
تحديد الدولار الجمركي: قرارات الاقتصاد المصري.. أساس اقتصادي وبعد اجتماعي
في ظل التحديات التي يواجهها العالم منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية وما خلفته من آثار تمثلت في تصدع أركان الاقتصاد العالمي والذي كان يحاول الخروج من عنق الزجاجة في ظل تداعيات أزمة كورونا، انعكست آثار الحرب على اقتصادات كل دولة على حدة، وسارعت كل منها لرأب الصدع في اقتصاداتها، وتقليل تأثير الحرب عليها، ومحاولة امتصاص الهزة التي سببتها الحرب.
وقد أسهمت التقلبات في أسواق الطاقة العالمية وارتفاع أسعار السلع الأساسية عالميًا وعلى رأسها القمح، وأثرت الضغوط التضخمية العالمية بالسلب على معدلات التضخم في مصر، وهو ما دفع البنك المركزي المصري إلى اتخاذ قرار برفع سعر الفائدة؛ وذلك للسيطرة على معدلات التضخم ووضعها في النطاق المستهدف. وعلى الجانب الآخر لم تغفل الدولة المصرية عن البعد الاجتماعي للأزمة؛ إذ قامت الحكومة المصرية باتخاذ عدة إجراءات مالية، وقرارات تضمن توفير الحماية الاجتماعية لاستيعاب التحديات الاقتصادية العالمية، وخفض تأثيرها السلبي على المواطن المصري قدر المستطاع.
القرارات التي اتخذتها وزارة المالية
استكمالًا لبرنامج الإصلاح الاقتصادي الشامل الذي تبنته الدولة المصرية بداية من العام 2016 بتصميم مصري وإشراف من جانب صندوق النقد الدولي والذي شمل في أبعاده سياسات نقدية ومالية وهيكلية بالإضافة إلى البعد الاجتماعي الذي ضمته الدولة المصرية ضمن برنامجها الإصلاحي كأساس يتم بناء عليه جميع القرارات الاقتصادية؛ اتخذ البنك المركزي المصري قرارًا بالإعلان عن رفع سعر الفائدة بمقدار 100 نقطة أساس إلى 9.25 في المائة و10.25 في المائة على التوالي.
وقد أشار بيان البنك المركزي إلى أن ارتفاع أسعار السلع والطاقة زاد من الضغط على الاقتصاد المصري والذي يستهدف الوصول إلى معدل تضخم يبلغ 7٪ في الربع الرابع من عام 2022، ومن ثم فإن القرار يهدف إلى السيطرة على معدلات التضخم المستوردة عالميًا بعد تطورات الصراع الروسي الأوكراني، فقد أدى الارتفاع الملحوظ في أسعار السلع الأساسية العالمية واضطراب سلسلة التوريد وارتفاع تكاليف الشحن، بالإضافة إلى تقلبات الأسواق المالية في البلدان الناشئة إلى ضغوط تضخمية محلية وزيادة الضغط على الميزان الخارجي.
وهدفت السياسة النقدية إلى الوصول بمعدلات التضخم إلى مستويات مستقرة؛ بهدف الحفاظ على مستوى معيشة المواطن المصري من خلال دعم قوته الشرائية من ناحية، ومن ناحية أخرى تحفيز المواطن للادخار. وفي نفس الوقت أعلن البنك المركزي المصري اتخاذ سياسة تصحيحية بشأن سعر الصرف والتي أدت إلى تراجع قيمة الجنيه المصري.
واتساقًا مع تلك القرارات، تحركت الأجهزة الحكومية المختلفة من أجل توفير الاحتياجات الأساسية للمواطنين وزيادة المعروض من السلع الغذائية وضمان وصولها للمواطن، مع منع أي ممارسات احتكارية قد تدفع بالأسعار إلى مستويات مرتفعة؛ وذلك بهدف زيادة تنافسية الصادرات المصرية، ولكونها أداة لامتصاص الصدمات وانعكاسًا للتطورات العالمية.
وبالتوازي مع ذلك، أعلنت وزارة المالية المصرية حزمة من القرارات المالية بهدف توفير الحماية الاجتماعية، وبلغت قيمة الإجراءات حوالي 7 مليارات دولار لحماية الفئات الأكثر ضعفًا في المجتمع من الصدمات في السوق، إذ تعد مصر أكبر مستورد للقمح في العالم، وتعتمد على روسيا وأوكرانيا في الحصول على نحو 85% من إمداداتها من القمح الأساسي، بالإضافة إلى 73%من زيت عباد الشمس والذي تحتل فيه أوكرانيا المرتبة الأولى عالميًا.
وتمثلت تلك الإجراءات في تخصيص مبلغ 2.7 مليار جنيه لضم 450 ألف أسرة جديدة للمستفيدين من “تكافل وكرامة”، وزيادة المعاشات بنسبة 13% من أول ابريل، زيادة حد الإعفاء الضريبي بنسبة 25%، وزيادة العلاوة الدورية للمخاطبين بالخدمة المدنية لتكون بنسبة 8٪ من الأجر الوظيفي، ومنح غير المخاطبين بالخدمة المدنية علاوة خاصة 15٪ من الأجر الأساسي، وزيادة الحافز الإضافي الشهري للمخاطبين وغير المخاطبين بالخدمة المدنية بفئات مالية مقطوعة.
هذا بجانب السياسات المتعلقة بزيادة الحوافز ضمن مخصصات الأجور بموازنة العام المقبل، وإجراء تعديلات على مشروع قانون الضريبة على الدخل لتنشيط البورصة المصرية، وإعفاء صناديق الاستثمار والأوعية المستثمرة في البورصة من الضريبة، ووضع آلية تسمح بخصم الضريبة على التوزيعات ضمن الهياكل الضريبية المركبة تشجيعًا للاستثمارات في مصر، وتعديل المعاملة الضريبية لصناديق الاستثمار لتشجيع الاستثمار المؤسسي، وإعفاء صناديق الاستثمار في أدوات الدين وصناديق الاستثمار في الأسهم المقيدة بالبورصة وصناديق وشركات رأس مال المخاطر.
ذلك الإضافة إلى قرارات أخرى لدعم سوق رأس المال، وتحديد الدولار الجمركي بقيمة 16 جنيهًا للسلع الأساسية ومستلزمات الإنتاج حتى نهاية الشهر المقبل. وبحسب مجلس الوزراء المصري، فقد تم تحديد سعر ثابت للخبز غير المدعوم لمدة ثلاثة أشهر في محاولة لضمان الأمن الغذائي لأولئك الذين يعتمدون بشكل أساسي على الخبز في وجباتهم، ونجد أن سعر الخبز المدعم ظل دون تغيير في مصر، حيث يعيش حوالي 60% من المواطنين في مصر على الخبز المخصص بموجب نظام بطاقة الغذاء المدعوم.
ماهية قرار تحديد الدولار الجمركي الذي اتخذته وزارة المالية
يعرف الدولار الجمركي بأنه السعر الذي تحدده وزارة المالية لقيمة السلع التي يتم استيرادها من الخارج وقيمة الرسوم الجمركية المفروضة عليها. ويختلف سعر الدولار الجمركي عن سعر الدولار أمام الجنيه والذي يتم التعامل معه بشكل يومي والذي قد يتغير خلال اليوم بعد تطبيق مصر لسياسة تحرير سعر صرف الجنيه في نوفمبر 2016، والتي تتحدد بموجبها قيمة الجنيه مقابل الدولار وفقًا لآليات العرض والطلب دون التدخل في تحديد سعره.
وبعد اتخاذ البنك المركزي سياسة تصحيحية لسعر الصرف بهدف حماية السيولة من النقد الأجنبي وجذب المستثمرين الأجانب، مما أدى إلى أن يسجل الدولار الأمريكي ارتفاعًا أمام الجنيه المصري ليصل سعر الدولار الأمريكي أمام الجنيه إلى 18.54 جنيه، دفع ذلك وزارة المالية إلى اتخاذ قرار بالعودة إلى العمل بما يسمى بالدولار الجمركي على السلع المستوردة، فحددت وزارة المالية قيمة الدولار الجمركي عند 16 جنيهًا للسلع الأساسية ومستلزمات الإنتاج في نهاية الشهر المقبل،
جاء قرار وزارة المالية المصرية تأكيدًا للنهج الذي تتبناه الدولة المصرية في تعاملها مع البعد الاجتماعي للقرارات الاقتصادية، على الرغم من أن وضع الاقتصاد العالمي يتسم بارتفاع معدل التضخم إلى مستويات غير مسبوقة، واتجاه البنوك المركزية عالميًا إلى اتخاذ قرارات برفع أسعار الفائدة وما ينطوي عليه من توازي في قرارات البنوك المركزية بجميع دول العالم برفع أسعار الفائدة، وخاصة بعد قيام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي برفع الفائدة وما ترتب عليه من رفع عدد من البنوك المركزية في العالم لأسعار فائدتها.
ولأن سعر صرف الدولار الأمريكي هو أمر حساس بالنسبة للمواطن المصري، فإن الحكومة المصرية تعي ذلك بشكل واضح، ومن ثم فقد أقر وزير المالية تثبيت سعر الدولار الجمركي حتى نهاية شهر أبريل؛ إذ إنه عادة ما يتم مراجعة سعر الدولار الجمركي وفقًا للجنه تسعير الدولار.
ويسهم قرار وزارة المالية بتحديد الدولار الجمركي عند حدود 16 جنيهًا في الحفاظ على استقرار أسعار المواد الأساسية ومدخلات الإنتاج التي يتم استخدامها في إنتاج السلع المختلفة، هذا فضلًا عن حماية المنتجين والحفاظ على أموالهم خاصة أنهم يعملون وفق لعقود مبرمة مع الموردين، وهو ما قد يؤثر على مواردهم وراس مال شركاتهم.
ومن ثم، فاتساقًا مع البعد الخاص بالحفاظ على استقرار الأسعار قدر الإمكان ومنع تذبذبها وتمكين المستثمرين والمستوردين من تحديد سعر لقيمة الدولار الأمريكي مقابل الجنيه المصري كان لقرار وزارة المالية إثر كبير على أسعار المنتجات والخدمات في مصر بشكل عام.
ولفهم أثر ذلك القرار، ففي حال تصور عدم إقدام وزارة المالية على اتخاذ مثل ذلك القرار فكان سيترتب عليه ارتفاع كبير في أسعار السلع المستوردة أو التي تعتمد في إنتاجها على مواد خام ومدخلات إنتاج يتم استيرادها، بل إن الأثر سيكون بشكل مباشر وسينتقل إلى المستهلك بشكل مباشر، وهو ما يرفع من معدلات التضخم بالبلاد، ويخفض من القدرة الشرائية للمواطنين.
وهو ما تدركه الحكومة المصرية في اتخاذها لقراراتها الاقتصادية، ففي نفس الوقت الذي تستهدف فيه الحكومة الحفاظ على مكتسبات برنامج الإصلاح الاقتصادي وتطبيق القواعد السليمة للاقتصاد الكلي والتي ينطوي عليها اتخاذ إجراءات مثلما قامت بها الحكومة، فإنها تتخذ أيضًا قرارات تهدف إلى تخفيف عبء وأثر تلك القرارات على المواطنين قدر الإمكان، وهو ما يمكن أن نسميه بالقرار الاقتصادي الاجتماعي الرشيد.
لتلك القرارات أثر كبير على استقرار معدل التضخم ومن ثم استقرار الأسعار، والإسهام في تأمين السلع الأساسية للمواطنين دون تعرضها للارتفاع الملحوظ، ودعم وحماية محدودي ومتوسطي الدخل، وبما يمكّن التجار من تسعير سلعهم بشكل مسبق، وعدم تعرضهم للخسارة. وسيسهم القرار كذلك في تشجيع الإنتاج المحلي، ومن ثم توفير المزيد من فرص العمل، مما يسهم في تقليل معدلات البطالة وارتفاع معدلات النمو الاقتصادي.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية