الأزمة الأوكرانية

تصعيد الرسائل.. نظرة روسية حادة للغرب الأوكراني

لا يمكن -بطبيعة الحال- فصل العمليات العسكرية الروسية الجارية حاليًا في جبهات “شرق الدنيبر” الأوكرانية عن أحد أهم مباعث شن هذه العمليات، ألا وهو لعبة “تكسير العظام” التي بدأت بشكل مستتر منذ سنوات بين موسكو وحلف الناتو والولايات المتحدة. ارتباط مسار المعارك الميدانية، بالتحركات التكتيكية التي تقوم بها روسيا ضد ما يمكن وصفه حاليا بمحور “الحلفاء” الذي يضم الولايات المتحدة وحلف الناتو اتضح بشكل أكبر خلال اليومين الماضيين، عبر سلسلة من المؤشرات الميدانية التي تبدو فيها العين الروسية محدقة نحو شمال وجنوب الضفة الشرقية لنهر الدنيبر، لكنها في نفس الوقت لا تغفل عن الغرب الأوكراني.

وقد سبق وتم التنويه في مادة سابقة، عن المعضلة الميدانية التي يشكلها التدفق المستمر للمقاتلين والأسلحة والذخائر عبر الحدود البولندية، وهو ما فرض على موسكو ضرورة اتخاذ إجراءات حادة نحو هذا التدفق، خاصة أنه يترافق مع تلويح “متعدد الأوجه” من جانب وارسو بإمكانية استخدام طائراتها سوفيتية الصنع من نوع “ميج-29″، لتنفيذ مهام قتالية لصالح الجيش الأوكراني، انطلاقا من مطارات تابعة لدول في حلف الناتو، وهو تلويح ردت عليه موسكو بصرامة لافتة، عبر قرار تفعيل جاهزية القوة النووية الاستراتيجية الخاصة بها، ما عكس حساسية موسكو الشديدة من أية خطوات تصعيدية أو شبه تصعيدية من جانب حلف الناتو.

وعلى الرغم من أن تدفق الأسلحة الغربية إلى كييف بدأ فعليًا منذ سنوات، وتكثف مطلع العام الجاري، إلا أن قرار الإدارة الأمريكية السبت الماضي بتخصيص مساعدات تسليحية إضافية لأوكرانيا تبلغ قيمتها 200 مليون دولار، جنبًا إلى جنب مع التصاعد المطرد في أعداد المتطوعين الوافدين إلى أوكرانيا، ضاعفت جميعها من التحفز الروسي ضد الخطوات الداعمة لكييف، ودفعت نائب وزير الخارجية الروسي سيرجي ريابكوف إلى التحذير بشكل واضح من أن بلاده ستعد قوافل نقل الأسلحة والأعتدة العسكرية إلى أوكرانيا أهدافًا مشروعة. هذا التحذير تم تنفيذه بعنف بعد يوم واحد فقط من صدوره.

ضربة “يافوريف”… غرب أوكرانيا في دائرة التهديف

قصف مباغت -كما ظهر من ردود الفعل الأوكرانية- تعرض له منذ يومين “المركز الدولي لحفظ السلام والأمن”، وهو الاسم الرسمي لقاعدة التدريب العملياتي المتقدم التابعة لحلف الناتو، والتي تقع في منطقة “يافوريف” التي تعد المركز الإداري لمنطقة “لفيف”، وتقع في شمالها الغربي، على بعد نحو 20 كيلو مترًا من الحدود البولندية. كانت هذه القاعدة بمثابة المعقل الأساسي لوجود المستشارين العسكريين التابعين لحلف الناتو، والذين قدموا منذ عام 2014 مئات الدورات التدريبية للوحدات العسكرية الأوكرانية، وظل هؤلاء المستشارون، وعلى رأسهم أولئك التابعين لقوات الحرس الوطني في ولاية فلوريدا الأمريكية، في أداء مهامهم إلى أن تم سحبهم عشية بدء العمليات القتالية في أوكرانيا.

