
التوقيت الحيوي … دلالات زيارة الرئيس السيسي إلى الرياض
لعل من أهم السمات التي تتسم بها العلاقات بين القاهرة والرياض -خاصة في حقبة ما بعد ثورة 30 يونيو 2013- هي تفاعلها الدائم والسريع مع المتغيرات الإقليمية والدولية، والتي أصبحت تؤثر بشكل كبير على الواقع العربي، وهو ما وضع بشكل تدريجي أسسًا لتضامن عربي يمكن البناء عليه لتشكيل “منظومة أمان” تقي الدول العربية وشعوبها الآثار السلبية للتغيرات المتقلبة في موازين القوى الدولية، وبروز واقع دولي جديد ربما يمهد لحقبة سياسية واقتصادية جديدة كليًا.
في هذا الإطار، تأتي زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي اليوم إلى العاصمة السعودية الرياض، والتي تحمل في ثنايا أجندتها مجموعة من الملفات الثنائية والإقليمية والدولية، في نموذج يتم تكريسه سنة بعد أخرى، لكيفية تعاون الدول العربية وتواصلها على كافة المستويات. توقيت الزيارة بطبيعة الحال يرتبط بالملف الدولي الأهم والأكبر، وهو ملف دخول القوات الروسية إلى الأراضي الأوكرانية الذي أدى إلى سلسلة من التداعيات التي سيكون لها انعكاسات سلبية على المنطقة العربية والشرق الأوسط.
الأزمة في شرق أوروبا وتداعياتها على المنطقة العربية
وحدة الموقف العربي إزاء هذه الأزمة كانت من ملامح تعاظم التأثير المصري على القرار العربي الجمعي، فقد جاء الموقف العربي في هذا الملف -سواء على مستوى التصريحات الرسمية أو التفاعلات داخل أروقة المؤسسات الدولية- متوازنًا بشكل كبير، ومتوافقًا مع الرؤية المصرية – السعودية المتعلقة بضرورة تجنب الخيارات العسكرية، وإدانة كافة أشكال التدخل العسكري الخارجي في شؤون الدول.
هذه الرؤية تنبع بطبيعة الحال من الموقف المصري التاريخي حيال هذا المبدأ، والذي تمثل بوضوح من خلال مشاركتها في عمليات “تحرير الكويت” عام 1991، والتي كانت فيها جنبًا إلى جنب مع الأشقاء في الخليج العربي، لتصحيح وضع نتجت عنه تداعيات مدمرة وممتدة على الأمن القومي العربي، مازالت آثارها ماثلة للعيان حتى اليوم.
لكن ملف الحرب في أوكرانيا لا يقتصر فقط على الجانب المتعلق بهذا الأمر، بل يتضمن أيضًا مخاوف تتعلق بالتأثيرات الاقتصادية والجيوسياسية السلبية على المنطقة العربية بشكل عام، فسياسيًا ستتأثر المنطقة العربية -بدرجات متعددة- بمراحل ومآلات المواجهة الحالية بين روسيا والغرب، خاصة في ظل احتمالات دخول أطراف أخرى -مثل الصين مثلًا- إلى هذه المواجهة، ونشوء بؤرة صراع جديدة في بحر الصين الجنوبي ومحيط تايوان.
أما على المستوى الاقتصادي، فتبدو الضرورة ملحة لبحث كيفية تقليل الآثار التي ستطرأ على إمدادات القمح الواردة من أوكرانيا وروسيا للمنطقة العربية، ناهيك عن تأثر حركة الملاحة الدولية بهذه الأزمة، وبالتالي ارتفاع تكاليف النقل والشحن حول العالم، ومن ثم زيادة أسعار السلع والخدمات. يضاف إلى ذلك أهمية تشاور كلا البلدين حول الإجراءات التي سيتم اتخاذها لمواجهة التأثيرات السلبية على إمدادات الطاقة حول العالم.
البحث السريع في إمكانية تفادي هذه الآثار السلبية لهذه الأزمة، هو فعليًا الملف الأساسي لهذه الزيارة، التي تكرس حركة التواصل المستمر بين مصر ومعظم الدول العربية، خاصة دول منطقة الخليج، والأردن والعراق.
