الأزمة الأوكرانية

موسكو في مواجهة العالم: قراءة في أبرز مشاهد الحرب الإعلامية

ليس ثمة شك في أن التاريخ بشكل أو بآخر يُعيد تكرار نفسه. فاللعبة تظل دائمًا هي اللعبة نفسها، واللاعبون فقط هم من يتغيرون. وبقراءة موجزة لأحداث جسام عصفت بتاريخ الإنسانية وغيرت معالمه، سنُدرك أن هناك نظام جديد يتشكل لا محالة في أعقاب كل حرب، صغرت أم كبرت. ولأن ما يضمره الإنسان في لحظات الهدوء، عادة ما تكشفه لحظات الانفعال، نعرف إذًا أن الحروب –على سياق أوسع- هي لحظات انفعال الدول والأمم التي تظهر على ملامح وجهها بكل وضوح، كل المساوئ والتناقضات التي لطالما أصر هؤلاء الجالسون على كراسي السلطة إما في التأكيد عليها، أو في إخفاؤها. 

ومن هذا المنطلق، نجد أن حرب اليوم الدائرة بين موسكو من جهة والغرب من جهة أخرى. تُسلط الضوء، بشكل كبير على تفاعلات دولية مماثلة من الماضي من جهة، وعلى مدى ارتباط التحركات السياسية بالقرارات الإعلامية وما يتصل بها من أدوات لها علاقة بطبيعة التغطية ومصطلحات النشر وغيرها من جهة أخرى. كما أنها تطرح العديد من التساؤلات حول كيفية تصرف وسائل الإعلام الغربية في مواقف مماثلة، مع تغير اللاعبين أطراف الأزمة؟ وكيف تعامل الإعلام الروسي نفسه في مواقف مماثلة سابقة؟ في محاولة لتقديم تفسيرات محتملة لأبرز معالم الحرب الإعلامية الحالية.  

دور الإعلام في النظام الدولي: حقبة ما بعد الحرب الباردة

لطالما ارتبطت وسائل الإعلام الدولية الرائدة، التي معظمها وأكثرها شهرة ينبثق رأسًا إما من الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، أو من حلفاء غربيون لها، ارتباطًا وثيقًا بدعم ومساندة التوجهات السياسية لبلدانها بقيادة الولايات المتحدة. فعلى الرغم من أنها وسائل إعلام يصح وصفها بالاحترافية، إلا أن ما يميز احترافيتها هو اعتمادها على تقديم وصياغة الأحداث العالمية، بشكل في ظاهره موضوعي وحيادي، وفي باطنه مؤدلج. 

والشواهد التاريخية على مواقف مماثلة كثيرة يضيق عنها الأفق، مثال على ذلك، الطريقة التي قدمت بها وسائل الإعلام القصف الأمريكي المتواصل على العراق في التسعينيات، باعتباره قصف يسمو إلى أهداف إنسانية سامية لا غنى عنها للولايات المتحدة لأجل حماية أمنها القومي من جهة، وخدمة البشرية وتخليصها من الشرور من جهة أخرى. 

ففي يناير 1993، أمر الرئيس الأمريكي “بوش الأب” بإطلاق 45 صاروخ “توماهوك” على مجمع صناعي قرب بغداد. طال أحد الصواريخ أحد الفنادق العراقية، ليسفر عن وقوع قتلى. وفي حالة أخرى مماثلة، يونيو 1993، أمر الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، بتنفيذ هجوم صاروخي على العراق، فسقط 23 صاروخًا على رئاسة المخابرات بوسط بغداد، وانحرف سبعة منها عن المسار فسقطت على منطقة سكنية، مما أسفر عن وقوع 8 قتلى مدنيين وإصابة العشرات بجراح بالغة.

وفي كلا الحالتين، لم تُقدم وسائل الإعلام الغربية –التي لا تزال في الخدمة حتى اللحظة الراهنة- التغطية الإعلامية المطلوبة منها، رغم وقوع ضحايا تتصل قصصهم بمأساويات إنسانية كان من أبرزها، فيما يتصل بالهجوم الأخير، العثور على رجل وجد قتولاً وهو محتضن ابنه بين ذراعيه. بل والأكثر من ذلك، أن وسائل الإعلام الغربية وقتها، أخذت تبرر الهجوم بنقل تصريحات لوزير الدفاع الأمريكي، “ليس آسبن”، الذي أعلن وقتها أنه كان من المعروف أن الصواريخ لا تخلو من أخطاء فنية، لكن مع ذلك يتم استخدامها لأنها توفر ميزات أمنية عالية على حياة الطيارين الأمريكان. وذهب الإعلام الغربي في تغطية هذه الحادثة إلى ما هو أبعد من ذلك، فقد أثنت الصحافة على تدين الرئيس كلينتون ونقلت عنه لقطات وهو في طريقه إلى الكنيسة وهو يطلق تصريحات مثل، “أشعر بارتياح كبير لما يجري، وأظن أن الشعب الأمريكي يجب أن يشعر بارتياح كذلك”. 

