
بعد دخولها حيز النفاذ.. لماذا تعد الممرات الإنسانية المشهد الأكثر تفاؤلًا في المفاوضات الروسية – الأوكرانية؟
على الرغم من تعثر المفاوضات بين الطرفين الروسي والأوكراني في كل الجوانب السياسية تقريبًا والتي أدت إلى اندلاع الحرب من الأساس- اتفق الطرفان على إيجاد ممرات إنسانية آمنة لعبور المدنيين في أربع مدن أوكرانية، وسط تعهد من موسكو بوقف إطلاق النيران للسماح بعبور المدنيين بشكل آمن، وهي الدولة صاحبة الخبرة في هذه النوعية من الممرات الآمنة بحكم تجربتها في البوسنة في التسعينيات وفي سوريا لاحقًا.
وعمومًا يشار بمصطلح الممر الآمن إلى منطقة منزوعة السلاح في أوقات الحروب تسمح بعبور المدنيين من المناطق التي تتعرض للقصف وتشهد عمليات القتال لمناطق أخرى تشهد هدوءًا أو لدول الجوار كما هو في الحالة الأوكرانية، وتُستخدم نفس الممرات لنقل المساعدات الإنسانية للمناطق المنكوبة في وقت تكون فيه المدينة محاصرة من قبل قوات عسكرية.
وعلى الرغم من أن الجولة الثالثة من المفاوضات شهدت اتفاقًا بين الطرفين -في وقت طُبق فيه وقف إطلاق النار صبيحة اليوم– إلا أن الأمور ليست دومًا بهذه السلاسة؛ فقد تعثر إجلاء المدنيين من مدينة ماريوبول مرتين على التوالي كان آخرهما يوم الأحد الماضي، وكذلك فشلت عملية الإجلاء من فولنوفاجا.
وإذا كنا نتحدث عن الممرات الآمنة في أوكرانيا فإن عددها ومواقعها والوجهة التي تسير منها وإليها لها دلالات سياسية. وحتى الآن تم الاتفاق بالفعل على أربعة ممرات تنقل المدنيين إما إلى مناطق أخرى داخل أوكرانيا أو إلى وجهة خارجية، على أن تكون الوجهة موسكو أو مينسك، وهو ما يستدل به على أحد أمرين:
- أن كفة الميزان في المفاوضات تميل لصالح الطرف الروسي الذي فرض إرادته بأن الدول التي سيتوجه إليها المدنيون ستكون إما روسيا أو بيلاروسيا وهو ما يرفضه الجانب الأوكراني حتى الآن عن طريق التصريحات؛ إذ إن الممرين الوحيدين اللذين يقودان الأوكرانيين إلى خارج البلاد واحد يؤدي إلى بيلاروسيا، أما الممر الجوي فيؤدي إلى روسيا فقط وهو ما وصفه الجانب الأوكراني بأنه غير أخلاقي لأن الدولتين في حالة نزاع مع أوكرانيا، وبالتالي فهي محاولة لإحداث خلل في ديموغرافيا أوكرانيا- وعلى ذلك فإن الممرات الآمنة تنقل المدنيين من خاركيف وماريوبول وسومي وفولنوفاجا وزابوريزهيا والمنطقة الواقعة في غرب العاصمة كييف. وذلك في الوقت الذي صرح فيه كبير الدبلوماسيين في أوروبا جوزيب بوريل بأنه من المتوقع أن يفر ما يصل إلى 5 ملايين أوكراني من البلاد.
- أو أن دول الجوار الأوروبي “ترفض” استقبال المزيد من اللاجئين الأوكرانيين بشكل غير منظم، والمفهوم من ذلك بطبيعة الحال أنها تريد وضع النظام الروسي في مأزق “قصف المدنيين” ورفع الحرج عن نفسها في رعاية المزيد من اللاجئين.
والمتابع لتطورات الحرب في أوكرانيا يلاحظ اهتمامًا كبيرًا بمسألة المدنيين، سواء قبل اندلاع الحرب – حين أكد الجانب الروسي أن تدخله يأتي بشكل أساسي هو محاولة لإنقاذ المدنيين ذوي الميول الروسية والذين يتعرضون لحملات قمع ممنهجة منذ عام 2014 أدت في النهاية إلى مقتل 13 ألف منهم حسب تقديرات الأمم المتحدة- ومنذ اندلاع الحرب كان أكثر ما اجتذب الاهتمام الإعلامي هو أوضاع المدنيين وتحذيرات المنظمات الدولية التي قالت إن أوروبا ستشهد أسوأ أزمة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية بما سينتج عن استهدف المدن الأوكرانية من وجود حوالي 5 مليون نازح، وهر رقم ضخم جدًا.
حتى أن الأمر كان حاضرًا للنقاش في محاولات وساطة الجانب الفرنسي؛ إذ صرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن إجلاء المدنيين بشكل آمن كان حاضرًا في اتصالاته مع الرئيسين بوتين وزيلنيسكي، إذ طالب ماكرون الجانب الروسي بالإعلان عن وقف إطلاق للنيران وإدخاله حيز التنفيذ يوم الاثنين في محاولة لإنجاح جهود الوساطة، على الأقل فيما يتعلق بالحفاظ على أرواح المدنيين بعد تبادل الطرفين الروسي والأوكراني للاتهامات.
فمن ناحية تتهم كييف بوتين بمحاولة إحداث خلل في التركيبة السكانية في أوكرانيا عن طريق السماح بنقل المدنيين لروسيا وبيلاروسيا فقط، بجانب أنها تستمر في قصف المدن مما يحول دون نقل المدنيين. فيما اتهمت موسكو الرئيس الأوكراني بأنه يعرقل خروجًا آمنًا للمدنيين لاستخدامهم كدروع بشرية في تأمين المدن الأوكرانية والترويج بعد ذلك لأن روسيا تستهدف المدنيين.
ولكن أبدت موسكو حسن النية عندما أكدت أنها ستسمح بتصوير الممرات من جانب الطرف الأوكراني عن طريق استخدام الطائرات بدون طيار والتأكد من أنه لا يتم قصف الممرات الآمنة المخصصة لعبور المدنيين، خصوصًا بعد اتهامات الرئاسة الأوكرانية لبوتين بأنه يحاول تضليل الغرب والتدليس عليهم بالإعلان عن نقل المدنيين إلى روسيا وبيلاروسيا. وأشارت الدفاع الروسية من جانبها إلى أنه سيتم إرسال جميع المعلومات المتعلقة بإنشاء الممرات الإنسانية في أوكرانيا إلى الأمم المتحدة، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، واللجنة الدولية للصليب الأحمر والمنظمات الدولية الأخرى. ووسط الاتهامات المتبادلة بين الطرفين يمكننا أن نفهم جدلية الممرات الآمنة من خلال استعراض وجهة نظر الطرفين:
- وجهة النظر الروسية: يمكن تلخيصها في أن سماحها بنقل المدنيين إلى روسيا وبيلاروسيا يدعم حجتها في أن العملية العسكرية التي نفذتها والتي دفعت بأن الهدف منها كان حماية المدنيين ذوي الانتماءات الروسية الذين يتم استهدافهم من قبل القوميين الأوكرانيين. بمعنى آخر فإن هدفها ليس احتلال الأراضي الأوكرانية وإعادة الأمجاد السوفيتية كما تروج آلة الإعلام الغربية.
- من جهة أخرى فإن وجود عدد لا يستهان به من المدنيين الأوكرانيين الذين فروا من الأراضي الأوكرانية ووجدوا الملاذ الآمن في روسيا يشكل ورقة ضغط مهمة في أي مفاوضات مستقبلية- بمعنى هل سيتم السماح بعودة المدنيين الأوكرانيين إلى الأراضي الأوكرانية بعد انتهاء الحرب، أو هل سيرغبون هم في العودة، وما ينشأ عن ذلك جدليات تتعلق بالحالات الإنسانية ولم الشمل وغيرها، وما يشكله ذلك من تأثير حتمي على ديموغرافيا السكان في أوكرانيا.
- تمتلك موسكو خبرة في مجال فتح الممرات الآمنة –كان أقربها من ناحية النطاق الزمني الحرب في سوريا– حيث عمدت القوات الروسية بالتعاون مع الجيش السوري إلى محاصرة المدن التي تضم قوات المعارضة لفترات تراوحت بين أشهر وسنوات، وهي الاستراتيجية التي سمحت لها باستهداف البنية التحتية وإسقاط تلك المدن بعد أن سمحت بمغادرة المدنيين وحتى المقاتلين الذين يعلنون استسلامهم من خلال ممرات إنسانية، وهي نفس الاستراتيجية التي يتم تطبيقها في أوكرانيا اليوم. وما ينبغي الإشارة إليه هو أن استراتيجية الممرات الآمنة في سوريا كانت فعالة في سيطرة النظام على مناطق المعارضة.
- وجهة النظر الأوكرانية: وإذا كنا قد عرضنا لوجهة النظر الروسية- فبعرض اتجاهات التفكير الأوكرانية نكون قد لخصنا لماذا يُستخدم المدنيون كورقة خلال هذه الحرب؛ فكييف ترفض من جانبها أن يتوجه مواطنوها من المدنيين العُزّل إلى مينسك أو موسكو بوصفهما دولتين معاديتين. وبدلًا من ذلك فهي تفضل بقاءهم في الأراضي الأوكرانية، وهو الأمر الذي لا يمكن تبريره من الناحية الإنسانية بحال من الأحوال؛ لأن بقاءهم يعني أمرًا من اثنين، إما تركهم في الملاجئ ومحطات قطار الأنفاق ليتم قصفهم من الجانب الروسي ثم الترويج بعد ذلك لوحشية النظام في موسكو، أو الدفع بهم في حرب عصابات مع القوات الروسية. وبطبيعة الحال فهو طرح غير أخلاقي لأنهم غير مدربين على القتال وإن حملوا الأسلحة. ولكن على الجانب الآخر فإنه لا ينبغي أن تكون مسألة الممرات الإنسانية “كارتًا أخضر” يسمح لموسكو بإخلاء المدن لاستخدام القوة الغاشمة.
- على جانب آخر، لا يمكن غض الطرف عن الدعوات التي وجهها فلوديمير زيلينسكي في الأيام الأولى للحرب والتي دعا فيها المدنيين إلى حمل السلاح والاشتباك مع القوات الروسية، وذلك في الفئة السنية من سن 18 وحتى 60 عامًا، وبالتالي فإن إجلاء المدنيين يكون مقصورًا على كبار السن والأطفال والسيدات الحاضنات.
- وفي هذا الصدد ترتكن أيضًا وجهة النظر الأوكرانية إلى أن الممرات الآمنة التي دشنتها موسكو في سوريا خلال الحرب هناك لم تكن آمنة وكان يتم استهداف المدنيين من خلالها حسب شهود عيان. وهو الدفع المردود عليه؛ لأنه لو كانت تلك هي القاعدة فعلًا فكيف وصل حوالي 3 مليون نازح سوري إلى الدول الأوروبية وغيرها.
- من جانب آخر، فإن رفض الجانب الأوكراني لنقل المدنيين إلى مينسك وموسكو في الوقت الذي لا ترى فيه كييف حرجًا من نقلهم إلى دول الجوار الأوروبي يقوض أي حديث أوكراني عن دعوى تغيير التركيبة السكانية في أوكرانيا، ويلفت الأنظار إلى اتجاه آخر يميل له الطرف الأوكراني في الوقت الحالي وهو أن وجود عدد من المواطنين الأوكرانيين في دول الجوار الأوروبي يشكل قاعدة جماهيرية غاية في الأهمية تمهد بشكل أساسي لتشكيل حكومة أوكرانية في المنفى.
- وبمنطق الأمور فإنه ليس أفضل من أوروبا لاستضافة حكومة أوكرانية موازية. وهو ما انعكس على ما أعلنه عمدة مدينة سومي، ليسينكو ألكسندر نيكولايفيتش، مع قائد الكتيبة الوطنية، حينما قال “لن تكون هناك ممرات خضراء، ولن يذهب أي مدني إلى روسيا، وأولئك الذين يحاولون القيام بذلك سيتم إطلاق النار عليهم”، بحسب تقرير لوكالة سبوتنيك الروسية.
وإجمالًا، لا ينبغي النظر إلى اتفاق الأطراف على الممرات الآمنة بتفاؤل مبالغ في كمه واتجاهه؛ وذلك لأنه ليس مقدمة لحدوث انفراجة في الأمور بشكل عام، فما تم الاتفاق عليه بعيد كل البعد عن أي أمور سياسية عالقة كانضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، وكذلك نزع سلاحها، واعترافها باستقلال دونيتسك ولوهانسك وبالسيادة الروسية على شبه جزيرة القرم؛ لأن هذه الأمور هي الشغل الشاغل لموسكو وهي التي سوف تستهلك مستقبلًا الجزء الأكبر من الوقت والجهد، بل على العكس، فإن السعي إلى نقل المدنيين إلى مناطق أخرى عبر ممرات آمنة يؤكد أن الوصول إلى تسوية تشمل وقف إطلاق النار لا يزال بعيدًا.
باحث أول بالمرصد المصري