حدوث هذه الضربة أكده وزير الدفاع الأوكراني أليكسي ريزنيكوف، الذي أكد أيضًا على وجود جنسيات أجنبية داخل القاعدة خلال عملية القصف، وهو نفس ما أكده العقيد أنطوان ميرونوفيتش، مدير الشؤون العامة في أكاديمية الجيش الوطني الأوكرانية، والذي تولى مهمة الإشراف على تدريب وتنظيم المتطوعين الأجانب الذين تحتضنهم هذه القاعدة، إذ أشار إلى أنه يوجد داخل القاعدة مترامية الأطراف نحو ألف متطوع أجنبي، وأن هذه القاعدة تعد المستودع الأساسي الذي يتم من خلاله تجميع وتوزيع الذخائر والأسلحة المرسلة من الدول الأوروبية إلى الجيش الأوكراني.

وطأة هذه الضربة التي أسفرت عن عشرات القتلى  انعكست حتى على التقديرات الأوكرانية لنوعية الأسلحة التي تم استخدامها في قصف القاعدة التي أصابتها أضرار جسيمة جراء هذا القصف، فأشارت هذه التقديرات في البداية إلى أن القصف تم بمقاتلات حربية روسية أقلعت من قاعدة “ساراتوف” الجوية غربي روسيا، نزولًا إلى البحر الأسود، ثم صعودًا نحو غرب أوكرانيا، لكن تحدثت هذه التقديرات فيما بعد أن القصف تم بصلية من صواريخ “إسكندر” التكتيكية التي تعد الصواريخ الباليستية الرئيسة التي تم استخدامها في العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا حتى الآن، بجانب صواريخ “توشكا” التكتيكية الباليستية قصيرة المدى.

بالتأكيد حملت هذه الضربة رسائل لافتة ومهمة من جانب موسكو لحلف الناتو، تعزز الرسالة التي حملها قرار رفع درجة استعداد القوة النووية الروسية. مفاد هذه الرسائل أن كافة المحاولات الأوروبية لمساعد كييف على الصعيد العسكري ستتم مواجهتها بالقوة، حتى لو كانت هذه المحاولات تتم قرب حدود دول حلف الناتو. يضاف إلى هذا المعنى حقيقة أن موسكو باتت تلوح بورقة الاستهداف الشامل للغرب الأوكراني، بهدف منع تحوله إلى بؤرة لضرب القوات الروسية الموجودة في شرق الدنيبر.

هذه النقطة يمكن التوسع فيها بشكل أكبر من خلال العودة إلى تكتيكات القصف الجوي والصاروخي الروسي منذ بدء العمليات القتالية أواخر الشهر الماضي. ففي الأيام الأولى للمعارك، تلقت المدن الرئيسة في غرب أوكرانيا مثل “لفيف” ومحيطها، ومدن “لوستك” و”زاهيتومير” و”فينتيسيا” ضربات صاروخية وجوية متقطعة، تقلصت بشكل كبير خلال الأيام التالية. 

إلا أن سلاح الجو الروسي بدأ منذ السبت الماضي في إعادة استهداف هذه المناطق، فقصف القاعدة الجوية في مدينة “لوتسك” شمال غرب البلاد، وكذلك قاعدة “إيفانو فرانكيفسك” في أقصى الغرب، وهي قاعدة تعرضت لقصف عنيف خلال الأيام الأولى للمعارك، وهو ما يمكن عدّه مؤشرًا قويًا على أن موسكو باتت تضع المنطقة الغربية الأوكرانية في بؤرة الاستهداف، بشكل يضغط أكثر على الحكومة الأوكرانية، ويقلص من هامش المناورة المتوفر لدى حلف الناتو في مساعيه لدعم الجيش الأوكراني بالأسلحة والذخائر.

المنطقة الجنوبية… تأمين الساحل وتهديد المنطقة الغربية

تعد الجبهة الجنوبية من الجبهات الأساسية والمهمة للجيش الروسي في عملياته على الأراضي الأوكرانية، وهي في نفس الوقت الجبهة الأكثر نجاحًا بالمقارنة ببقية الجبهات الأخرى. وقد تمكنت الوحدات العسكرية الروسية المتقدمة في المحور الشرقي لهذه الجبهة “ساحل بحر آزوف” أمس من تأمين كامل مدينة “بيرديانسك” الساحلية التي كانت الوحدات الروسية قد دخلتها بشكل جزئي سابقًا. 

يضاف إلى ذلك تمكن هذه الوحدات من تأمين كامل مناطق مدينة “ميليتوبول”، وأصبح كامل انفتاح القوات في هذا المحور منصبًا على تكريس محاصرة الهدف الرئيس في هذا المحور وهو مدينة “ماريوبول”، وفي نفس الوقت التحرك شمالًا في عدة اتجاهات؛ بهدف الالتقاء شرقًا مع القوات الانفصالية في إقليم “دونيتسك” التي سيطرت مؤخرًا على عدة مناطق شمال مدينة ماريوبول مثل منطقتي “مانجوش” و”فولونفاخا”، وفي نفس الوقت الاقتراب من الحدود الشرقية لمدينة “زابورزاهيا”.

أهمية تأمين مدينة “بيرديانسك” لا تقتصر فقط على الاقتراب حثيثًا من إنهاء معركة مدينة “ميليتوبول”، بل تتضمن أيضًا إيجاد موطئ قدم للبحرية الروسية على الساحل الأوكراني في بحر آزوف، حيث وصلت وحدات من البحرية الروسية إلى ميناء المدينة أمس، وتشمل زوارق هجوم سريع من الفئة “رابتور”، بجانب سفن للإنزال البحري، نفذت مهمة السيطرة على القطع البحرية الموجودة داخل الميناء، بما في ذلك نحو عشرة زوارق تابعة لحرس السواحل الأوكراني، وزورقي دورية ساحلية من الفئة “جروزا-إم”، وزورق قطر وإنقاذ من الفئة “سوريوم”. 

هذه القطع تضاف إلى ما فقدته البحرية الأوكرانية فعليًا منذ بداية العمليات، وتمثل في تدمير سلاح الجو الروسي لزورق دورية من الفئة “إيلاند”، وإعطاب عناصر البحرية الأوكرانية للفرقاطة الوحيدة في ترسانة بلادهم من الفئة “كريفاك-3” أثناء رسوها في ميناء مدينة “ميكولايف”.

في المحور الغربي لهذه الجبهة، بدأت الوحدات البحرية الروسية في التحشد قرب ساحل مدينة “أوديسا” لبدء الهجوم المرتقب عليها، وهو هجوم تم سابقًا خلال الأسبوع الأول من العمليات دون تحقيق النتائج المطلوبة. بريًا، أعلنت أمس الوحدات العسكرية الروسية عن تأمين كامل مدينة “خيرسون” -رغم استمرار التظاهرات المحدودة داخلها احتجاجًا على عزل محافظ المدينة وتعيين إدارة جديدة موالية لموسكو- وهو ما سيسمح لهذه الوحدات بالتركيز على الهدف المرحلي لها في هذا المحور، وهو مدينة “ميكولايف” التي مازالت تخومها الغربية -التي تضم طريق للإمداد- خارج سيطرة القوات الروسية، ما يمنع من محاصرتها بشكل كامل، وبالتالي سيكون التركيز في هذا الاتجاه منصبًا على إكمال الطوق حول المدينة، وكذا السيطرة على المدن الواقعة بين جانبها الشرقي ونهر الدنيبر. 

