
بوتين أم الجيش؟: ماذا يريد الغرب في أوكرانيا؟
بعيدًا عن مسار التطورات العسكرية الميدانية في أوكرانيا، بدا منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية صباح يوم 24 فبراير 2022 أن الدول الغربية تركز على هدف آخر يتمثل في هزيمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سياسيًا، وليس فقط إحباط الهجوم الروسي ضد أوكرانيا. فالعلاقات المتوترة بين بوتين والغرب تعود إلى سنوات مضت، وتفاقمت حدتها منذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014.
إن الغرب يرى بوتين آخر القياصرة الروس، ولطالما اتهمه بمحاولة توسيع نفوذ الاتحاد الروسي خارجيًا ولعب دورٍ في بعض الدول الأوروبية، مثل دعم حركات أو أحزاب سياسية بعينها. وعاد مع هذه التوترات شبحُ الحرب الباردة في الظهور مرة أخرى، خاصة منذ عام 2014 بين روسيا والأوروبيين والأمريكيين. وأخذ التصعيد منحنى أكثر خطورة بين واشنطن وموسكو مع تولي الرئيس الحالي جو بايدن سدة الحكم في يناير 2021؛ إذ تبادل الطرفان، بوتين وبايدن، الاتهامات لبعضهما البعض، سواء بمحاولة التدخل في شؤون دولتيهما، أو تعزيز النفوذ في الخارج، أو تهديد الحلفاء.
ولعل آراء الجانبين قد انطبعت على تصريحاتهما المتبادلة؛ فعلى سبيل المثال، اتهم وزير الخارجية الأمريكي الحالي آنتوني بلينكن، قبل أسابيع قليلة من الحرب في 9 يناير الماضي، بوتين بأن “لديه مساعي لإعادة إحياء النظام الإقليمي الذي كان سائدًا خلال فترة الاتحاد السوفيتي السابق”، فضلًا عن أن بعض السياسيين كثيرًا ما يصفونه بـ “القيصر” الذي يسعى إلى استعادة الإمبراطورية الروسية القديمة.
أما بوتين، فقد اتهم الولايات المتحدة وحلف “الناتو” بمحاولة التمدد شرقًا باتجاه الحدود الروسية، ما دفعه، حسب رأيه، إلى شن الحرب مع أوكرانيا. وأعادت كل هذه التطورات الأذهان إلى ذاكرة الحرب الباردة التي انتهت مطلع تسعينيات القرن الماضي.
وعلى أي حال، فقد فاقم الهجوم الروسي ضد أوكرانيا من حدة الأزمة بين بوتين والغرب، واتهم الأخيرُ موسكو بمحاولة بسط النفوذ غربًا، بينما قال بوتين إن تمدد حلف شمال الأطلنطي “الناتو” شرقًا يهدد بلاده. وأيًا كان سبب هذه الحرب، فإننا سنرصد فيما يلي بعض المؤشرات التي قد تغير من مسار الأزمة الروسية الغربية في أوكرانيا لتتحول وتلقي بظلالها سياسيًا على الرئيس الروسي:
- فرض عقوبات على رجال الأعمال الكبار المقربين من بوتين:
كانت الدول الأوروبية والولايات المتحدة مستعدة بشكل تام قبل بدء الحرب الروسية الأوكرانية لتطبيق عقوبات ضد روسيا والرئيس بوتين ورجال الأعمال المقربين منه (من يوصفون بالأوليجاركية). وإذا كان من البديهي أن تشمل أية عقوبات ضد أية دولة حول العالم الطرفين المذكورين أولًا على اختلاف اسمائهم، فإن معاقبة الأثرياء المقربين من الرئيس الروسي قد يعني شيئًا آخر.
إذ يطرح هذا تساؤلات مفادها، هل سيظل هؤلاء الأثرياء مقربين من بوتين في ظل فرض العقوبات؟ وهل يؤثر مسار العلاقات بينهم وبين الرئيس الروسي على مجريات الحرب الروسية الأوكرانية؟، أو بمعنى أكثر دقة: “هل تدفعهم العقوبات ضدهم إلى التحرك سياسيًا ضد الرئيس بوتين؟”.
إن حكومات دول بريطانيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة قد فرضوا حزم عقوباتٍ كبيرة ضد رجال الأعمال الكبار المقربين من الرئيس الروسي بعد اندلاع حرب كييف، وهو الذي نصحهم لسنوات باتخاذ إجراءات استباقية في ظل تصاعد التوترات بين روسيا والغرب منذ عام 2014.
وعلى الرغم من قيام بعضهم باتخاذ خطوات في سبيل القيام بذلك بالفعل، إلا أن البعض الآخر واصل ادخار أمواله في الخارج. وكان من أبرز رجال الأعمال الروس المقربين من بوتين الذين شملتهم العقوبات الأخيرة:
– “علي شير عثمانوف“: قرر الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات ضده في 28 فبراير الماضي، ثم تلته الولايات المتحدة وبريطانيا. يُعتقد أن عثمانوف مقرب كثيرًا من الرئيس بوتين، وهو يدير شركة “يو إس إم هولدينج-UMS Holdings” العملاقة العاملة في مجال التعدين والاتصالات والتي تتبع لها شركة “ميجافون”، ثاني أكبر شبكة للهاتف المحمول في روسيا.
– “رومان إبراموفيتش“: مالك نادي تشيلسي الإنجليزي لكرة القدم، وقررت لندن في 10 مارس الجاري تجميد ممتلكاته وحظر تعاملاته مع المواطنين والشركات البريطانية. وتتضارب التقارير بشأن حجم تأثيره من بين الأفراد المقربين من بوتين، حيث تصفه بعضها بأنه الأقل ارتباطًا بالرئيس الروسي.
– “أندريه ميلينشينكو“: أعلن المستشار الإعلامي لرئيس الوزراء الإيطالي، فرديناندو جيوجليانو، يوم 12 مارس مصادرة روما ليخته الخاص الذي يُعد الأضخم من نوعه في العالم، وذلك في إطار عقوبات الاتحاد الأوروبي ضده بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.
– “إيجور سيشن“: يُقال إنه أحد المستشارين الأكثر قربًا للرئيس بوتين، وكان نائبًا له عندما كان رئيسًا للوزراء، ويدير الآن شركة النفط الحكومية الروسية “روسنفت”. وقد أعلن الاتحاد الأوروبي عقوباتٍ ضده في 28 فبراير.
.
ب-فرض عقوبات موسعة على المعاملات الاقتصادية للروس:
شملت العقوبات التي فُرضت على روسيا منذ اندلاع الحرب الأخيرة مناحي كثيرة من الحياة اليومية “الاقتصادية” للروس. وبرغم حجم العقوبات الكبير المفروض بالأساس منذ عام 2014 تحديدًا، إلا أن العقوبات الجديدة تُعد أشد قسوة وأكثر تأثيرًا على الداخل الروسي، أو كما عبر عنها الرئيس الأمريكي بايدن بأنها سوف “تسحق” الاقتصاد الروسي.
فقد أعلنت الدول الأوروبية فرض عقوبات على قطاعات الخدمات المالية والطاقة والنقل في روسيا، إلى جانب إعمال قيود على الصادرات الروسية، وإدراج كثير من رجال الأعمال الروس المقربين من الكرملين على قائمة العقوبات، كما سبقت الإشارة. وشملت العقوبات من جانب آخر تجميد ما يقارب 630 مليار دولار هي أصول البنك المركزي الروسي في الدول الغربية.
وفرضت الدول الأوروبية أيضًا عقوبات على الطيران الروسي بمنعه من المرور في أجوائها. وقامت واشنطن بخطوات مماثلة، حيث أعلن بايدن في 8 مارس حظر استيراد جميع واردات روسيا من النفط والغاز، قائلًا إن هذا “يستهدف الشريان الرئيس لاقتصاد روسيا” و”ضربة قوية أخرى لآلة بوتين الحربية”. ومن المقرر أن تقوم المملكة المتحدة هي الأخرى بإيقاف الاعتماد على النفط الروسي تدريجيًا حتى نهاية العام الجاري.
واتخذت العقوبات نطاقًا أكثر اتساعًا وتأثيرًا حين تم الإعلان عن فرضها على التعاملات المالية للروس في الخارج في إطار ما يُعرف بنظام “سويفت- SWIFT” الدولي أو “جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك” ومقرها بلجيكا. فهذا الأخير يسمح في إحدى جوانبه بتبادل وإرسال الأموال عالميًا مهما كان حجمها، ما يعني أن فرض عقوبات عليه سيجعل نقل الأموال من أو إلى روسيا أكثر صعوبة.
إننا عندما نصنع صورة واحدة مركبة من مجموع هذه العقوبات سنجد أنها سوف تخلق عقباتٍ حقيقية أمام المعاملات اليومية الاقتصادية في ظل إعلان شركات كبرى خروجها من السوق الروسي، وهو ما يشكل عبئًا حياتيًا وتحذيرًا سياسيًا أيضًا؛ إذ إن العقوبات الأخيرة ضد موسكو لا تُقارن بتلك المفروضة منذ عام 2014. وقد لا يسعنا القول هنا بأن موسكو اعتادت على التعامل مع العقوبات، ما يطرح التساؤل بشأن إمكانية تكيف المواطنين الروس معها ومدى تحملهم لها.
ج- المعارك الإعلامية:
وهي تشير إلى حظر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعية المتبادلة بين روسيا والشركات المعنية التي تبث من الدول الأوروبية أو الولايات المتحدة. إذ قد منعت هذه الشركات بث وسائل الإعلام الروسية على منصاتها، ما قوبل في روسيا بمنع السلطات لمنصات مثل “فيسبوك” و”تويتر” و”انستجرام”. إن هذه الجولات من المعارك في الميدان الافتراضي وعلى الرغم من أنها ليست بجديدة على روسيا، إلا أن حدتها تزداد هذه المرة، وتُضاف أيضًا من جانب آخر إلى كم العقوبات الاقتصادية والخدمية.
د- “حرب بوتين- Putin’s War” أم الحرب الروسية؟
يصف العديد من وسائل الإعلام الخارجية الحرب الروسية الأوكرانية بأنها “حرب بوتين”، ما يعني محاولة الفصل بين الرئيس الروسي ودولة روسيا. ويشير هذا إلى رغبة في إيصال رسالة بأن الشعب الروسي لا يريد الحرب وأن الأخيرة تنبع من عقيدة الرئيس. ويتزامن هذا مع دعوة الرئيس الأوكراني، فلوديمير زيلينسكي، الروس إلى معارضة الحرب، ومعارضة بوتين.
الاستنتاج
إن حجم ونطاق العقوبات المفروضة على روسيا ومدى تأثيرها داخليًا قد يشير إلى أن الهدف ليس هزيمة الجيش الروسي عسكريًا على الأراضي الأوكرانية، بل هزيمة الرئيس الروسي بوتين سياسيًا في الداخل. وهو ما يطرح في النهاية تساؤلًا قد نجد الإجابة عليه بعد سنوات وهو “هل تقود نتائج الحرب الروسية الأوكرانية في النهاية إلى انضمام روسيا إلى الاتحاد الأوروبي أم إلى أن تخرج أوكرانيا من عباءة الدول الأوروبية إلى الأبد وتنضم إلى التكتل الروسي؟”.
باحث بالمرصد المصري