
روسيا والغرب والعالم: ماذا وراء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا؟
بدأ العام الحالي بتحول جذري في موازين القوى التي كانت قد استقرت في النظام الدولي منذ انزواء الحرب الباردة في 1989- 1991، بحيث يُعد ما نعاصره الآن بمثابة محاولة قوية لتفكيك النظام الدولي الحالي، أحادي القطب، وأن يحل محله نظام آخر مُتعدد الأقطاب. لقد تحدت روسيا النظام الموالي للغرب الذي يحكم أوروبا والعالم، وهو النظام الذي تم خلقه عقب موجات توسعية كبيرة لحلف الناتو، والتي أوصلته أخيرًا إلى الحدود الروسية مباشرة.
في البداية، وبحلول العام 1999، أصبحت بولندا وجمهورية التشيك والمجر أعضاءً جددًا في الناتو. وبحلول العام 2004، انضمت إليه سلوفينيا وسلوفاكيا ورومانيا وبلغاريا بالإضافة إلى ثلاث جمهوريات سوفيتية سابقة، والتي تتمثل في ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا. وفي وقتٍ لاحق، لحقت بهم أيضًا كرواتيا والجبل الأسود ومقدونيا الشمالية.
تُشكل قفزة حلف الناتو نحو الشرق تهديدًا أمنيًا خطيرًا بالنسبة لروسيا. إن هذه السياسة المستوحاة، في الغالب، من إدارتي “بيل كلينتون”، و”جورج دبليو بوش” تتعارض مع الوعود السابقة التي سبق وأن قدمها ممثلو الحكومة الأمريكية للدولة الروسية؛ فهؤلاء لطالما أكدوا للزعيم السوفيتي “ميخائيل جورباتشوف” أن الناتو لن يتحرك نحو الشرق بعد إعادة توحيد ألمانيا. وقد شرع الناتو، على كل حال، في عملية التوسع من دون أن يولي أدنى انتباه للاعتراضات الروسية.
وبهذه الطريقة، يكون أكبر تحالف عسكري في تاريخ البشرية قد اقترب من الحدود الروسية من دون أن يُتاح لها أي طريقة، إما لردعه، أو حتى الانضمام إليه. يُفسر هذا الوضع بأن موسكو كانت مستبعدة بشكل مُتعمد من النظام الأمني الأوروبي. وقد شهد العام 1997، توقيع الاتحاد الروسي ومنظمة حلف شمال الأطلسي معاهدة تشتمل على المبادئ الحاكمة لعلاقاتهما؛ بالشكل الذي يعمل على التخفيف من حدة المخاوف الروسية. ووفقًا للمعاهدة، تعهد الناتو بعدم نشر أسلحة نووية وقواعد عسكرية دائمة على أراضي الأعضاء الجُدد. غير أن الناتو لم يمتثل إلى بنود المعاهدة إلا بشكل جزئي فقط.
قامت الولايات المتحدة بإلغاء معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية في عام 2001، ثم سارعت إلى إعلان أنظمة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية بالقرب من الحدود الروسية في دولتي بولندا ورومانيا. واجهت روسيا هذه الخطوة بالاعتراضات، وأشارت بكل وضوح إلى أن أنظمة الصواريخ المنتشرة في أوروبا الشرقية من الممكن أن يتم استخدامها أيضًا لإطلاق صواريخ كروز، مما يعني أنها ستكون قادرة على تهديد الأمن القومي الروسي، لكن بلا فائدة. فيما ردت الولايات المتحدة موضحة أن كل هذه المتغيرات ما هي إلا تحركات تهدف إلى تحييد البرنامج النووي الإيراني فقط.
وفي وقتٍ لاحق، بدأ الناتو في نشر قواته على مقربة من الأراضي الروسية بالتدريج. فيما كان أي وجود عسكري للناتو في دول البلطيق يُمثل مسألة شديدة الحساسية بالنسبة لموسكو (يوجد الناتو في إستونيا، على بُعد 130 كيلو متر فقط من سانت بطرسبرغ ثاني أكبر مدينة روسية). مما ترتب عليه تدهور العلاقات بين روسيا والغرب، غير أن بعض التحركات الغربية قد تسببت في تسريع عجلة الانحدار في العلاقات.
وقد مثلت توسعات الناتو –المستوحاة من الرؤية الأمريكية– باتجاه الشرق مجرد جزء من أسباب تفاقم المشكلة. فقد كان هناك سبب آخر يتمثل في شروع الولايات المتحدة جنبًا إلى جنب مع أقوى أعضاء الحلف، ومنذ نهاية الحرب الباردة، في إجراء عدد من التدخلات التي ترتب عليها وجود تغييرات عنيفة لحدود الدول والحكومات.
وفي الفترة ما بين مارس –يونيو 1999، قام حلف الناتو بتنفيذ عملية عسكرية ضد يوغوسلافيا أسفرت عن انفصال مقاطعة كوسوفو، التي أعلنت استقلالها في 2008. ومن جهتها، قامت منظمة الأمم المتحدة بإعلان ضمان سلامة أراضي يوغوسلافيا، غير أنها قد تجاهلت قرار مجلس الأمن رقم “1244”. لقد كان عدوان الناتو على الأراضي اليوغوسلافية هو أول حرب شهدتها القارة الأوروبية منذ عام 1945. وجدير بالذكر أن هذه الحرب قد تسببت في مضاعفة المخاوف الروسية حول أوروبا والنظام الأمني العالمي.
وسُرعان ما تكرر هذا النوع من الحروب عندما قررت الولايات المتحدة أن تقوم بتغيير النظام السياسي الحاكم في العراق عام 2003. وفي هذه المرة، قام حلف الناتو كمنظمة بعمل استثناء وامتنع عن المشاركة بسبب رفض كبار حلفاء الولايات المتحدة، مثل ألمانيا وفرنسا وتركيا المشاركة في هذا التدخل، حتى بريطانيا، تذبذبت في البداية ثم قبلت المشاركة في التدخل الأمريكي في نهاية المطاف.
مما يعني، أن الولايات المتحدة قد خلقت تحالفًا خاصًا بها، وقامت باجتياح العراق بدعاوى وادعاءات واهية. فقد ادعوا أن الرئيس العراقي صدام حسين كان يعمل على تطوير أسلحة كيمياوية وجرثومية ونووية. لقد تم سحق العراق بالكامل بدون أي عقوبات أممية، وانزلقت البلاد بعد ذلك في حرب أهلية دموية، وتم شنق صدام حسين، وحتى الآن لم يقدم حلف الناتو الذي تقوده الولايات المتحدة أي دليل على اتهاماتهم الموجهة ضد العراق وحكومته.
ومن المُرجح أن العملية العسكرية التي أُطلق عليها “تحرير العراق” لم تكن عملًا منفردًا بحد ذاته، إنما جزء من خطة طموحة لتغيير منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا برُمتها، والتي تضمنت خططًا لتغيير أنظمة سياسية، وفرض نظم “الدمقرطة الزائفة”، وبسط السيطرة الأمريكية على الثروات الطبيعية لتلك البُلدان. وجميع هذه الاستنتاجات من الممكن التوصل إليها بعد إجراء تحليل للخطوات والتحركات الإضافية التي اتخذتها الولايات المتحدة وحلفاؤها.
وفي الفترة ما بين عامي 2010- 2011، بدأ عدد من الدول العربية يشهد العديد من الاضطرابات. ولقد اتخذت الأسباب الأولية لهذه التحولات الدراماتيكية طابعًا اجتماعيًا واقتصاديًا، لكن الولايات المتحدة حاولت الاستفادة من الوضع. وكنتيجة لذلك، تدخل الناتو في ليبيا، وقد ترتب على ذلك أن غرق هذا البلد أيضًا في هاوية حرب أهلية، وواجهت البلاد نفس مصير العراق، ولاقى معمر القذافي مصيرًا مماثلًا لصدام حسين.
وبحلول العام 2011، كان يبدو جليًا للغاية بالنسبة لروسيا أن الولايات المتحدة وحلفاءها سيحاولون اتباع نفس سياسات الهيمنة العالمية بغض النظر عن موقف منظمة الأمم المتحدة أو آراء العديد من الدول أعضاء المجتمع الدولي. لكن هذا يمثل فقط نصف المأزق؛ نظرًا لأن الولايات المتحدة مارست المزيد والمزيد من السياسات الاستفزازية تجاه روسيا نفسها في محيط الدول المجاورة لها.
وفي إبريل 2008، دعا حلف الناتو، أثناء انعقاد قمة بوخارست، جمهوريتين سوفيتيين سابقتين وهما جورجيا وأوكرانيا إلى الانضمام إلى عضويته. وبعد أربعة أشهر، في أغسطس، شن الجيش الجورجي الذي تم تدريبه على يد خبراء أمريكيين هجومًا مفاجئًا على قوات حفظ السلام الروسية المتمركزة في أوسيتيا الجنوبية، مما أدى إلى اندلاع حرب الخمسة أيام.
وشهدت أوكرانيا كذلك نشوب وضع أكثر خطورة عندما حفزت الولايات المتحدة ودعمت انقلاب 2014. والذي أُجبر بموجبه الرئيس الأوكراني الشرعي، “فيكتور يانوكوفيتش” على الفرار، بينما كان على بُعد مسافة قصيرة للغاية من أن يواجه مصيرًا مماثلًا لما حدث للقذافي. وعلى الفور، ناشدت الحكومة الأوكرانية الجديدة حلف الناتو أملًا في الانضمام إليه، وحظرت استخدام اللغة الروسية في الهيئات الحكومية، رغم أن معظم الأوكرانيين يستخدمونها في حياتهم اليومية، وهددت بمعاقبة هؤلاء المواطنين الأوكرانيين الذين يعيشون في شبه جزيرة القرم والأجزاء الواقعة بجنوب شرق البلاد ورفضوا الاعتراف بسلطاتها.
وبالأخذ في الحسبان أن الروس يشكلون نحو 75% من سُكان شبه جزيرة القرم، فإن روسيا اتخذت قرارًا بإجراء عملية خاصة للسيطرة على شبه الجزيرة، ونظمت استفتاءً قضت نتائجه بالموافقة الشعبية على الانضمام إلى الاتحاد الروسي.
في الواقع، تم إنقاذ شبه جزيرة القرم والحيلولة دون أن تعيش أهوال الحرب الأهلية التي وصلت نيرانها إلى جنوب شرق أوكرانيا -المنطقة المعروفة باسم دونباس- في أبريل 2014. وانتهى الصراع بتوقيع اتفاقيات مينسك في الفترة ما بين 2014 -2015، والتي وفرت استقلالًا واسع النطاق لمنطقة دونباس، غير أن تنفيذ هذه الاتفاقيات قد تأخر بفعل الأخطاء الأوكرانية. وبدلًا من البحث عن حلول سلمية، توجهت أوكرانيا بدعم من الولايات المتحدة إلى حلف الناتو، وبدأت تتحول إلى بؤرة أمريكية على مقربة من الحدود الروسية (على بعد نحو 550 كيلومترًا من موسكو).
وبدورها، بدأت روسيا في محاولات تغيير هذه الأوضاع غير المواتية منذ عام 2014، وشنت عددًا من الهجمات المضادة. وتُمثل العملية العسكرية الروسية، واحدة من هذه المحاولات الناجحة التي كانت تهدف إلى مواجهة السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط. وبهذه الطريقة، أصبحت الجمهورية العربية السورية هي الدولة الأولى، منذ نهاية الحرب الباردة، التي لم تنجح فيها الخطط الأمريكية بقلب نظام الحكم.
ومع ذلك، لم تتوقف الولايات المتحدة وحلفاؤها من الناتو عن تركيز قواتهم العسكرية في شرق أوروبا على طول الحدود الروسية. واستمروا كذلك في محاولات تحريض أوكرانيا على عدم الالتزام باتفاقيات مينسك بخصوص دونباس. ويُعد القصف المدفعي المستمر التي شهدته مُدن دونباس، تحديدًا دونيتسك، جزءًا لا يتجزأ من هذه السياسات الغربية.
لقد حاولت روسيا التفاوض مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي؛ أملًا في الوصول إلى صيغة محتملة يمكن من خلالها تشكيل علاقات خالية من أي نزاعات في ديسمبر 2021. وأرسلت إلى واشنطن وبروكسل مطالبها المتعلقة بالضمانات الأمنية. وفي نهاية المطاف، تم رفض جميع الطلبات تقريبًا؛ فقد رفضت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي ضمان عدم انضمام أوكرانيا إلى الناتو.
وتركت هذه التطورات روسيا أمام خيارين: إما قبول التوسعات الجديدة للحلف والتي يترافق معها زيادة في نشر البنية التحتية العسكرية للناتو على طول الحدود الغربية لروسيا، أو حماية مصالحها. وفي النهاية، قررت روسيا البدء في تنفيذ عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا.
وليس ثمة شك في أن هذا القرار الذي اتخذته موسكو قد يقود إلى حدوث تغيرات جوهرية في النظام العالمي؛ إذ إنه، وبعد ما حدث، لن تبقى موازين القوى بين روسيا والغرب على ذات الحال الذي كانت عليه فيما قبل. علاوة على ذلك، فإن كل ما يجري في أوكرانيا لا يؤثر على القارة الأوروبية فقط، وإنما يمثل كذلك تحديًا للنظام العالمي غير العادل القائم على مراعاة مصالح قوة عظمى واحدة فقط، هي وأقرب حلفائها.
من الضروري عدم بقاء روسيا وحدها في مواجهة هذا التحدي، إنها مُحاطة بمجموعة من الحلفاء العلنيين والسريين؛ تحديدًا تلك الدول التي لديها أيضًا رغبة في تفكيك النظام العالمي الموالي للغرب وإنشاء نظام جديد توضع فيه مصالحهم في عين الاعتبار. وعلى سبيل المثال، تدعم الصين روسيا دبلوماسيًا وإعلاميًا؛ نظرًا إلى أن لديها مشكلاتها الخاصة مع تايوان. وإذا نجحت روسيا في إثبات أنه من الممكن الانقلاب على الغرب، فإن بكين ستستخدم الفرصة المتاحة أمامها لتوحيد بلادها، وتعزيز مواقعها الجيوسياسية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
وبغض النظر عن الموقف الصيني، فمن الممكن القول إن العديد من البُلدان في آسيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا أيضًا (خاصة في البلقان) تراقب بعناية من سيفوز. وبناءً على ذلك، سيحدّثون سياساتهم الخارجية واستراتيجياتهم على أرض الواقع الدولي الجديد. لذلك، فإن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا هي في الغالب تُمثل محاولة لكسر الهيمنة الأمريكية العالمية، وإنشاء نظام عادل ومُنصف من العلاقات الدولية القائم على قواعد دولية شفافة ومُلزمة، والتي لن تعتمد على الرغبات والمصالح الأنانية للقوة العظمى الوحيدة أكثر من ذلك.