
الخطى المصرية للتحول إلى ممر دولي للبيانات وتوطين صناعة مراكز البيانات
يعتبر العالم الاتصال عبر الإنترنت أمرًا مفروغًا منه اليوم، دون إيلاء اهتمام كبير للعمود الفقري الذي يقود هذا الأمر. ففي الواقع، لا يعرف الكثير من الناس أن 97٪ من الاتصالات العالمية يتم نقلها عن طريق الكابلات البحرية وليس عبر الأقمار الصناعية كما يُعتقد عمومًا. والآن تفصلنا قرابة 170 عامًا عن أول كابل بحري ناجح تم تثبيته عبر المحيط الأطلسي لبث إشارات التلغراف.
ورغم التطور التكنولوجي خلال هذه الفترة، وانتشار الأقمار الصناعية لنقل الانترنت بين دول العالم، إلا أن الكابلات البحرية ما زالت الخيار الأبرز في نقل المعلومات بين دول العالم- باستثناء القارة القطبية الجنوبية والتي تمتلك إنترنت لا سلكيًا نتيجة تفرق سكانها وحركة الجرف الجليدي التي تصل إلى 10 أمتار/سنة وهي بيئة صعبة للغاية. ويرجع استخدام هذه الكابلات إلى سبب بسيط، وهو أن انتقال المعلومات عبر كابلات الألياف الضوئية يكون أسرع وأرخص بكثير من انتقال الرسائل عبر الأقمار الصناعية أو عبر موجات الأثير.
ويصل طول الكابل البحري الواحد إلى آلاف الكيلو مترات، وقد يأخذ الكابل مسارًا بحريًا فقط أو مسارًا متنوعًا بين المسارات البرية والبحرية. إلا أن الكابلات البحرية تتعرض لمخاطر متنوعة تتسبب في تلفها جزئيًا أو كليًا، وهذه المخاطر تتنوع بين مخاطر طبيعية كالحركات الأرضية والزلازل والبراكين التي تحدث تحت سطح الماء، أو نتيجة فعل بشري جراء عمليات الصيد بطرق غير سليمة، أو نتيجة حركة السفن ومراسيها، وإلى ذلك الأعمال التخريبية المتعمدة، كما هو الأمر في النزاعات الدولية والحروب والهجمات الإرهابية. هذا بخلاف التلفيات التي قد تسببها الكائنات البحرية وخاصة أسماك القرش.
وأي تلف في هذه الكابلات قد يؤدي إلى انقطاع خدمات الانترنت والكهرباء عن دول بأكملها، إلا إن هذا التقرير سيركز على بيانات الكابلات الخاصة بنقل البيانات، لذا ضمان تأمين الكابلات البحرية وصيانتها أمر بالغ الأهمية والخطورة؛ فبين لحظة وأخرى قد تصبح دولة –أو عدة دول- بمثابة جزيرة معزولة أو مظلمة نتيجة انقطاع كابل بحري. خاصة وأن عملية إصلاح الكابلات البحرية أمر شاق وتصل تكلفته إلى عشرات الملايين من الدولارات، فيجب أن تتم عملية الإصلاح من خلال سفن وغواصات مخصصة لهذا الأمر، ومن خلال فرق عمل مدربة على عملية الإصلاح بدقة وسرعة عالية.
المزايا النسبية
وتعد مصر من الدول الرائدة التي يمر من خلالها عدد هائل من الكابلات البحرية، وذلك نتيجة لموقعها المتميز جغرافيًا، فهي تربط بين أوروبا وآسيا وأفريقيا، وذلك بخلاف إطلالها على البحرين الأحمر والمتوسط تربطهما قناة السويس، وهو ما يجعلها نقطة مثالية لمرور الكابلات البحرية. وذلك بخلاف تمتعها بمزايا تنافسية كبيرة كتوافر مصادر الطاقة والكهرباء وخدمات الفايبر والبنية التحتية.
وهذا الأمر الذي جعلها في المركز الثاني بعد الولايات المتحدة من حيث عدد الكابلات البحرية التي تمر خلالها، فيمر بمصر 13 كابلًا منها 11 كابلًا يربط بين الشرق والغرب، وجارٍ إنشاء 5 كابلات بحرية أخرى لتدخل الخدمة بحلول عام 2023-2024، بما يمثل 17% من جميع الكابلات البحرية حول العالم. وينتقل عبر مصر أكثر من 100 تيرا بايت من البيانات تمثل أكثر من 90% من البيانات القادمة من آسيا إلى أوروبا والعكس.
وتوفر مصر مسارات من كابلات الألياف الضوئية العابرة داخل مصر لخدمة مرور البيانات الدولية عبر أراضيها بشكل مؤمن من خلال شبكة يبلغ طولها ما يزيد على 4 آلاف كيلو مترًا مربعًا، وتحمل مئات التيرابايت من سعات الانترنت بين الشرق والغرب. وقد تمت زيادة عدد محطات إنزال الكابلات البحرية الدولية من 6 محطات إلى عشرة محطات إنزال خلال العام الماضي، بما يتيح لها الربط بين أكثر من ٦٠ دولة ودعم خدمات الاتصالات والإنترنت حول العالم. هذا بجانب المخطط الطموح لمسارات الربط ومحطات الإنزال المستقبلية بشبه جزيرة سيناء الذي يوفر تنوعًا جغرافيًا متميزًا، ويعمل على تعظيم القيمة المضافة لعملاء الكابلات البحرية الجديدة.
وبالإضافة إلى ذلك، تم العمل على نمذجة وزيادة الطاقة الاستيعابية لمحطات الإنزال الحالية على البحرين الأحمر والمتوسط، في الزعفرانة بالغردقة، وأبو تلات بالإسكندرية؛ لاستيعاب زيادة حركة البيانات العالمية التي يتم نقلها على الكابلات الحالية.
ويعمل مرور الكابلات البحري على توفير خدمات إنترنت عالية الاعتمادية لكل الدول التي توجد بها نقاط إنزال خاصة بالكابل، الأمر الذي يسهم في تعزيز قدرة هذه الدول على تقديم الكثير من الخدمات المعتمدة على الإنترنت بكفاءة عالية، مثل خدمات التعليم والرعاية الصحية والأنشطة التجارية، وتحقيق فوائد اقتصادية واجتماعية كبيرة نتيجة هذا الربط الدولي.
وقد شهد قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات خلال السنوات القليلة الماضية طفرة حقيقية فيما يتعلق بجذب الاستثمارات الأجنبية وتعزيز دور مصر كمركز إقليمي للصناعة، وممر دولي للبيانات، وتوطين صناعة مراكز البيانات -هو مرفق مادي تستخدمه المؤسسات لاستضافة التطبيقات والبيانات المهمة، حسبما توضح شركة سيسكو– التي تعد أحد أهم الصناعات الواعدة التي تسهم في تحقيق نمو اقتصادي.
وقد عززت الشركة المصرية للاتصالات نشاطها في مجال تمرير وحماية الكابلات البحرية الدولية، فأنفقت ١٫٧ مليار جنيه خلال السنوات القليلة الماضية لتطوير بنية تحتية عصرية تشجع الشركات العملاقة على الشراكة معها في مجال الاتصالات الدولية ومراكز البيانات، على رأسها شركة جوجل العالمية، حتى إنها أصبحت تمتلك 7 مراكز للبيانات داخل القاهرة الكبرى والإسكندرية.
وتوفر الشركة المصرية للاتصالات بنية تحتية متطورة للمجتمع الدولي من خلال خدمات الربط لأكثر من 140 نقطة إنزال في أكثر من 60 دولة. إذ تستثمر على نطاق واسع في البنية التحتية لأنظمة الكابلات البحرية لتوفير أقصر الطرق وأكثرها اعتمادية للربط بين آسيا وأفريقيا وأوروبا. من خلال تطوير التنوع الجغرافي للبنية التحتية الدولية على عدة أصعدة منها إنشاء محطات إنزال ومسارات جديدة لعبور الكابلات البحرية، بجانب زيادة استثماراتها في أنظمة الكابلات الجديدة، والحلول المتطورة من أجل مواكبة الطلب العالمي المتزايد على خدمات الربط الدولية، وللاستفادة الكاملة من حصتها من هذه الكابلات.
وبالفعل بدأت المصرية للاتصالات إحلال الكابلات الضوئية محل الكابلات النحاسية التقليدية خلال السنوات الأخيرة. وهو ما أسهم في استقرار خدمات الإنترنت خلال فترة الإغلاق وحظر التجول رغم تزايد الضغط على الشبكة. وأسهمت الشراكات ومشروعات قطاع الاتصالات الأخيرة في كون قطاع الاتصالات من أكثر قطاعات الدولة نموًا بمعدل نمو 16%؛ ويسهم في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4.5%؛ ويشهد ارتفاعًا مستمرًا في أعداد المتخصصين العاملين فيه بنسبة زيادة 10% سنويًا.
وبالرغم من أنه لا توجد بيانات تفصيلية مؤخرًا عن عائدات مرور والاستثمار في مجال الكابلات البحرية، إلا أن الدكتور عمرو طلعت وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات كشف في أكتوبر 2018 عن أن عائدات الشركة المصرية للاتصالات من الاستثمار في مجال الكابلات البحرية تصل إلى 100 مليون دولار، وتستهدف التوسع ومضاعفة الاستثمارات من حركة مرور البيانات، وذلك تعليقا على توسع الشركة المملوكة للدولة بنسبة 80% في مشروعات الكابلات البحرية واستحواذها على شركة “مينا كابل” لصناعة الكابلات البحرية.
فيما تكهنت دراسة أجرتها شبكة الكابلات البحرية، بأن رسوم مرور الكابلات ساهمت بنسبة تتراوح ما بين 6.62% و17.39% من الإيرادات بين عامي 2008 و2019. ووفقا للبيان الذي أرسلته الشركة المصرية للاتصالات لإدارة البورصة المصرية، فإنها حققت إيرادات تزيد علة 2.9 مليار جنيه من رسوم مرور الكابلات هذه في العام المالي 2019، ومثّلت هذه الإيرادات 10% من أرباح الشركة في الربع الأول من عام 2020.
وبعيدًا عن العوائد المالية المباشرة من عبور هذه الكابلات للأراضي المصرية، فلها عوائد أخرى غير مباشرة؛ كاستحداث مهن مختلفة تتعلق بصناعة وتركيب وصيانة الكابلات البحرية، واستيراد الغواصات المتخصصة في ذلك، هذا بخلاف إنشاء مراكز للتدريب على كل هذه المهن لإعداد أجيال من الفنيين والمهندسين يلبون الاحتياجات المحلية وتصدير هذه العمالة إلى الخارج.
أبرز التحالفات المصرية
شاركت مصر في عدد من تحالفات الكابلات البحرية، وتسعى إلى مزيد من التحالفات في هذا المجال، وتوسيع وتنويع النطاق الجغرافي للشراكات. ويعد آخر هذه التحالفات مذكرة التفاهم بين الشركة المصرية للاتصالات، وشركة جريد تليكوم التابعة للمشغل اليوناني المستقل لنقل الكهرباء IPTO -تمتلك بنية تحتية من شبكات في كل من إيطاليا والبلقان وأوروبا الوسطى- وذلك للربط بين مصر واليونان باستخدام أنظمة الكابلات البحرية.
وسيسهم هذا التعاون الاستراتيجي في تمكين المصرية للاتصالات من العمل على توسيع نطاق خدماتها المقدمة داخل قارة أوروبا عبر شبكة جريد تليكوم الممتدة داخل اليونان وخارجها. ويتم التخطيط لإطلاق كابل HARP الذي يمتد حول قارة أفريقيا بحلول عام 2023، وسيربط البلدان الأفريقية الساحلية وغير الساحلية بأوروبا من خلال البنية التحتية الأرضية وتحت سطح البحر. ومن أبرز التحالفات المصرية في هذا المجال ما يلي:
- تحالف 2Africa : هو أكبر أنظمة الكابلات البحرية في العالم؛ إذ يربط 33 دولة في إفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا، ويبلغ إجمالي عدد مواقع الإنزال الخاصة بالكابل 35 موقعًا في 26 دولة، بما يسهم في تحسين خدمات الاتصالات داخل وخارج القارة الإفريقية، ويضم كلًا من شركة الصين الدولية لخدمات المحمول (China Mobile International)، وفيسبوك، وشركة إم.تي.إن جلوبال كونكت (MTN Global Connect) ، وشركة أورانج الفرنسية، وإس تي سي السعودية (stc)، والشركة المصرية للاتصالات، وشركة فودافون العالمية، وشركة الاتصالات الأفريقية وايوك (WIOCC).
وفي 28 سبتمبر 2021 أعلن التحالف إضافة قطاعات جديدة كتمديد إلى الخليج العربي والهند وباكستان. ليصل طول الكابل إلى 45 ألف كيلو متر، مما يجعله أطول نظام كابل تحت سطح البحر تم نشره على الإطلاق. ويهدف إلى توفير مسار جديد يربط بين البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط ، للمرة الأولى منذ أكثر من عقد، إلى جانب مسارات برية موازية لقناة السويس، وذلك باستخدام تكنولوجيات جديدة تسمح بنشر ما يصل إلى 16 زوجا من الألياف بدلا من ثمانية، وسيكون قادرا على نقل ما يصل إلى 180 تيرابت في الثانية.
وفيما يخص مسارات العبور الأرضية من خلال جمهورية مصر العربية، فقد تم الانتهاء من تنفيذ تلك المسارات قبل موعد التسليم المحدد، وتعد هذه المسارات أحد أهم أجزاء مشروع الكابل البحري 2Africa؛ إذ إنها تربط بين محطات الإنزال للكابل على كل من البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط من خلال مسارين أرضيين جديدين ومتنوعين تمامًا، وسيتم كذلك إضافة مسار بحري ثالث عبر البحر الأحمر من أجل توفير مزيد من التنوع. ومن المتوقع دخول الكابل الخدمة بنهاية عام 2023.
- ميدوسا: أحد أكبر أنظمة الكابلات البحرية في البحر الأبيض المتوسط. ويبلغ طول نظام الكابل البحري ميدوسا 8760 كم، ويحتوي على 24 زوجًا من الألياف بسعة 20 تيرا بايت في الثانية لكل زوج، ومن المخطط إنشاؤه لربط الشواطئ الشمالية والجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، وتصل نقاط إنزال الكابل إلى 16 نقطة مرورًا بالعديد من الدول مثل البرتغال والمغرب وإسبانيا والجزائر وفرنسا وتونس وإيطاليا واليونان ومصر.
ويعد النظام البحري “ميدوسا” من أحدث أجيال الكابلات البحرية التي تتبع خاصية الوصول المفتوح Open Access. ويستهدف المشروع الجديد مواجهة التحديات الحالية التي تواجه ربط الكابلات البحرية من خلال إنشاء مسارات جديدة لتنويع حركة البيانات وتقليل ازدحامها، واكتساب سعات أكبر من خلال زيادة عدد أزواج الألياف لكل كابل، مع تعزيز خاصية الوصول المفتوح إلى جميع محطات الإنزال الأوروبية.
- SEA-ME-WE 5: وهو نظام كبل بحري بطول 20000 كيلومتر يربط 17 دولة من خلال نقاط إنزال من سنغافورة إلى الشرق الأوسط إلى فرنسا وإيطاليا في أوروبا الغربية، مع قدرة تصميم أولية للنظام تبلغ 24 تيرا بايت في الثانية لأكثر من 3 أزواج من الألياف.
- Asia-Africa Europe 1: هو كابل بحري بطول 25000 كيلومتر يمتد من جنوب شرق آسيا إلى أوروبا عبر مصر، ويربط بين هونغ كونغ وفيتنام وكمبوديا وماليزيا وسنغافورة وتايلاند والهند وباكستان وعمان والإمارات وقطر واليمن وجيبوتي والمملكة العربية السعودية ومصر واليونان وإيطاليا وفرنسا. وتم تصميم الكابل بطاقة 100 جيجابايت في الثانية، مع سعة جذع مصممة لأكثر من 40 تيرا بايت في الثانية على 5 أزواج من الألياف.
- MENA: هو نظام كابل اتصالات بحري بطول 8800 كم يربط إيطاليا ومصر والمملكة العربية السعودية وسلطنة عمان والهند. ويتكون من ستة أزواج من الألياف، تم تصميمها مبدئيًا بتقنية 96 * 10 جيجابت في الثانية DWDM وسعة إجمالية للنظام تبلغ 5.76 تيرا بايت في الثانية، قابلة للترقية إلى تقنية 100 جيجابت في الثانية.
ختامًا، يمكننا القول إن الدولة المصرية تبوأت مكانة جيدة في مجال مرور الكابلات البحرية، باحتلالها المركز الثاني عالميًا، ويمكنها جني المزيد وصولا إلى أن تكون ممر ومركز إقليمي لمراكز البيانات. لكن هذا الطريق ليس مفروشًا بالورود؛ فمصر تواجه منافسة قوية في مجال الكابلات البحرية من قبل عدة دول أبرزها: المغرب التي تسعى إلى الاستفادة من قربها من أوروبا، إلى جانب المنافسة الشديدة بالفعل من إسرائيل.
باحث أول بالمرصد المصري