
ليبيا.. تحقيق الاستقرار بـ”الالتفاف” بدلًا من الحرب!
هل يمكن تحقيق الاستقرار في ليبيا بـ”الالتفاف” كبديل عن الحرب؟ أولًا: ما هو المقصود بالالتفاف؟ وثانيًا: التفاف على مَن؟ ما زالت في ليبيا حكومتان؛ واحدة برئاسة عبد الحميد الدبيبة، والثانية برئاسة فتحي باشاغا، والاثنان من مدينة مصراتة ذات الميليشيات المسلحة بالأسلحة الثقيلة. الدبيبة حصل على شرعيته من جهتين؛ الأولى لجنة الحوار السياسي، في فبراير من العام الماضي، والثانية تصديق مجلس النواب على حكومته في مارس، أي بعد ذلك الوقت بنحو شهر.
وفي سبتمبر 2021 قرر مجلس النواب سحب الثقة من حكومة الدبيبة، متهمًا إياها بالتقصير، وقرر في الأول من مارس 2022 تكليف باشاغا برئاسة حكومة جديدة. إلا أن الدبيبة يرفض التخلي عن موقعه، بدعوى أنه جاء من لجنة الحوار، ويقول إنه، وفقًا لذلك، يحق له الاستمرار في منصبه حتى تسليم السلطة التنفيذية لحكومة منتخبة، وأعلن عن أن إجراء الانتخابات التي ستفرز مثل هذه الحكومة سيكون في يونيو المقبل!
ومنذ تكليفه بالحكومة الجديدة، يسعى باشاغا إلى ممارسة أعماله من طرابلس، وحاول أن يقوم بذلك بالقوة المسلحة، إلا أن عديد الأطراف المحلية والإقليمية والدولية لا تريد أن ترى الليبيين يتقاتلون من جديد. فما الحل؟ من هنا يمكن الحديث عن “الالتفاف”. وهي سياسة من شأنها أن تجنب الليبيين الحروب مجددًا. وبدأت هذه السياسة تؤتي أكلها، إلا أنها تحتاج إلى بضعة أسابيع، أو حتى شهور.. ثلاثة شهور على الأقل. وهذا من شأنه أن يحقق حلًا وسطًا.
وفقًا لعملية “الالتفاف” السلمي هذه، تمكن وزراء باشاغا، مدفوعين بتأييد مجلس النواب، من الحلول محل وزراء الدبيبة في ثلثي ليبيا، أي في إقليمي برقة وفزان، وبالتالي تقليص دور رجال الدبيبة، والدفع بهم بعيدًا، أي في إقليم طرابلس فقط.
ومن هنا تكون قد عرفت أن سياسة “الالتفاف” موجهة ضد سلطة الدبيبة المنتهية ولايتها منذ نحو شهر. بيدَ أنَّ الدبيبة ما زال متمسكًا بالسلطة، ويسعى إلى خلط الأوراق، والاعتماد على جماعة الإخوان وغيرها من جماعات فوضوية، لإرباك المشهد، والاستمرار في منصبه حتى بعد شهر يونيو، بحجة أن الانتخابات لم تجرِ بعد!
ولهذا الغرض، يعمل الدبيبة على استقطاب أطراف محلية ودولية للخروج من مصيدة “الالتفاف”. فهو يعتمد على مجلس الدولة -وهو مجلس استشاري غير منتخب، ومؤسَّس بقرار دولي منذ 2016، ومقره طرابلس في الغرب– لمناكفة مجلس النواب وهو مجلس منتخب، منذ 2014، ومقره طبرق في الشرق.
ويمكن كذلك فهم التحركات الأخيرة للدبيبة مع لجنة 5+5 العسكرية، والتي تضم عسكريين من شرق ليبيا وغربها، في هذا الإطار. إنه يسعى للتقرب من الجميع. لكن هذا يبدو أنه يأتي بعد فوات الأوان. فمهمة لجنة 5+5 الحفاظ على وقف إطلاق النار بين الليبيين، وفتح الطرق وإزالة الألغام وتوحيد المؤسسة العسكرية.
كان يمكن للدبيبة، منذ البداية، أن يُظهر حسن النوايا تجاه لجنة 5+5، وأن يدعمها، إلا أنه استثار حفيظتها حين منع الرواتب الشهرية لآلاف الجنود، أو على الأقل آلاف الجنود من المحسوبين على المجموعة الشرقية، بينما ظلت مجموعة الجنود المحسوبين على المنطقة الغربية دون حل لكثير من مشاكلهم، ومنها عملية الدمج داخل الجيش الوطني.
إجمالًا.. لم يتخذ الدبيبة إجراءات عملية لمساعدة لجنة 5+5 على حل كثير من المشاكل العسكرية. واهتمامه اليوم باللجنة يأتي، على ما يبدو، كرسالة من رجل سلام، موجهة للمجتمع الدولي. فلا تنسَ أن لجنة 5+5 تم إنشاؤها برعاية دولية في 2020.
منذ اختياره في لجنة الحوار السياسي، كان كثيرٌ من الليبيين، بمن فيهم مجلس النواب والجيش الوطني، يعولون على الدبيبة في تمهيد البلاد لإنجاز الانتخابات الرئاسية والبرلمانية بداية من ديسمبر 2021، وأن يحقق المصالحة ويوحد المؤسسات، وغيرها، إلا أنه تفرغ للترسيخ لسلطته، وتحول إلى طرف في الصراع، بعد أن قرر خوض الانتخابات الرئاسية التي لم تجرِ في موعدها.
وفي نهاية المطاف، وجه مجلس النواب اتهامات للدبيبة، منها تبديد أموال الليبيين في قضايا ليست من جوهر اختصاص الحكومة. وساءت العلاقة بين الدبيبة وكل من مجلس النواب، والجيش الوطني، وقيادات قبلية واجتماعية مهمة. وفي العموم بدت أطراف ليبية عدة تشعر أن الدبيبة يُظهر انحيازًا ضد القوى الوطنية الليبية، لتحقيق أهداف تخص بقاءه في السلطة بأي طريقة!
أما المجلس الرئاسي برئاسة محمد المنفي، فيبدو، اليوم، أنه فك الارتباط بمصير الدبيبة. معلوم أن قائمة المجلس الرئاسي التي تضم عضوين آخرين، أحدهما من الجنوب، والثاني من الغرب، تم انتخابها، مع قائمة الدبيبة، عن طريق لجنة الحوار السياسي تحت إشراف البعثة الأممية قبل سنة. وبمرور الوقت أخذ المجلس الرئاسي يكتسب خبرة، وينأى بنفسه عن طموحات الدبيبة. فالمجلس الرئاسي سيستمر في عمله حتى لو جاء باشاغا رئيسًا للحكومة. بيدَ أنه لا يمكن تجاهل الضغوط التي يتعرض لها أعضاء المجلس الرئاسي الثلاثة.. المنفي، وعبد الله اللافي، وموسى الكوني. ولا يمكن كذلك تجاهل القوة المالية التي يملكها الدبيبة.
ويُعتقد أنه حتى لو تم قطع أموال المصرف المركزي عن حكومة الدبيبة المنتهية، إلا أن المجموعة التي يعتمد عليها، ما زالت قادرة على إنفاق مليارات الدولارات، والعمل على استقطاب سياسيين وأمراء حرب من قادة الميليشيات، وبث الإشاعات، والتلاعب بالرأي العام عن طريق وسائل الإعلام المختلفة، بما فيها منصات الجماعات المناوئة لباشاغا، ولمجلس النواب برئاسة عقيلة صالح، ولخليفة حفتر، قائد الجيش الوطني الليبي.
لا يرى كثيرٌ من الليبيين الدبيبة كفرد في ذاته، بل كمجموعة مصالح محلية وخارجية. فقد كان يعمل -هو وأحد كبار مموليه من أبناء عمومته- في حكومة معمر القذافي قبل 2011. واليوم، لدى هذه المجموعة أموال ضخمة منتشرة في دول عدة. وفي الفترة الأخيرة يعتقد بعض الليبيين أن مجموعة الدبيبة نسجت علاقات مع مراكز دولية مختلفة، منها مراكز توجيه الرأي العام، ومراكز صنع القرار كذلك.
لهذا من السهل أن ترى سيلًا من المعلومات المغلوطة عن باشاغا، وصالح، وحفتر، ليس فقط للعمل على خداع كثير من الليبيين، بل للعمل على خداع بعض الأطراف المعادية لروسيا التي تحارب أوكرانيا. ومن بين ما يتم بثه، وقوف بعض قادة شرق ليبيا، مع بوتين، ضد أوكرانيا، وتسويق هذه المزاعم في دول غربية، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية.
وتعاون الدبيبة في ذلك أطراف مصنفة في بعض الدول العربية كمنظمات إرهابية، مثل جماعة الإخوان، وجماعة المفتي. وتهيمن جماعة الإخوان على مجلس الدولة من خلال رئيسه خالد المشري. ويتناغم مع كل من الدبيبة ومجلس الدولة، مفتي ليبيا المعزول، الصادق الغرياني، الذي يدير مؤسسات إعلامية وجماعات ميليشاوية متطرفة. كل هذا الخليط يقاوم الهزيمة التي أصبحت تلوح لحكومة الدبيبة في الأفق، بإرادة مجلس النواب والحكومة التي اختارها برئاسة باشاغا.
فبالإضافة إلى استحواذ وزراء باشاغا على مقار الوزارات الحكومية في الشرق والجنوب، خلال اليومين الماضيين، اتخذ مجلس النواب قرارات مهمة تتعلق بالأموال المتحصلة من تصدير النفط، بحيث لا تصل إلى حكومة الدبيبة.
وفي المقابل أبدى مجلس النواب، نفسه، مرونة لبعض الحلول الدولية والإقليمية التي تدعو إلى انتظار الدبيبة إلى شهر يونيو المقبل، وفقًا لنظرية “امشِ وراء الكذاب حتى باب الدار”. لأن كثيرًا من أعضاء مجلس النواب لديهم اعتقاد بأن الدبيبة لن يترك موقعه لا في يونيو ولا بعده، إلا بأحد أمرين.. القوة المسلحة، أو إكمال عملية “الالتفاف”. وتبدو خطة “الالتفاف” تسير على ما يرام حتى الآن.. أي إقصاء الدبيبة وتمكين باشاغا دون قتال!