وعلى الرغم من أنه يمكن النظر للارتباط الوثيق بين التغطية الإعلامية التجميلية والتحركات السياسية الأمريكية وتدخلاتها العسكرية في دول أخرى، باعتبارها جزء لا يتجزأ من أسس النظام العالمي الجديد الذي تم إرساؤه فيما بعد انتهاء حقبة الحرب الباردة “1947 -1989م”. إلا أنه من الأجدر القول، أنه يوجد هناك ارتباط وثيق دائم بين أي مركز للسلطة ووسائل إعلامه التي يتم الاعتماد عليها بصفتها أدوات، لا غنى عنها، إما في حروبه أو كضرورة لإقناع شعبه بضرورة سياساته من الناحية الداخلية أو الخارجية. مثال صريح على ذلك، يظهر واضحًا في التبريرات التي صاغها الإعلام السوفيتي لمواطنيه تفسيرًا لاحتلال أفغانستان 1979، والذي قدم مبررات على غرار مواجهة قوى الشر وأشياء ذات صلة بضرورة الحفاظ على الأمن القومي الروسي. 

أبرز محطات الحرب الإعلامية بين موسكو والغرب

من هذا المنطلق، واستحضارًا لقواعد اللعبة السياسية نفسها التي لا تزال، حتى الآن، حاكمة للمواجهات التي يُعاني منها النظام الدولي. نجد أنه من الضروري التوقف بالتساؤل ومحاولة التفسير عند بعض القرارات الأخيرة التي تم اتخاذها من الطرفين بخصوص الإعلام وكل ما يتصل به. وكما يُلاحظ، فهناك سيل من القرارات الغربية الصادرة بحق مقاطعات تتصل بكل ما له علاقة بالاتحاد الروسي. لكن نذكر منها تفصيلاً هنا، عددًا محددًا يتصل بالإعلام وتداول المعلومات، على غرار، القرار الألماني بخصوص منع بث شبكة روسيا اليوم على القمر الصناعي الألماني، الصادر بتاريخ 22 ديسمبر 2021، ويلاحظ هنا أنه كان قرار استباقي قبل بدء الحرب. وردت عليه موسكو، بآخر، مماثل له، عندما أعلنت الخارجية الروسية بتاريخ 3 فبراير 2022، عن وقف البث الفضائي لشبكة “دويتش فيله” الإخبارية الألمانية وإغلاق مكتبها في موسكو. 

ونشرت الخارجية الروسية في وقتها بيانًا، أوردت به “أن موسكو تنفذ المرحلة الأولى من الإجراءات الانتقامية المتخذة ضد شبكة دويتش فيله، والتي تشمل إنهاء البث عبر الأقمار الصناعية وغيره من البث للشبكة التلفزيونية والإذاعية على أراضي الاتحاد الروسي”. كما خرج وزير الثقافة وسياسة المعلومات الأوكراني، “ألكسندر تكاتشينكو”، 13 مارس، مناشدًا مفوض الاتحاد الأوروبي للسوق الداخلية والصناعة وريادة الأعمال والشركات الصغيرة والمتوسطة “تيري بريتون”، بضرورة حظر بث القنوات التلفزيونية الروسية في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي.

كما طالت هذه القرارات المتعلقة بالمقاطعات إعلامية، منافذ الإعلام الروسي عبر مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الشهيرة عبر الإنترنت. وبتاريخ 5 مارس، خرج “إيلون ماسك”، مالك شركة “سبيس إكس” العاملة بمجال الإنترنت عبر الأقمار الصناعية، يرد على مطالبات بعض الدول الغربية له بحجب مصادر الأخبار الروسية، قائلاً عبر تغريدة له، “لن نفعل ذلك إلا تحت تهديد السلاح، عذرًا لكوني أداة مطلقة لحرية التعبير”. 

من ناحية أخرى، ردت موسكو على تقييد موقع “فيس بوك”، لإمكانية الوصول للصفحات الرسمية لمصادر الإعلام الروسية، بأن أعلنت هيئة الاتصالات الروسية، حجب موقع “فيسبوك” اعتبارًا من تاريخ 4 مارس الجاري. وقالت هيئة الاتصالات، في بيان، إن قرار الحجب جاء ردا على قيام الموقع بتقييد الوصول إلى وسائل الإعلام الروسية، وأضاف البيان: “حجب فيسبوك يهدف لمنع انتهاك المبادئ الرئيسية للتدفق الحر للمعلومات ووصول المستخدمين الروس دون عوائق إلى وسائل الإعلام الروسية على منصات الإنترنت الأجنبية”.

وهو القرار الذي علق عليه، رئيس الشؤون العالمية في “ميتا”، “نيك كليغ”، عبر حسابه على تويتر، قائلاً إن “الملايين من الروس العاديين سيجدون أنفسهم، قريبًا، معزولين عن المعلومات الموثوقة، ومحرومين من طرقهم اليومية للتواصل مع العائلة والأصدقاء ويتم إسكاتهم من التحدث علانية”، وأضاف: “سنواصل بذل كل ما في وسعنا لاستعادة خدماتنا حتى تظل متاحة للناس للتعبير عن أنفسهم بشكل آمن “. وكذلك أعرب البيت الأبيض عن “قلق بالغ” بسبب قرار السلطات الروسية بحجب فيسبوك، وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين ساكي للصحفيين، إن “هذا ليس نهجًا جديدًا بالنسبة للسلطات الروسية”، وأضافت: “نحن قلقون للغاية بشأن هذا القرار وكذلك قلقون بشأن التهديد الذي تتعرض له حرية التعبير في روسيا”.

وفي أعقاب ذلك، أعلنت شركة “ميتا”، 11 مارس، عن إتاحة المحتوى العدواني ضد الاتحاد الروسي ردًا على غزو أوكرانيا. وفي اليوم نفسه، أعلن موقع “يوتيوب”، حظر قنوات الإعلام الروسية الممولة من الحكومة بشكل فوري في جميع أنحاء العالم. وبحسب بيان “يوتيوب” الذي نشر على موقع “تويتر”، فإن سبب القرار هو “المبادئ الإرشادية” التي تمنع “التقليل من أهمية” “الأحداث العنيفة” الموثقة. وأضاف البيان: “نقوم الآن بإزالة الفيديوهات المرتبطة بالغزو الروسي على أوكرانيا، والتي تنتهك سياستنا”.  حتى أن هذا القرار بالحظر اشتمل على القناة الروسية الشهيرة “دوجد” المملوكة للفنانة الروسية السابقة “ناتاليا سيندييفنا”، والتي لطالما عُرفت بأنها قناة تقدم محتوى مناهض للحكومة والسلطة الروسية، ولطالما أيضًا أثنى عليها الغرب من ناحية، وواجهت انتقادات روسية من ناحية أخرى.

من ناحية أخرى، قامت روسيا –التي دائمًا ما تُندد بقرارات حظر مصادرها الإعلامية من الغرب- بفرض حظر تلقائي على وصول البث المباشر التابع لأي قناة محلية ناطقة بالروسية خارج نطاق أراضي روسيا الاتحادية. وهو ما يُلقي بظلاله على محاولة تقديم قراءة في تفاعلات “الفعل ورد الفعل” من الحرب الإعلامية بين كافة الأطراف. 

الحرب الإعلامية: قراءة تحليلية في تفاعلات “الفعل ورد الفعل” بين موسكو والغرب

منذ بدايات تعقد أزمات التصعيد الغربي الروسي وكل ما يتصل بها من تطورات، باتت مصطلحات مثل “الإعلام الموجه”، و”أجندة إعلامية”، وغيرها واقع شديد الوضوح ولا شك فيه. غير أنه ينبغي الوقوف هنا عند تفسير التوجهات الإعلامية لكل دولة على حدة، من ثم نندرج منها تفصيلاً للتعرف على طبيعة التوجهات التي يحملها كل إعلام تصدره الدولة وذلك وفقًا للجماهير الموجه لها، مثال على ذلك، الفرق بين أجندة مصادر الإعلام الداخلية لبلدٍ ما، ومصادر الإعلام الموجهة للخارج لنفس البلد. بمعنى آخر، نبحث في الرد على سؤال حول سبب استياء الاتحاد الروسي من حظر وكالاتها الإعلامية في الخارج، بينما تقوم في الوقت نفسه بتقييد إمكانيات الوصول إلى محطاتها الداخلية لكل المشاهدون من خارج حدود الاتحاد الروسي! وهنا يظهر تساؤل “أليس من الأولى بموسكو، محاولة إتاحة وصول المزيد من الجماهير من حول العالم إلى قنواتها الإخبارية؟ بدلاً من تقييد ما هو محلي منها، مقابل محاولة إتاحة ما هو موجه للجماهير الدولي منها أمام الجميع”! 

عادة ما تتخذ القرارات الروسية في تعاملها مع الغرب –حتى فيما قبل اندلاع الحرب- طابع رد الفعل والنِدية. غير أن الرد على التساؤلات الأخيرة يتعدى رغبة موسكو في ممارسة “النِدية” و”المُناطحة” مع الغرب، والسبب يُكمن ببساطة في طبيعة الرسالة الإعلامية الموجهة. بمعنى، أن الدولة الروسية عكفت في مسألة تأسيسها لشبكات إعلامية ناطقة بلغات أخرى، مثل شبكة (روسيا اليوم) التي بدأت أعمالها في 2005، على تبني أجندة محددة تدعم وجهة نظر الدولة الروسية من جهة، وتقوم بالترويج لإنجازات الاتحاد الروسي وسياساته ودعم مواقفه الخارجية من جهة أخرى. 

لذلك، تتعمد الدول الغربية –خلال التصعيد الراهن- على محاربة هذه القنوات وحظر وتقييد الوصول إليها إما عبر مواقع التواصل الاجتماعي العالمية، أو عبر مواقع مقاطع الفيديو التي تتيح خاصية الوصول للبث المباشر من أي مكان في العالم من جهة أخرى. وهو ما يفسر غضب الكرملين في كل مرة يحدث وتقع إحدى وسائل الإعلام تحت طائلة الحظر أو التقييد الغربي، نظرًا، لأن هذه القنوات تم تأسيسها للترويج والدعاية لروسيا في الخارج، والدفاع عن وجهات نظرها. 

وهو ما يأخذنا إلى تقديم تفسيرات فيما وراء تقييد الدولة الروسية نفسها، الوصول لخدمة البث المباشر لأهم وأبرز قنواتها المحلية –التي تبث فقط باللغة الروسية- خارج حدود أراضيها، وعما إذا كان هذا التقييد ينطوي على تناقض واضح في السياسة الروسية. والرد على ذلك، يعود بنا مرة أخرى إلى النقطة المذكورة سالفًا، وهي أن الاتحاد السوفيتي قد تعمد خلال حربه على أفغانستان في التسعينيات الاعتماد على الإعلام لإقناع شعبه بضرورة الحرب وشرعيتها. وفي قفزة سريعة للمستقبل، نجد أن التاريخ لا ينفك يتوقف عن تكرار نفسه. بمعنى آخر، إن وسائل الإعلام الروسية لا تملك الأجندة نفسها عندما تتغير الجماهير. لذلك، يكون من الطبيعي فهم غضب موسكو أثناء محاولة منع أجندتها الإعلامية من الوصول إلى خارج أراضيها. ومن الطبيعي أيضًا فهم، رغبتها في حظر أو تقييد وصول المشاهدين الأجانب إلى قنواتها المحلية الصادرة بالروسية، خارج البلاد، من جهة أخرى. 

ففي الحالة الأولى، يعترض الحظر رغباتها، وفي الحالة الثانية، يُخدم الحظر على سرية المعلومات التي تتاح للمحليين من جهة، ومن جهة أخرى، يعترض الطريق على أي محلل سياسي يرغب في أن يستشف طبيعة التوجهات الروسية من خلال قراءة ما بين السطور لخطاب موسكو الإعلامي المحلي من جهة أخرى. علاوة على ذلك، يقطع هذا النوع من الحظر الطريق على أي معلومة غير مرغوب في خروجها، قد تتسرب بشكل أو بآخر من الشارع الروسي على لسان المذيعين أو الإعلاميين أثناء البث المباشر للقناة. 

كما أن الغرب وآلته الإعلامية من ناحية أخرى – من واقع خبراته السابقة- هو خير من يدرك بوضوح كيف من الممكن تسخير الإعلام بكل ما يندرج من تحته سواء عبر مواقع الانترنت المختلفة أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي تحديدًا، ودورها في تشكيل الوعي، وتوجيه وحشد الجماهير خاصة وأنه يمتلك مفاتيح من الممكن استخدامها عن بعد لتأليب الرأي العام الداخلي على إدارة الرئيس الروسي، “فلاديمير بوتين”، من ناحية، وشحن العالم ضده وحكومته ورجاله من جهة أخرى. ونخلص من كل ذلك، إلى أن الحروب على المستوى التاريخي والعصري، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمصادر الإعلام وهو ما يقودنا إلى استنتاج آخر، وهو أنه لا يوجد في الحقيقة ما يُطلق عليه “إعلام حر”. 

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

داليا يسري

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى