
القطاع السياحي والأزمة الأوكرانية.. تداعيات متوقعة وحلول مطروحة
سجلت حركة الاقتصاد العالمي حالة من الاضطراب المفاجئ إثر العملية العسكرية الروسية على الأراضي الأوكرانية، والتي أعلنت موسكو عن بدئها فجر يوم 24 فبراير 2022، حيث قفز سعر النفط من 99 دولار للبرميل في يوم الاجتياح ليصل إلى 128 دولار يوم 8 مارس الماضي، فيما قفز سعر الغاز الطبيعي ليصل إلى أكثر من 361 دولارًا لكل مليون وحدة حرارية في ذات اليوم.
وكذا، تعرضت الطرق اللوجستية العالمية سواء الجوية منها أو البحرية إلى حالة حصار جزئي، وذلك نتيجة لفرض دول الاتحاد الأوروبي وأمريكا الشمالية وعدد من دول آسيا بالإضافة إلى قارة أستراليا حالة إغلاق شاملة لمجالاتها الجوية أمام الطيران الروسي، وهو ما أدى إلى رد روسيا بقرارات مماثلة. ذلك فضلًا عن قيام العديد من الخطوط الملاحية الكبرى حول العالم بتوقيف حركة ملاحة سفنها إلى روسيا وأوكرانيا؛ خشية تعرض أساطيلها لأي عمل عسكري مضاد، سواء من الجانب الروسي أو الأوكراني، وهو ما بدأ ينعكس على زيادة أسعار المواد الخام والمنتجات النهائية تامة الصنع، ليضع ذلك كافة دول العالم ومن بينها مصر في مواجهة احتمالات التضخم الاقتصادي وازدياد الفقر.
ونظرًا للتشابك بين الاقتصاد المحلي والاقتصاد العالمي، بدأت السوق المصرية على مدار الأيام الماضية في تسجيل احتمالات لتأثر عدد من القطاعات الاقتصادية من جراء الأزمة الأوكرانية الراهنة، ومنها أسعار المواد الغذائية التي ارتفعت بمتوسط عام قدره 20%، فيما ارتفع سعر القمح الذي يُعد أهم السلع الغذائية الاستراتيجية في البلاد وأكثر ما تستورده الدولة المصرية من كل من روسيا وأوكرانيا بنسبة تقارب على 40% ليصل إلى 400 يورو للطن الواحد، وارتفع سعر الحديد بمتوسط 1000 جنيه للطن ليجاوز 15 ألف جنيه مصري، وذلك لارتفاع أسعار الخام القادم من روسيا.
ولقد كان القطاع السياحي أكثر القطاعات الاقتصادية الوطنية تأثرًا بالأزمة الأوكرانية؛ وذلك لتوقف حركة السياحة الوافدة من دولتي روسيا وأوكرانيا، بالإضافة إلى تفضيل السائحين من كافة الجنسيات الأوروبية عدم السفر إلى خارج البلاد في الوقت الراهن كنوع من ترشيد الإنفاق، وتحسبًا لوقوع موجات من ارتفاع الأسعار، وأيضًا لتوقع حدوث انخفاضات في مستويات الدخل.
سوقان مهمان لمنتجعات البحر الأحمر
تمثل السياحة الأوروبية ما نسبته 61% من العدد الإجمالي للسائحين الوافدين إلى مصر سنويًا -انظر الشكل التالي- فيما تتنوع نسب بقية الجنسيات الوافدة بين الدول العربية ودول الأمريكيتين فضلًا عن دول آسيا وأفريقيا. ويحتل السائحون الوافدون من روسيا وأوكرانيا المركز الأول بين كافة الدول المصدرة لحركة السائحين إلى مصر، إذ يمكن لهاتين الدولتين أن تسهما بما مجموعه 3 مليون سائح، ويعد السائحون الروس والأوكرانيون من أهم داعمي الحركة السياحية بمدن البحر الأحمر خاصة شرم الشيخ والغردقة، ويأتي بعدهم السائحون الألمان والإيطاليون والإنجليز الذين يسهمون مجتمعين بما يقارب على مليون سائح سنويًا.
ويفضل السائحون الروس والأوكرانيون القدوم إلى مدن البحر الأحمر خاصة منتجعي شرم الشيخ والغردقة، لوجود عدد من العوامل الطبيعية والترفيهية المميزة التي تتناسب مع طبيعة السائح القادم من تلك الدول، وأول تلك العوامل هو درجة حرارة الطقس المعتدلة، والتي يصل متوسطها إلى 23 درجة مئوية، فضلًا عن تميز الأجواء في تلك المنتجعات بسطوع الشمس الدائم أغلب أيام السنة، واعتدال نسب الرطوبة الجوية والتي لا تجاوز في الأغلب 40%، وأيضًا اعتدال سرعات الرياح التي يبلغ متوسطها 28 كيلومتر/ ساعة.
إلى جانب ذلك تتميز مياه البحر الأحمر بدرجة نقاء عالية، وذلك لتركيز أجهزة الدولة على الحفاظ عليها من أي تلوث ناتج عن صرف المخلفات الصناعية والصحية، فضلًا عن التركيز على الحفاظ على مستعمرات الشعاب المرجانية والتي تكونت على مدار ملايين السنين من محاولات العبث الجائرة والعشوائية.
فيما تتميز منتجعات البحر الأحمر من الناحية الترفيهية بوجود العشرات من مراكز الغوص، والتي تتيح للسائحين استكشاف أعماق البحر وما يزخر به من أحياء مائية وشعاب مرجانية ونباتات نادرة ومتنوعة، إلى جانب استطلاع حطام السفن التاريخية الغارقة بالقرب من السواحل، فضلًا عن الاستمتاع بالرياضات المائية المتنوعة التي تنفذ على سطح الماء، مثل التزلج الشراعي Kiteboarding، والتزحلق على المياه wakeboarding، والرحلات البحرية باليخوت، وصيد السمك الترفيهي.
وتوجد أيضًا مراكز متخصصة في تنفيذ سياحة السفاري والتخييم بالعمق الصحراوي لتلك المنتجعات الساحلية، إذ تركز تلك الأنشطة على استكشاف السائح لأبعاد طبيعية وبيئية جديدة قائمة على معاينة الصحراء والتعايش فيها لفترة قصيرة. إلى جانب ذلك تتوفر بداخل أغلب المنشآت الفندقية، مناطق خاصة بالألعاب المائية Water Parks، وهي ما تتناسب مع رحلات العائلات، والتي يستمتع بها الكبار والصغار على حد سواء، هذا إلى جانب وجود الأسواق الشعبية بكل المدن الشاطئية، والتي تركز على بيع المنتجات التقليدية سواء من العطور أو البهارات أو الملابس وغيرها من المنتجات، وهي ما يهتم السائحون دائمًا باقتنائها، كي تكون تذكارًا لزيارتهم المميزة إلى مصر.
زيادة أعداد السائحين الوافدين من روسيا وأوكرانيا على مدار العقد الماضي كان دافعًا إلى زيادة أعداد شركات الطيران الخادمة لحركة السفر بين مختلف الوجهات في الدولتين وبين مطارات شرم الشيخ والغردقة، ومن أبرزها شركات Egypt air وAir Cairo وairlines Aeroflot وUral airlines وs7 airlines وUkraine International Airlines وSky up team air lines، ولقد دفع التزايد في أعداد السائحين بالدولة المصرية إلى تطوير البنية التحتية الخادمة لحركة السفر والطيران مثل مطار شرم الشيخ الذي أضيفت إليه في صالة ركاب جديدة، لترتفع طاقته الاستيعابية الإجمالية إلى 9 ملايين راكب بنسبة زيادة إجمالية تفوق 22%.
وكان مخططًا خلال السنوات القادمة عمل توسعات جديدة في المطار لترتفع طاقته إلى 10 ملايين سائح سنويًا، بالإضافة إلى ذلك جري دعم مطار شرم الشيخ بمنظومة متقدمة وحديثة من كاميرات المراقبة الأمنية، هذا إلى جانب نظام تحكم إلكتروني بالبوابات عوضًا عن نظام الفتح اليدوي القديم، وماكينات لفحص الحقائب والمنقولات بالأشعة المقطعية، وأيضًا لاكتشاف المتفجرات من المستوى الثالث، وقامت السلطات المختصة برفع طاقة السيور لتصل قدرتها إلى 3600 حقيبة في الساعة.
أزمة استثنائية وتعامل ناجح
قبل اندلاع الأزمة السياسية والعسكرية الأوكرانية في فبراير الفائت، كان هناك العديد من التوقعات المتفائلة التي تفيد باحتمالية بلوغ عدد السائحين الوافدين إلى مصر من كل من روسيا وأوكرانيا أرقام الأعوام 2014 و2019، فقد شهد الأول ذروة أعداد السائحين الروس بـ 3.1 مليون سائح، فيما شهد الثاني ذروة أعداد السائحين الأوكرانيين بـ 1.5 مليون سائح. ولقد ساعد على تأكيد تلك التوقعات ما حققته مصر من خفض كبير في أعداد الإصابات المسجلة بفيروس كوفيد – 19، بالإضافة إلى اتخاذ مجموعة من الإجراءات الاحترازية التي طبقت على أساس عدد من المعاير الدولية التي أطلقتها منظمتا الصحة العالمية والسياحة العالمية التابعتان للأمم المتحددة.
لكن الأحداث السياسية المتسارعة التي شهدتها منطقة شرق أوروبا خلال شهر فبراير، وما تلاها من قيام روسيا بحشد قواتها على حدود أوكرانيا، ثم إعلان اقتحام قواتها الحدود الأوكرانية في صبيحة يوم 24 فبراير 2022، كلها أدت إلى إرباك الحالة السياحية بالمنتجعات السياحية على البحر الأحمر، فالرحلات الأوكرانية الجوية القادمة انخفضت نسبتها الشهرية إلى 30% لتصل في فبراير إلى أقل من 190 رحلة، وذلك بعد أن كان عددها الإجمالي 260 رحلة خلال شهر يناير.
ثم انقطعت تلك الرحلات نهائيًا خلال الأسبوع الأخير من فبراير، حيث لم يعد بإمكانها الهبوط أو الإقلاع من مطاراتها في أوكرانيا، وهو ما أدى إلى عدم وصول السائحين من أوكرانيا إلى مصر، وأدى هذا الاغلاق الجوي أيضًا إلى عدم تمكن السائحين الأوكرانيين الموجودين في كل من شرم الشيخ والغردقة من مغادرة مصر، وهو ما جعلهم في حالة تعلق.
لذلك قامت أجهزة الدولة المصرية بدراسة وتقييم حالة الأزمة التي يمر بها القطاع السياحي في منتجعات البحر الأحمر، وأيضًا دراسة حالة السائحين الأوكرانيين والروس، وهو ما أفضى إلى اتخاذ قرار في يوم 28 فبراير يلزم كافة الشركات والفنادق باستمرار استضافة السائحين الأوكرانيين غير القادرين على السفر، مع التشديد على حسن معاملة كافة السائحين الروس والأوكرانيين، وعدم التقليل من جودة الخدمة المقدمة إليهم، حتى تحين ساعة سفرهم من مصر. ووجهت أجهزة الدولة كافة المشغلين السياحيين المحليين بسرعة التواصل مع منظمي الرحلات الخارجيين لتنسيق عملية سفر هؤلاء السياح العالقين.
الدولة المصرية من جهتها قامت بإجراء عدد من الاتصالات الدبلوماسية مع المسؤولين الأوكرانيين، وذلك على مدار الأسبوع الذي تلى الأزمة، من أجل إجلاء رعايا الدولة الأوكرانية الموجودين في المنتجعات السياحية والمقدر عددهم بأكثر من 17 سائحًا، ليتم نقلهم عن طريق إحدى الشركات الجوية الوطنية نحو عدد من دول الاتحاد الأوروبي المجاورة لأوكرانيا، وذلك كي يكونوا في أمان من أخطار العمليات العسكرية الجارية على أرض دولتهم.
وكذا، تقوم أجهزة الدولة الآن بتسهيل مغادرة السائحين الروس المقيمين في مدينتي شرم الشيخ والغردقة، وذلك قبل حلول منتصف شهر مارس الحالي، إذ يُنتظر أن تعلق شركات الطيران الروسية أغلب رحلاتها الخارجية، بناء على ما تم فرضه من عقوبات غربية على حركة الطيران الروسي.
ولقد حرصت الدولة المصرية في هذا الإطار على تحقيق أقصى درجات التعامل الكريم مع ضيوف مصر من السائحين الأوكرانيين والروس، وذلك لصيانة وحفظ سمعة مصر السياحية الطيبة لدي الرأي العام الأوكراني والروسي خاصة، والرأي العام الأوروبي والدولي عامة، وهو ما سيكون له آثار حميدة على المديين القريب والمتوسط في سرعة إنعاش حركة السياحة في مصر فور زوال الأزمة بإقليم شرق أوروبا.
حلول مطروحة على الطاولة
الأزمة الأوكرانية أعادت التنبيه إلى ضرورة عدم صب كامل التركيز على عدد محدود من الأسواق السياحية، فأي أزمة سياسية أو اقتصادية داخلية تحدث في البلد المصدر للسائحين يمكنها أن تزعزع استقرار القطاع السياحي الوطني، والمثال جلي الآن في الأزمة الأوكرانية الروسية، وكانت هناك نفس العبرة قبل سنوات مع أسواق اوربية أخرى مثل السوق الإنجليزية والألمانيةـ بالإضافة إلى السوق اليابانية.
لذلك يشير عدد من الخبراء السياحيين إلى ضرورة التوجه بشكل سريع ناحية أسواق سياحية يمكن أن نبذل فيها المزيد من الجهود الدعائية لجذب سائحيها نحو المنتجعات المصرية، وذلك لأن الأزمة السياسية والعسكرية في أوكرانيا قد تمتد إلى سنوات، وعليه لن يكون لدى السائحين من هذين البلدين القدرات المالية الكافية للإنفاق على السياحة الخارجية.
ولقد بدأت وزارة السياحة والآثار في دراسة عدد مشابه لتلك الأفكار، ومنها عودة التركيز على الحملات الدعائية لعدد من الأسواق السياحية التقليدية بالسوق المصرية مثل دول وسط أوروبا، والدول الاسكندنافية، وإيطاليا وبريطانيا وسويسرا، لكن وزارة السياحة والآثار لم تصرح إلى الآن عن وجود خطط لجذب السائحين من دول جديدة على السوق المصرية، مثل اقتصادات الدول الناشئة في آسيا وأمريكا اللاتينية، مستغلة بذلك سمعة مصر الطيبة كمقصد سياحي عالمي، وهو ما سيسهل عمليات جذب السائحين من تلك الأسواق.
ولقد أوضحت دراسة نشرها المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية في هذا الإطار أن أبرز الأسواق العالمية المقترحة هي جمهورية الصين الشعبية, حيث بلغ عدد السائحين الصينيين المتوجهين الي الخارج في عام 2019 وحده 155 مليون سائح، وأنفق هؤلاء السائحون ما مجموعه 277.3 مليار دولار. ولقد كان لمصر تجربة ناجحة مع السياحة الصينية في الفترة السابقة على اندلاع جائحة كورونا؛ إذ استقبلت البلاد خلال عام 2019 ما يقارب 800 ألف سائح، وهو ما مثّل في حينها 5% من جملة السائحين الزائرين لمصر في هذا العام، وتميز السائح الصيني بالقدرة العالية على الإنفاق؛ وذلك لارتفاع مستويات دخول هؤلاء السائحين.
وأوضحت الدراسة سالفة الذكر أن السوق البرازيلية التي تعد من أبرز الأسواق السياحية في قارة أمريكا اللاتينية، وكونها السوق السياحية رقم 19 على مستوى العالم، يمكن هي الأخرى أن تمثل فرصة واعدة لدعم القطاع السياحي المصري؛ إذ تصدر 10.73 مليون سائح دولي سنويًا، ويبلغ الإنفاق السياحي للسائحين البرازيليين في الخارج نحو 17.6 مليار دولار أمريكي. ويفضل 20% من هؤلاء السائحين التوجه في إجازاتهم الخارجية إلى دول قريبة جغرافيًا من مصر مثل إسبانيا وإيطاليا والبرتغال، وهو ما يجعل إمكانية جذب شريحة كبيرة منهم أمرًا محتملًا، خاصة وأن الطيران المباشر بين مصر والبرازيل يبلغ مداه 10 آلاف كيلو متر، وهو ما يقارب من مديات الطيران المباشر بين البرازيل ودول شمال المتوسط السابق ذكرها.
ولا يقف التفكير في جذب أسواق جديدة عند الصين والبرازيل، فأسواق جنوب شرق آسيا مثل سنغافورة وماليزيا وإندونيسيا وتايلاند ما زالت واعدة وتحتاج إلى الكثير من المجهودات الوطنية لجذب أكبر عدد من سائحيها المتجهين إلى الخارج، خاصة وأن المناخ الجاف المصري، والبيئة الطبيعية المصرية البحرية منها والبرية لا تتوفر لدى مواطني تلك الدول، بجانب أن التراث المحلي والآثار يعد بالنسبة للمجتمعات الشرقية الآسيوية من العلامات المميزة التي تشابكت في فترات تاريخية سابقة مع ثقافتهم الخاصة، وهو ما يحفزهم على حب استكشافها ومعايشتها، إلى جانب الاستمتاع بالمقومات الطبيعية المصرية السالف ذكرها.
باحث ببرنامج السياسات العامة