
الحرب الأوكرانية.. بين سيكولوجية بوتين وهوية روسيا
وفقًا لسيكولوجية الحرب فإن الحديث عن الخسارة يسود عملية صنع القرار بشأن الحرب. فيخبرنا علم النفس المعرفي أن البشر يكرهون الخسارة، وتخبرنا نظرية الاحتمالات عن الظروف التي من المحتمل أن يتخذ الأشخاص بموجبها قرارات أكثر خطورة لمنع الخسارة بدلاً من السعي لتحقيق مكاسب؛ فأشكال الخسارة “السيطرة البشرية والاقتصادية والجغرافية السياسية والهيبة” تؤثر على سلوك القادة السياسيين. ونناقش في هذا التقرير، تأثير العوامل السيكولوجية والتاريخية على الهجوم الروسي على أوكرانيا.
الغرب وروسيا.. إرث من العداء ومخاوف متبادلة
بينما يعتقد صانعو السياسة الأمريكية أنهم وسعوا حلف الناتو إلى حدود روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي كإجراء دفاعي لتعزيز الديمقراطية وردع العدوان على غرار الحقبة السوفيتية، يفسر قادة الكرملين هذه التحركات نفسها كدليل على أن الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو عازمون على شل النظام الروسي، إن لم يكن الإطاحة به. وهذه التصورات المتبادلة ترجع في علم النفس الاجتماعي لما يسمى “خطأ الإسناد الأساسي”، وهو مصطلح صاغه عالم النفس “لي روس” لوصف الأخطاء التي نرتكبها في عزو الدوافع إلى سلوك الآخرين.
فخطأ الإسناد هنا؛ هو الاعتقاد بأن وضع قوات الناتو على حدود روسيا أو بالقرب منها في بلدان مثل “لاتفيا وبولندا” مفروضة من قبل عوامل خارجية مثل “إعادة بناء الجيش الروسي في عهد بوتين” بينما تعزو تحركات الجيش الروسي نحو السمات الشخصية لبوتين وقادة الكرملين، ووفقًا للتاريخ بين روسيا والولايات المتحدة ومن خلفها حلف الناتو فإن انعدام الثقة هو السائد؛ حيث ينظر للتحركات العسكرية الدفاعية لكل جانب على أنها استفزازات عدوانية.
فإذا نظرنا إلى دوافع الجانب الروسي نجد أن قادة الكرملين، الذين يضعون في الحسبان التهديدات الوجودية لروسيا منذ نابليون بونابرت وهتلر -مع بعض المبررات التاريخية- يميلون إلى رؤية القادة الغربيين على أنهم قادوا داخليًا لطموحات إقليمية على الأراضي الروسية.
وخاصةً بعد ما شهدته روسيا، من خسارة إمبراطوريتها الشاسعة في الحرب الباردة عام 1991 حيث شملت الكثير من أوروبا الشرقية الأمر الذي خلّد صدمة ثقافية ذات أبعاد محطمة للروسيين منذ ذلك الوقت حتى الآن. وعلى هذا النهج وصف بوتين انهيار الاتحاد السوفيتي بأنه “أكبر كارثة جيوسياسية خلال القرن العشرين”، ومنذ عام 1997 انتقد مرارًا توسع الناتو نحو الحدود الروسية وأنه يشكل تهديدًا عليهم.
وعلى النقيض من ذلك فإن الولايات المتحدة وحلف الناتو يرون أن الروس لديهم صورهم النمطية الإمبريالية عن أوكرانيا والعالم بشكل عام. وأن بوتين لديه دوافع وحيل توسعية ويحاول تغيير النظام السياسي في أوروبا.
في حين يعتقد بوتين أنه يجب رسم خط أحمر لمنع المزيد من التوسع باتجاه الشرق لحلف الناتو؛ حيث نجده لا يخفي حقيقة أنه ينوي بناء إمبراطورية روسية جديدة، تكون أوكرانيا جزء لا يتجزأ منها؛ حيث يرى بوتين أن أوكرانيا نشأت نتيجة للثورة البلشفية وقرار الزعيم السوفيتي “فلاديمير لينين” بتخصيص أراضي روسية تاريخية لهذا الكيان، ويدلل على ذلك بأن الأوكرانيين لديهم الكثير من القواسم المشتركة مع الشعب الروسي. ويتشاركون في نفس الدين “المسيحية”، والطائفة “الأرثوذكسية”، والعرق “الشعب السلافي”، واللغة “اللغة السلافية”، والحضارة.
وتُفسر قناعات بوتين والعمليات العسكرية في أوكرانيا على أنها نقطة تحول لمستقبل النظام الدولي. حيث وصف الخبراء الهجوم الروسي بأنه “أكبر هجوم عسكري على القارة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية”. ومن الواضح أن بوتين يعتقد أن الخسائر الاقتصادية التي تكبدها بسبب العقوبات، مسموح بها لتحقيق مكاسب استراتيجية وسياسية.
بين الدوافع السيكولوجية والمكاسب الاستراتيجية
يمكننا القول بأن الرئيس بوتين لديه دافع مثير وهو البحث عن الأهمية والرغبة في تحقيق المجد، فالرئيس بوتين منذ توليه رئاسة وزراء روسيا وهو مستعد للمخاطرة من أجل تحقيق المجد، فعند تعيينه رئيساً للوزراء في عام 1999، وصف بوتين منصبه في رئاسة الوزراء بأنها “مهمة تاريخية”، وفي عام 2005عندما أعيد انتخابه كرئيس لروسيا في ذلك الوقت، صرح أن انهيار الاتحاد السوفيتي كان “أعظم كارثة جيوسياسية في القرن”؛ حيث رآها خسارة عميقة للمعنى، وسقوط سريع من العظمة.
دائمًا ما يقدم بوتين نفسه على أنه المنقذ للوطن الروسي من الغرب الذي يسعى لتدمير روسيا وقيمها التقليدية، وفي خطابه الذي ألقاه في 24 فبراير 2022، قال الرئيس الروسي أنه ليس لديه خيار سوى غزو أوكرانيا، باعتبارها “مسألة حياة أو موت، ومسألة مستقبلنا التاريخي كأمة”. والملاحظ هنا أنه استخدم “نظرية الهوية الاجتماعية”، والتي استخدمتها “جلناز شرفوتدينوفا” في كتابها “المرآة الحمراء” لشرح قيادة بوتين؛ حيث وجدت أن المصدر الرئيسي لتأثير بوتين السياسي يكمن في كيفية تعبيره عن المنظور الجماعي المشترك الذي يوحد العديد من المواطنين الروس.
فخلال فترة ولايته، استفادت الآلة الإعلامية للكرملين من مشاعر العار والإذلال الجماعية القوية التي ألحقها الغرب، بتحريض أمريكي، بحكام روسيا والبلد ككل على مدى الثلاثين عامًا الماضية، وقامت بتسييس الهوية الوطنية لتحويل هذه المشاعر إلى كبرياء ووطنية، بعد أن بلغت ذروتها مع ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014، ولا تزال استراتيجية سياسة الهوية الوطنية جوهر قيادة بوتين في روسيا، الذي نجح في تأسيس الهوية الاجتماعية عن طريق خلق شعور بالاستثناء لترسيخ الأمة السوفيتية، والشعور بالتهديد الأجنبي للدولة الروسية وشعبها.
فكان بوتين قادرًا على قلب مشاعر الإذلال إلى كبرياء ووطنية، ولكن منذ ربيع 2020 والرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحاول استخدام العدوان والسخرية كأدوات لإظهار ازدرائه لمحاوره، ولإظهار المفاوضات على أنها غير مجدية حتى قبل أن تبدأ لإثارة الرعب واللامبالاة، وخير دليل على ذلك الطاولة الذي يبلغ طولها 20 قدمًا التي استخدمها بوتين لإبعاد نفسه اجتماعيًا الشهر الماضي عن القادة الأوروبيين الذين يسافرون لإجراء محادثات الأزمة الأوكرانية، حيث يقصر بوتين اجتماعاته على دائرة داخلية من المستشارين ويفضل التحدث عبر زووم أو الهاتف. فعلى الرغم أن بوتين عانى من عزلة كبيرة مرتبطة بفيروس كورونا على عكس أي قائد غربي، إلا أن هذا يرمز إلى انفصاله عن بقية العالم.
وفي نفس السياق تقول “يكاترينا شولمان” أستاذة العلوم السياسية بروسيا والعضو السابق في مجلس حقوق الإنسان، عن المظاهر العلنية الأخيرة للرئيس بوتين بأن “هناك انطباع من الغضب، وقلة الاهتمام، وعدم الرغبة في الخوض في أي شيء جديد، ويُظهر للجمهور أنه كان في عزلة عملية”.
ويعتقد “إيان روبرتسون”، اختصاصي علم النفس العصبي في كلية ترينيتي في دبلن: أن العزلة التدريجية وازدراء رأي أي شخص آخر هي علامات كلاسيكية على “متلازمة الغطرسة”، ونتيجة لذلك، يعتقد أن المسار السياسي لبوتين “شخصي بقدر ما هو سياسي، لأنه بمجرد أن تترسخ متلازمة الغطرسة في الدماغ، يكون الشخصي والقومي متطابقين لأن القائد هو الأمة ومصيرها”.
النجاحات العسكرية وتأثيرها على سيكولوجية بوتين
يصور بوتين نفسه على أنه ضامن الاستقرار لروسيا، ولربما جاء قرار بوتين بالهجوم العسكري على أوكرانيا من الثقة المتزايدة في “النجاحات” السابقة، أو على الأقل في القرارات التي سارت على ما يرام بما يكفي لإبقائه في السلطة.
فمغامراته في العالم حتى الآن تحتوي على القليل لإثبات أنه مخطئ؛ حيث انتهت الحرب التي خاضها ضد الانفصاليين في الشيشان من 1999 إلى 2009 بالنصر. وفي جورجيا في عام 2008 طردت قواته الجيش الجورجي من إقليمي “أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية الانفصاليين”، وكان صراعًا شخصيًا للغاية مع رئيس جورجيا الموالي للناتو “ميخائيل ساكاشفيلي”، حيث أظهر استعداد بوتين للتحرك من أجل تقويض سلطة الزعماء الموالين للغرب في دول الاتحاد السوفيتي السابقة.
كما مر غزو بوتين لشبه جزيرة القرم عام 2014 دون عقاب إلى حد كبير وزاد شعبيته في روسيا. وفي سوريا نجح الدعم الروسي في إبقاء الرئيس السوري “بشار الأسد” في السلطة على الرغم من سعي الغرب لإسقاطه. كما يشتبه في أن بوتين أمر بشن هجمات بالتسمم وغاز الأعصاب على المنشقين الروس في الخارج.
أما عن الهجوم الروسي الأخير لأوكرانيا فهو علامة على أن بوتين يعتقد أن السلام الأمريكي قد انتهى وأن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلفائهم أصبحوا أضعف من أن يتحملوا عواقب مؤلمة. فلا ينسى بوتين، عندما قام الرئيس الأمريكي “جورج بوش” بتزويد طائرته بالوقود في مطار موسكو عام 2006، ورفض زيارة بوتين في الكرملين، مما أجبره على التوجه إلى صالة الوصول لعقد اجتماع، وفي عام 2014 رفض الرئيس الأسبق “باراك أوباما” روسيا باعتبارها مجرد “قوة إقليمية”.
أما الآن فالفرصة سانحة أمام فلاديمير بوتين لفرض الهيمنة الروسية؛ حيث يدرك جيدًا أن الولايات المتحدة وأوروبا تكافحان الآن لرفع مستويات المعيشة لكثير من سكانهما. ولدى بوتين أيضًا تقدير موقف يعزي أن العديد من الدول الغربية مستقطبة، وتملأها الصراعات الثقافية بين المناطق الحضرية والمناطق الريفية. كما أن الأحزاب السياسية الرئيسية ضعيفة مثال حالة أحزاب يسار الوسط القديمة في بريطانيا وفرنسا، أو تتصرف بطرق مناهضة للديمقراطية كما هو الحال مع الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة.
ختامًا؛ يمكننا القول أن قيام روسيا بالهجوم العسكري على أوكرانيا تم من خلال عدد من العوامل، حيث احتل العامل السيكولوجي فيها أهمية خاصة. كما لعب بوتين استراتيجية حافة الهاوية مع الدول الغربية؛ فكان الهجوم الروسي على أوكرانيا هو المرحلة الأخيرة في جهود بوتين المستمرة منذ سنوات لإجبار الغرب على قبول المخاوف الأمنية الروسية، حيث لا ينسى بوتين فرض الغرب نظامًا أوروبيًا جديدًا على روسيا في أوقات ضعفها في التسعينيات وتجاهل حاجتها التاريخية إلى منطقة عازلة جيوسياسية، والآن بعد أن أصبحت روسيا أقوى يحاول إعادة رسم تلك الخريطة، لذا يحتاج الغرب إلى إعادة النظر في بعض الافتراضات التي كان يتبناها سابقًا تجاه الرئيس الروسي.