الأوضاع العربية وملفات سوريا وليبيا
الأوضاع في عدد من الدول العربية، على رأسها ليبيا والعراق وسوريا، باتت ضيفًا دائمًا في أجندة التواصل بين القاهرة والرياض، خاصة أن الوضع الداخلي في هذه الدول -سياسيًا وأمنيًا- يواجه تحديات كبيرة تزايدت بفعل الأزمة الحالية في شرق أوروبا. وهنا يمكن الحديث بشكل خاص عن الملفين الليبي والسوري، حيث تتواجه موسكو مع الولايات المتحدة في الملف الثاني بشكل مباشر، وبنسق -للمفارقة- يشابه الوضع الذي تحاول موسكو إيصال الوضع في أوكرانيا إليه، وهو مبدأ “ضفة النهر”.
فموسكو تسيطر على الضفة الشرقية لنهر “دنيبر” في أوكرانيا، ويسيطر الغرب على الضفة الغربية منه، بنفس الشكل -مع عكس الاتجاهات- فيما يتعلق بضفتي نهر الفرات في سوريا. أما في ليبيا، فتتواجه موسكو مع الولايات المتحدة بصورة غير مباشرة، عبر ملف “القوات الأجنبية والمرتزقة” الذي تنخرط فيه موسكو بشكل أساسي في مواجهة تركيا ضمن نسق “الشرق والغرب”.
هذا الواقع، تُضاف إليه المعضلات التي تعاني منها أساسًا هذه الدول، سواء على المستوى الاقتصادي أو الأمني أو السياسي، والتعثر الذي يشوب كافة المحاولات العربية لإصلاح هذه الأوضاع، خاصة فيما يتعلق بالملف الليبي، جميعها توجب إدامة التواصل العربي – العربي، خاصة بين أهم دولتين في المنظومة العربية، مصر والمملكة العربية السعودية. وهو نفس الهدف الذي تستهدفه الجولات الخارجية للرئيس السيسي، والتي كان آخرها زيارته لدولة الكويت، وكذا مشاركته في القمة الأوروبية الأفريقية التي انعقدت الشهر الماضي في بروكسل.
توسيع آفاق العلاقات الثنائية بين القاهرة والرياض
العلاقات الثنائية بين الرياض والقاهرة تعد الملف الثالث الذي يتم بحثه خلال زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى المملكة العربية السعودية؛ إذ يستهدف كلا البلدين من كل لقاء ثنائي إضافة تطور إيجابي على مستوى العلاقات بينهما التي يمكن اعتبارها مثالًا للعلاقات الإيجابية بين الدول العربية، والتي تتضمن تنسيقًا كاملًا في المواقف والرؤى بشأن الملفات الإقليمية والدولية، ما يسمح بتحقيق أكبر استفادة عربية، دول الدخول في دوائر تضارب المصالح وتناقض الأهداف.
الملف اليمني يبدو في هذا الإطار من الملفات التي يتباحث الجانبان حولها منذ سنوات، وقد تزايدت وتيرة هذا التنسيق بفعل التصعيد الذي شهده الملف اليمني منذ مطلع العام الجاري ضد كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وقد كان رد فعل القاهرة في هذا الصدد واضحًا بإدانة أي استهداف للأراضي والأجواء العربية، والدعوة إلى بحث حل سلمي نهائي لهذا الملف. وكانت زيارة الرئيس السيسي إلى أبو ظبي في يناير الماضي تأكيدًا على هذا المعنى الذي يرتبط بالرؤية المصرية للأمن القومي العربي.
أهمية إيجاد حل للقضية اليمنية تتزايد بشكل كبير في ضوء تزايد احتمالات التوصل لاتفاق بين طهران والمجموعة الدولية بشأن البرنامج النووي الإيراني، وبالتالي هذا سبب أدعى لبحث كيفية إطلاق عملية تسوية سلمية في اليمن، لا تغفل دواعي الأمن في منطقة الخليج العربي التي كان استقرارها دومًا ركنًا أساسيًا في النظرة المصرية للأمن القومي العربي. فقد أكد الرئيس السيسي في مناسبات عدة على أن حفظ الأمن القومي لدول مجلس التعاون الخليجي هو ركيزة أساسية من ركائز حفظ الأمن القومي لمصر. هذه القناعة كانت مترسخة في وجدان القيادة المصرية الحالية حتى قبيل انتخابها في منصبها الحالي.
الرؤية المصرية في هذا الإطار، تتمحور حول اتجاهين أساسيين، الأول هو تحصين الشارع العربي والجبهات الداخلية العربية من التدخلات السياسية والاقتصادية الخارجية، لأن معاناة الشارع العربي من مشاكل مزمنة على المستويات كافة، بجانب غياب الوعي السياسي والديني، كلها عوامل تفتح الباب واسعًا أمام التدخلات الخارجية، خاصة في المجتمعات الخليجية.
المحور الثاني هو محور إدارة الأزمة مع إيران، فرؤية القاهرة الثابتة هي ضرورة إيجاد مقاربات سياسية للتعامل مع طهران، مماثلة للنهج الذي اتبعته مصر معها خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، لأن التصادم العسكري مع إيران في هذه المرحلة وفي ظل الظروف الإقليمية والدولية الحالية غير ممكن وغير مضمون العواقب، لكن هذا لا يعني في نفس الوقت عدم مواجهة طهران وردعها عن التصعيد ضد الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية بهذا الشكل.
لهذا تطرح مصر الآن رؤيتها التي تقتضي العمل على مسارين أساسيين لحل الأزمة اليمنية، وإغلاق باب تستخدمه طهران لضرب الأمن القومي الخليجي في الصميم. المسار الأول هو المسار السياسي الذي كانت القاهرة دومًا ترى أنه الخيار الأول والأفضل، وسبق ودعمت القاهرة الجهود الدبلوماسية الدولية وجهود سلطنة عمان لبدء مسار سياسي لحل هذه الأزمة، ووقف العمليات القتالية.
على المستوى العسكري، ترى مصر أنه من الضروري أن تتخذ الإمارات العربية المتحدة وكافة دول الخليج كافة الإجراءات الميدانية اللازمة لحفظ أمنها وسلامة أراضيها، وكذلك ترى أن تعمل الدول العربية مجتمعة على تعظيم قدراتها العسكرية الذاتية، ليس فقط بشراء الأسلحة والمنظومات القتالية، بل بالعمل أكثر على زيادة حجم التعاون والتنسيق العسكري بين الدول العربية، وتبادل الخبرات بشكل مستمر في الإطار التدريبي والتصنيعي، عبر المناورات العسكرية المشتركة، والتعاون في مجال التصنيع العسكري المحلي.
في جانب آخر، شهدت العلاقات الاقتصادية بين الرياض والقاهرة تحسنًا مطردًا خلال السنوات الأخيرة، في انعكاس للحالة الإيجابية التي تمتعت بها علاقاتهما السياسية، وهذا تمثل في تزايد حجم التبادل التجاري بين الجانبين، من 5.5 مليار دولار عام 2020 إلى نحو 7.5 مليار دولار العام الماضي، فيما تأتي المملكة العربية السعودية كثاني أكبر مستثمر في مصر باستثمارات تجاوزت 6 مليارات دولار موزعة على نحو 500 مشروع.
التعاون بين الجانبين في مجال المشاريع المشتركة يعد مثالًا يحتذى به على المستوى العربي، ويبرز في هذا الصدد مشروع الربط الكهربائي بين البلدين، الذي تم توقيع عقوده في أكتوبر الماضي، ودخل حاليًا مرحلة التصميم النهائي للخطوط والكابلات الخاصة بخط الربط، علمًا بأن الموعد المقرر لبدء المرحلة الأولى من هذا المشروع هو أكتوبر 2024، لنقل نحو 1500 ميجاوات من الكهرباء، سترتفع بعد ذلك لتصل إلى ثلاث آلاف ميجاوات. هذا النمط من المشروعات يعد استثمارًا عربيًا في التجربة المصرية الرائدة في مجال إدارة وتوليد الطاقة الكهربائية، ونموذج بدأت القاهرة في تعميمه عربيًا عبر توقيعها عقودًا للربط الكهربائي مع عدة دول عربية.
حرص القيادة السياسية في مصر على استمرار التواصل مع المحيط العربي يسهم بشكل كبير في تحسين العلاقات العربية – العربية، التي شابتها خلال عقود خلت، بعض الشوائب والتراكمات، التي أثرت على العلاقات بين هذه الدول، وبالتالي أدت إلى ضعف الوضع العربي العام، ودخول قوى إقليمية على خط التأثير على حرية القرار العربي، عبر وسائل ضغط بالوكالة، فاقمت من سوء الأوضاع في عدة دول عربية مهمة. وبالتالي يمكن القول إن استمرار تواصل الدول العربية الكبرى سيسهم بشكل فعال في تجنيب المنطقة العربية موجة عاتية قادمة من التأثيرات السلبية الناجمة عن “الزلزال” الذي ضرب شرق أوروبا.
باحث أول بالمرصد المصري