وهي: الأرجنتين وأستراليا وبلغاريا وفرنسا وألمانيا والمجر وكازاخستان ولاتفيا وباراجواي وبولندا ورومانيا وصربيا، فضلًا عن القمح المحلي الذي أوشك حصاده الأيام القليلة المقبلة.
وفى ذات السياق قدرت الحكومة المصرية المخزون الاستراتيجي من القمح عام 2022 بأنه يكفي لمدة تسعة أشهر، وهو مخزون موجود حاليًا في الصوامع والمطاحن، إضافة إلى المنتظر توريده من الفلاحين في الموسم الزراعي هذا العام. فضلًا عن أن الصوامع في مصر لديها القدرة الاستثنائية على تخزين واستقبال المزيد من القمح المحلي، والذي يتوقع أن يصل إلى 6 ملايين طن، سواء في الصوامع الحديثة التي تبلغ سعتها 3.8 مليون طن، والشون القديمة المتطورة أو تأجير شون خاصة من بعض الأفراد، بجانب أن موسم توريد القمح المحلي القادم سيشهد دخول 20 صومعة قطاع خاص بجانب الصوامع الحكومية في عملية توريد القمح المحلي، وتم بالفعل تجهيز نحو 420 نقطة تجميع وتخزين.
وبالطبع، لن نغفل عن ارتفاع فاتورة استيراد القمح بعد ارتفاع الأسعار والزيادات، فوفقًا لما صرح به وزير المالية المصري، فإن الارتفاع الأخير في أسعار القمح العالمية سيكلف الدولة نحو 12 مليار جنيه إضافية خلال العام المالي الحالي، مؤكدًا ان هذا الرقم سيرتفع إلى 47 مليار جنيه مع إضافة الزيادات الجديدة في أسعار توريد القمح محليًا.
مشكلة التوريد المحلي في الماضي
تتفاقم أزمة الاكتفاء الذاتي نتيجة عدة عوامل، ولعل أبرزها هو الزيادة السكانية التي تجاوزت 103 مليون نسمة مقارنةً بحجم مساحات الأراضي المزروعة من المحصول، والتي قدّرتها وزارة الزراعة بنحو 3.5 مليون فدان خلال الموسم الحالي، بزيادة 400 ألف فدان عن العام الماضي. وتنتج مصر ما يصل لـ 10 ملايين طن قمح سنويًا، يورد الفلاحون ثلث هذه الكمية فقط للحكومة لتستخدمها في إنتاج رغيف الخبز المدعم، والباقي يذهب للقطاع الخاص، وفق بيانات الفاو.
وبالنظر إلى السنوات الماضية، وجد أن الدولة تقوم بسد احتياجاتها عن طريق تفضيل الاعتماد على الشراء من الأسواق العالمية، وكانت غير ملمة بمشكلات المزارعين أو تقديم الدعم المطلوب لهم، وهو ما دفعهم إلى زراعة محاصيل أخرى تحقق لهم ربحًا أكبر، ومن أبرز المشكلات التي كانت تواجه المزارعين خلال السنوات الماضية:
- ارتفاع أسعار بذور القمح وتكاليف المواد الزراعية، وهذه مشكلة بارزة من ضمن المشكلات التي يواجهها المزارعون في ظل اقتصار دور الجمعيات الزراعية على توفير “شيكارة” فقط من المواد الكيماوية بسعر أقل من الشركات الزراعية الخاصة.
- عملية استلام القمح وتوريد المحصول كانت تتم من خلال صوامع مجهزة أنشأتها الدولة، ولكنها تبعد مسافات تتطلب الشحن في سيارات كبيرة عالية التكلفة لا يستطيع الفلاحون تحملها، ولا توفر لهم وزارة الزراعة وسائل نقل بديلة.
- حصول المزارعين على بذور محدودة النقاء من الجمعية الزراعية، ما يؤثر على درجة نقاء المحصول، بينما ترتفع أسعار البذور النقيّة لدى الشركات الزراعية الخاصة.
- إذا توفرت بذور نقية لدى وزارة الزراعة، فإنها تكون بكميات تكفي لمليون فدان فقط، وتزرع باقي المساحات بـ “تقاوي” من محصول الموسم السابق، وهو ما يكون أقل في الإنتاجية، ويسبب هدرًا كميات كبيرة من القمح.
- قد يصل فاقد المحصول إلى 3-% أثناء عملية النقل والحصاد، وذلك بسبب الاستهلاك كعلف للحيوانات، أو مشاكل تتعلق بالتخزين والتعرض للحشرات.
- عدم الالتزام بمواعيد الزراعة إما عن طريق التبكير أو التأخير.
- امتناع الحكومة عن إعلان أسعار توريد القمح المحلي من المزارعين قبل بداية الموسم الزراعي، وتحديده بعد قيام المزارعين بحصاد المحصول.
خطة إنقاذ رغيف الخبز
يتزايد حجم الفجوة القمحية في مصر بين الإنتاج والاستهلاك، وما زال القمح المصري يمضي في رحلة بحثه عن استعادة عرشه المفقود، فزراعة السنابل الذهبية قد بدأت شهر نوفمبر الماضي، وها هي سيتم حصادها أبريل القادم، معلنة عن قدومها في الوقت المناسب لحل تداعيات الأزمة العالمية على الأسواق المصرية.
ولحل الأزمة التي خلفتها الحرب الروسية الأوكرانية، والتي أثرت بشكل كبير على الاستيراد من الخارج، تستهدف الحكومة المصرية في خطة موضوعة بإحكام أن يتم توريد أكبر كمية من القمح المحلي من المزارعين خلال موسم 2022، وذلك بإلزام المزارعين بتوريد ما لا يقل على 12 إردبًا عن كل فدان قمح، وتبلغ إنتاجية الفدان حاليًا نحو من 18 إلى 20 إردبًا في المتوسط، وفق بيانات وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي, وفي المقابل، أكدت الحكومة أنها ستقف بجانب الفلاح الملتزم، الذي سيقف بجانب بلده وسط الأزمة التي تمر بها من تداعيات الحرب عليها.
وللمزيد من التشجيع على توريد القمح المحلي للدولة، وافقت لجنة القمح المشكلة من قبل وزارات التموين والزراعة والمالية أن تمنح المزارعين حافزًا بقيمة (65 جنيهًا) على نقل وتوريد المحصول يضاف إلى أسعار التوريد لتصبح 865 جنيهًا للإردب زنة 150 كجم، بدرجة نظافة 22.5 قيراط، و875 جنيهًا للإردب زنة 150 كجم، بدرجة نظافة 23 قيراطًا، و885 جنيهًا للإردب زنة 150 كجم، بدرجة نظافة 23.5 قيراط.
ووفقًا للقرار، “فإن توريد تلك الحصة سيصبح إلزاميًا على جميع مزارعي القمح، وليس فقط لمن يريد الحصول على حافز توريد. وسيتم منع المزارعين من بيع الجزء المتبقي من محاصيلهم لمشترين آخرين، أو نقل الحبوب من دون ترخيص من الوزارة”.
وكانت هذه القرارات بمثابة نظرة ثاقبة من الحكومة للمزارعين، خاصة أنهم طالبوا مرارًا بزيادة أسعار إردب القمح بعد زيادة سعره عالميًا، وحتى لا يستغل التجار الوضع ويقومون بالاستحواذ على الأقماح من الفلاحين بدلًا من توريدها إلى الحكومة.
وقد نرى تشجعًا من المزارعين بعد هذه القرارات ليقوموا بزيادة مساحة الأراضي المزروعة، وسط توقعات بأنه بعد قرارات تشديد الرقابة على بيع القمح، ستكون هناك زيادة نحو 4 مليون فدان على الأكثر العام المقبل.
جهود وزارة التموين لتأمين المخزون الاستراتيجي لمصر
تلخيصًا لما سبق، عملت الحكومة المصرية على قدم وساق من أجل الترتيب والتصدي لتداعيات الأزمة على المخزون الاستراتيجي المصري، ولهذا أصدر الدكتور على المصيلحى وزير التموين والتجارة الداخلية، قرارًا يلزم كل مزارع أن يورد إلى جهات التسويق الحكومية، 12 إردبًا عن كل فدان كحد أدنى، حسب الحيازة الزراعية، وبدرجة نقاوة لا تقل عن %22.5 قيراط. وشدد القرار على أنه في حال بيع كميات من المحصول قبل صدور هذا القرار، فإن على المشترى تسليم ما اشتراه إلى جهات التسويق بنفس الشروط، إضافة إلى أنه تم حظر بيع ما تبقى من قمح هذا الموسم لغير جهات التسويق إلا بتصريح من وزارة التموين.
اتخذت الحكومة عددًا من الإجراءات التي كان من شأنها زيادة تحفيز المزارعين لاستلام كمية أكبر من حصاد ما زرعوه، وتوقع الخبراء ورؤساء نقابات واتحادات الفلاحين أن تكون هذه الإجراءات بمثابة أمر تحفيزي وتنظيمي تعمل على زيادة توريد القمح إلى الصوامع الحكومية، بما يتراوح من 5.5 إلى 6 ملايين طن خلال الموسم الجديد، فكان أبرز هذه الإجراءات:
- الإعلان عن سعر توريد القمح مبكرًا لأول مرة، بسعر 320 جنيهًا بزيادة تقريبًا 100 جنيه مقارنة بالعام الماضي، فضلًا عن وضع حافز إضافي للمزارعين.
- تبكير موسم حصاد القمح المحلي، لتكون البداية من أول أبريل، وينتهي بنهاية شهر أغسطس 2022، وذلك بسبب تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا.
- توفير الأسمدة المدعمة لكل من يلتزم بتوريد الحصة المطلوبة من القمح خلال العام الحالي.
- الموافقة على صرف حافز استثنائي للتوريد والنقل، بقيمة 65 جنيهًا، يضاف إلى أسعار التوريد المحددة مسبقًا.
- زيادة عدد نقاط تجميع القمح قريبة من الأراضي الزراعية بمختلف المحافظات للتسهيل على الفلاحين، بالإضافة إلى خفض تكلفة النقل والتوريد.
- شددت الحكومة على جهات التسويق أن تقوم بسداد ثمن المحصول فور الاستلام، بحد أقصى 48 ساعة.
- يصرف لمن يقوم بتسليم 90% على الأقل من إجمالي محصول القمح لديه عن موسم حصاد 2022 من أصحاب الحيازات الكبيرة أكثر من 25 فدان الأسمدة المدعمة لموسم الزراعة الصيفي، ويكون الصرف في حدود المساحة المنزرعة قمحا من حيازته.
- عرض الحكومة الدقيق على مطاحن القطاع الخاص بسعر 8600 جنيه، أي ما يعادل 471.23 دولارًا، ضمن خطة تعاون شامل مع القطاع الخاص لضمان وصول السلع الأساسية للمواطنين.
باحثة بالمرصد المصري