العمليات في هذا المحور لها أهمية خاصة؛ بالنظر إلى أنها تتم فعليًا في الضفة الغربية لنهر الدنيبر، وهو المحور الوحيد -بجانب المحور الشمالي الغربي للعاصمة كييف- الذي تجري عملياته في الضفة الغربية من النهر. يضاف إلى ذلك حقيقة أن تواصل العمليات في هذا المحور قد يسمح للوحدات الخاصة الروسية الموجودة في منطقة “تيراسبول” في شرق جمهورية مولدوفا بالانضمام إلى القتال، وبالتالي فتح جبهة ضاغطة على مدينة “أوديسا” من الجهة الشمالية الغربية.

الجبهة الشرقية… خطوة أخرى نحو تطويق القوات الأوكرانية في دونباس

تستمر التحركات العسكرية الروسية في الجبهة الشرقية بشكل يبدو من خلاله بشكل جلي رغبتها في حلحلة الجمود الميداني الذي يشوب محور شمال لوهانسك، وذلك عبر التقدم جنوبًا من شرقي مدينة “خاركيف” المحاصرة بشكل شبه كامل، والتوجه نحو المناطق الواقعة جنوبي مدينة “دونيتسك”، لتطويق القوات الأوكرانية التي تقاتل على طول خط الاشتباك بين لوهانسك ودونيتسك. سيطرة القوات الروسية على مدينة “إيزيوم”، شكلت خطوة في هذا المسار، خاصة في ظل عدم إحراز تقدم يذكر في المحاور الأخرى المحيطة بمدينتي “خاركيف” و”سومي”.

ضرورة محاصرة هذا الجيب الأوكراني تظهر بشكل كبير من خلال استمرار عمليات القصف التي تنفذها هذه القوات على معظم مناطق سيطرة القوات الانفصالية في دونباس، خاصة مدينة دونيتسك التي تعرضت لضربة مؤثرة بصاروخ تكتيكي باليستي من نوع “توشكا”، أسفرت عن سقوط عدد من الضحايا، ما حدا بوزارة الدفاع الروسية الإعلان أن الجيش الروسي سيستهدف بشكل مباشر المصانع العسكرية الأوكرانية، وهو ما بدأ بالفعل عبر قصف مصنع “أنطونوف” للطائرات في منطقة “هوستوميل” قرب العاصمة كييف.

فيما يتعلق بالجبهة الشمالية التي تضم العاصمة كييف، فتستمر عمليات القوات الروسية في محيط منطقة “إربين” في المحور الشمالي الغربي للعاصمة، ومنطقة “بروفاري” في المحور الشمالي الشرقي. الملاحظة الأساسية في العمليات الروسية خلال اليومين الماضيين في هذه الجبهة هي محاولة فتح محورين هجوميين جديدين، الأول قرب التخوم الشرقية للعاصمة، وتحديدًا منطقة “بوريسبيل”، والثاني غربي العاصمة في منطقة “ماكاريف”، وهذا المحور يعد ذا اتجاهين، الأول نحو الأحياء الغربي للعاصمة، والثاني على طول خط الإمداد بين العاصمة ومدينة “زاهيتومير”، بما يخدم هدف زيادة الضغط على العاصمة، وفي نفس الوقت التلويح بتوسيع العمليات في الضفة الغربية لنهر الدنيبر.

بشكل عام، يمكن القول إن القوات الروسية في الجبهة الجنوبية باتت على بعد مسافة قليلة من تحقيق السيطرة البحرية على كامل نطاق بحر آزوف، وكذلك تقترب بشكل أكبر من الجائزة الكبرى في البحر الأسود “مدينة “آزوف”، لكنها في نفس الوقت تواجه مقاومة عنيفة في الجبهة الشرقية متعددة المحاور، فضلًا عن أنها في الجبهة الشمالية تحاول المناورة وكسب الوقت بهدف الحصول سياسيًا على ما تريده من ضمانات، دون أن تضطر إلى دخول العاصمة كييف، وهو خيار قد تضطر إليه في النهاية في حالة تعذر الوصول إلى حلول سياسية، وحينها سيكون للوحدات الشيشانية الموجودة قرب العاصمة الأوكرانية كلمة أساسية في هذه المواجهة.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى