أوروبا

بريطانيا والحرب الأوكرانية.. رسائل لندن إلى أوروبا بعد بريكست

أظهرت الحكومة البريطانية تشددًا في ملف الحرب الأوكرانية منذ يومها الأول، بل وكانت بيانات وزارة الدفاع البريطانية وتصريحات وزيرة الخارجية إضافة إلى مواقف رئيس الوزراء البريطاني أقوى بكثير من الأداء المماثل الصادر عن مؤسسات الولايات المتحدة الأمريكية.

دخلت بريطانيا وسياستها الخارجية حالة من الشلل عقب تصويت الشعب البريطاني للخروج من الاتحاد الأوروبي صيف 2016، وكان يمكن لبريطانيا أن تتجنب هذا الشلل إذا ما تم تكليف بوريس جونسون بتشكيل الوزارة البريطانية، ولكن الصراع الداخلي في حزب المحافظين ومجلس العموم وحتى حزب العمال المعارض قد قسم بريطانيا إلى فريقين، الأول مؤيد للبريكست، والثاني يحاول عرقلة الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي بالتسويف على أمل الذهاب إلى استفتاء ثانٍ، أو قيام الاتحاد الأوروبي بأي عرقلة لهذا القرار بأي شكل.

استمرت ثنائية تريزا ماي رئيسة للوزراء وجيرمي كوربين رئيسًا للمعارضة وحزب العمال حتى كادت أن تدمر الدور الخارجي لبريطانيا، ولكن بحلول عام 2019 تولي قائد بريكست والتيار القومي داخل حزب المحافظين الصحفي بوريس جونسون رئاسة الحزب والوزارة.

بريطانيا العظمى ما بعد بريكست

ما ميز جونسون عن سلفيه، كاميرون وماي، أنه يؤمن بأسباب البريكست ويدرك حتميته بالنسبة لبريطانيا؛ إذ إن ألمانيا قد هيمنت على الاتحاد الأوروبي سياسيًا واقتصاديًا، وبريطانيا بحاجة إلى الاستقلال عن “الرايخ الأوروبي”. بجانب أن الخروج من الاتحاد الأوروبي سوف يؤدى إلى هيكلة بريطانيا من أجل إعادة تأهيلها للعب دور “بريطانيا العظمى” مستغلة اضمحلال الولايات المتحدة المرتقب.

نفذ جونسون خروجًا ناجحًا لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بدعم مباشر من الملكة إليزابيث الثانية، في إشارة واضحة إلى تفهم الأسرة الملكية لفكرة الخروج من الاتحاد الأوروبي. وذهب جونسون إلى ثاني انتخابات مبكرة على التوالي، ولكنه نجح فيما فشلت فيه ماي وشكّل أغلبية مستقرة وحكومة بريطانية مستقرة.

وهكذا، ما إن أتت ازمة الحرب الأوكرانية حتى حانت اللحظة التي سعى اليها تيار بريكست في بريطانيا، ألا وهو إثبات أن بريطانيا هي زعيمة القارة الأوروبية دون الحاجة إلى الانتماء إلى الاتحاد القاري. وأن بريطانيا تحررت من الترويكا الأوروبية، الثلاثي الفرنسي والألماني والبريطاني الذي يجب أن ينسق بشكل دائم، وأيضًا تخلصت من إملاءات ألمانيا عبر مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وأخيرًا تخلصت من شبح إلغاء الجنيه الإسترليني والذهاب إلى عملة اليورو أو حسابات الاتحاد الأوروبي في ملفات الطاقة وعلى رأسها النفط والغاز.

ظهرت بريطانيا بشكل أكثر حيوية عن الولايات المتحدة الأمريكية التي تضطر إلى إصدار تصحيح شامل لكل خطاب ينطق به الرئيس الأمريكي المسن جو بايدن، أو هفوات نائبته معدومة الخبرات السياسية كامالا هاريس، بينما بوريس جونسون إلى جانب خبراته الحياتية كصحفي وكاتب وإعلامي، قد شغل منصب عمدة لندن، ثم وزيرًا للخارجية وعضوًا بالبرلمان.

وهكذا صال وجال بوريس جونسون في زمن شيخوخة نخبة واشنطن، وأثبت لجيرانه الأوروبيين أن السياسة الأوروبية لا يمكنها الاستغناء عن الدبلوماسية البريطانية والدور البريطاني. وأخرج الجيش البريطاني نشرة يومية عن تحركات نظيره الروسي في أوكرانيا، لتعود الأضواء إلى هيئة الأركان البريطانية بعد سنوات من المكوث في دور الوصيف للإمبراطورية الأمريكية.

وسارع بوريس جونسون إلى إنهاء ملف ثلاثة من السجناء مزدوجي الجنسية في إيران، حيث يحملون الجنسية البريطانية، وهم نازانين زاجاري – راتكليف وأنوشة عاشوري إضافة إلى مراد طهباز، وكانت السلطات الإيرانية قد طلبت بشكل غير مباشر أن يتم حسم النزاع الدائر بين لندن وطهران بسبب دين قديم يبلغ 400 مليون جنيه إسترليني (467 مليون يورو) رفضت لندن تسديده منذ الإطاحة بشاه إيران عام 1979، حيث أفرجت لندن عن المبلغ مقابل الإفراج عن الثلاثة، وقد تقرر أن يعود الاسم الأول والثاني إلى بريطانيا عبر وساطة من سلطنة عمان، بينما قرر الاسم الثالث أن يكمل حياته في طهران.

التحرك البريطاني في الملف الإيراني خلال تلك الفترة كان الغرض منه تحسين العلاقات بين لندن وطهران عشية حسم ملف المفاوضات النووية بين إيران والغرب في العاصمة النمساوية فيينا، وإثبات علمي بأن لبريطانيا أوراق لعب أكبر بكثير من نظرائها الأوروبيين فيما يتعلق بالملفات الإيرانية.

عودة بريطانيا إلى لعب دور الدولة العظمى بعيدًا عن الاتحاد الأوروبي المكبل لبريطانيا بالإملاءات والهيمنة الألمانية، ولعب بريطانيا دور الند لأمريكا داخل البيت/التحالف الأنجلوساكسوني التاريخي، تداخل أيضًا مع الصراع التاريخي بين روسيا وبريطانيا.

الصراع التاريخي بين بريطانيا وروسيا

كانت بريطانيا في بادئ نشأة روسيا القيصرية تفضل أن تنهض تلك الأمة من الركام، من أجل منافسة الدولة العثمانية الصاعدة في الأناضول وقتذاك. وهكذا سنت بريطانيا لعبة فرق تسد بين القياصرة والعثمانيين، فتارة بريطانيا تدعم القياصرة ضد العثمانيين والعكس صحيح، ورأت بريطانيا في الكنيسة الروسية الأرثوذكسية منافسًا قويًا للكنيسة الكاثوليكية الفرنسية حيال محاولات فرنسا الهيمنة الكاثوليكية السياسية على الكنائس المسيحية في مصر والعراق والأناضول وسوريا ولبنان وفلسطين.

ثم قررت بريطانيا عقب التخلص من شبح قيام الإمبراطورية المصرية في زمن محمد على باشا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، أن الوقت قد حان للتخلص من روسيا القيصرية، وحسمت ترددها حيال موسكو بالانحياز التام إلى الرؤى الأوروبية بحتمية إسقاط وتفكيك روسيا القيصرية.

وكانت أفغانستان هي ملعب الصراع الروسي البريطاني في القرن التاسع عشر، على ضوء احتلال بريطانيا للهند الكبرى المتاخمة لآسيا الوسطى الروسية وقتذاك، حيث اندلعت الحرب الأفغانية البريطانية الأولى (1839 – 1842) والثانية (1878 – 1880) ثم الثالثة (1919)، إضافة إلى حرب القرم (1853 – 1856).

ثم تحولت أحداث القرن العشرين إلى حرب مفتوحة بين الفريقين، خاصة في سنوات الحرب الباردة التي تلاسن فيها الجانبان بأكثر مما فعلت روسيا السوفيتية مع الأمريكيين، حتى أن بعض وثائق الحرب الباردة أشارت إلى أن الاتحاد السوفيتي خطط لضرب لندن بالقنابل النووية في ستينات القرن العشرين لتأديبها، قبل أن يقرر قادة الكرملين عدم إشعال الحرب العالمية الثالثة/الحرب النووية الأولى.

وحتى اليوم تمتلك بريطانيا اتصالات قوية مع أقليات في آسيا الوسطى وأفغانستان والهند وباكستان وإيران يمكن أن تشكل خطرًا على الأمن القومي الروسي والمجال الحيوي الروسي إذا ما دخلت موسكو حالة من الاضمحلال الوطني كما جرى في مرحلة أفول الإمبراطورية الروسية القيصرية أو السوفيتية.

طموحات شخصية لجونسون ورجالات وزارته

ذلك بالإضافة إلى أن جونسون يحقق أجندته حول بريكست كاملة، فلم يكتف بأنه الذي أتم الخروج البريطاني، أو تجاوز التهديدات الاقتصادية التي واجهتها بريطانيا عشية إتمام قرار الخروج، فضلًا عن أن بريطانيا في عهده نجت من محاولة أوروبية لتحويل الخروج البريطاني إلى أمثولة أمام شعوب أوروبا حتى لا تفكر أي منها في الاقتداء بالشعب البريطاني والذهاب إلى تصويت مماثل، وأخيرًا سنّ سياسة خارجية أكثر كفاءة وحيوية مما جرى في سنوات جوردون براون وديفيد كاميرون وتريزا ماى.

ولكن هناك هدف آخر لجونسون جراء هذا التصعيد، يتمثل في صرف الأنظار عن فضيحة عقد حفلات سكر شهدت إفراطًا في احتساء الكحوليات –نصًا بحسب التحقيقات الأولية– في مقر مجلس الوزراء البريطاني إبان المراحل الصعبة لانتشار وباء كورونا، حينما كانت القرارات الحكومية متشددة في فكرة منع تلك الحفلات العامة والمنزلية، بينما مقر رئيس الوزراء قد شهد أكثر من حفلة دون تنفيذ الإجراءات الوقائية، أو الاحتراس من تكثيف الاختلاط واحتساء الخمور بما كانت تتفق عليه الإجراءات البريطانية في هذا التوقيت.

جونسون واجه دعوات للاستقالة، سواء عبر الصحافة البريطانية أو أعضاء من البرلمان البريطاني، بل وحتى داخل حزب المحافظين الذي يترأسه، وذهب البعض إلى طرح فكرة الانتخابات البرلمانية المبكرة الثالثة على التوالي وعدم انتظار موعد الانتخابات في مايو 2025، حيث تأمل بعض الدوائر الأوروبية في تولي زعيم حزب العمال كير ستارمر مهمة تشكيل الوزارة البريطانية وكسر هيمنة المحافظين على المنصب منذ عام 2010.

واستطاع جونسون بأدائه النشيط في الأزمة الأوكرانية، سواء الجولات المكوكية قبل الحرب، أو بعد الحرب خصوصًا إلى الامارات والسعودية، أن يغطى على تلك الدعوات التي لم يعد لها أي صدى داخل الصحافة أو البرلمان أو الأحزاب في بريطانيا.

ولكن نظرًا إلى أن تلك القضية يمكن أن تنفجر في أي وقت، وإلى حقيقة أن المؤتمر السنوي للحزب عام 2022 سوف يشهد تحركات لعقد انتخابات على مقعد رئيس الحزب وبالتالي يمكن إقصاء جونسون إذا ما جرى اتفاق بين شبكات المصالح التي تدير الحزب، فإن عددًا من ساسة الحزب قد سارعوا في الفترة الأخيرة إلى تقديم أفضل ما لديهم على أمل المنافسة في بورصة خلافة بوريس جونسون إذا ما جرى اتفاق على إزاحته من داخل الحزب.

ورغم أن المنافسة كانت محسومة في بادئ الأمر لوزير الخزانة ريشي سوناك، إلا أن عودة ساجد جاويد وزيرًا للصحة في يونيو 2021 قد أعادته إلى قائمة المرشحين لتشكيل الوزارة البريطانية بعد أن كان جونسون قد أزاحه من منصبي وزير الداخلية ووزير الخزانة. فيما خسر دومنيك راب نائب رئيس الوزراء ووزير العدل فكرة أن يكون المرشح الوحيد لخلافة جونسون على ضوء تردد اسمه في القضية ذاتها. وللمفارقة، فإن وزير التعليم ناظم الزهاوي الذي تعود أصوله إلى كرد العراق قد طُرح اسمه في دوائر الحزب أوائل العام 2022 لتشكيل الوزارة.

ولكن المنافسة لم تشتعل بشكل حقيقي إلا عقب صعود إليزابيث (ليز) تراس لمنصب وزيرة الخارجية في 15 سبتمبر 2021، وهي ابنة الموجة المحافظة التي انتخبت بمجلس العموم منذ عام 2010 وحافظت على هيمنة الحزب على البرلمان حتى اليوم، وعملت وزيرة للبيئة والمرأة والعدل والتجارة الخارجية مع كاميرون وماي قبل جونسون، وهي ابنة أكسفورد بالميلاد والدراسة الجامعية. ويأمل الحزب حال توليها الرئاسة أن يقدم ثالث سيدة إلى هذا المنصب، وأن تقدم أداءً قويًا مماثلًا لأداء مارجريت تاتشر بعد الأداء الباهت لتريزا ماي.

وكان الظهور القوي لتراس خلال الأزمة، عبر التصريحات اليومية، والجولات الخارجية، له وجه آخر غير التعبير عن السياسة البريطانية الجديدة، ألا وهو كسب معركة خلافة جونسون بوجه وزراء الصحة والخزانة والتعليم والعدل، واستغلال محدودية صلاحياتهم في الظهور بملف الحرب الأوكرانية.

ذلك علاوة على أن تراس هي الأقرب لدوائر شبكات المصالح الغربية التي تفضل الفكر النيوليبرالي؛ إذ كانت عضوًا بحزب الديموقراطيين الليبراليين البريطاني قبل عام 1996 حينما انتسبت إلى الحزب المحافظ بمرجعية ليبرالية، وراحت تصعد داخل الحزب، إلى أن أتى عام 2010 ليشهد دخولها مجلس العموم، ويعاد انتخابها في انتخابات 2015 و2017 و2019 على التوالي.

إيهاب عمر

باحث سياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى