
حسابات الحرب.. كيف نقرأ استراتيجة بايدن تجاه الغزو الروسي
عندما ترشح “جو بايدن” للرئاسة في عام 2020 بنى عقيدة سياسته الخارجية على ركيزتين متكاملتين: الأولى أن الديمقراطيات يجب أن تنتصر على الأنظمة الاستبدادية، والثانية استعادة دور الولايات المتحدة على المسرح العالمي. وبعد مرور أكثر من عام، تعرضت هاتين الركيزتين لضغوط شديدة وسط الغزو الروسي لأوكرانيا الذي فتح فصلًا جديدًا محفوفًا بالمخاطر في رئاسة بايدن، واختبر تطلعاته للدفاع عن الديمقراطية ومدى حدود القوة الأمريكية، ودفعه إلى صراع طويل الأمد لاستعادة الأمن الأوروبي الذي تعهد بالحفاظ عليه.
رسمت الحرب الروسية الأوكرانية مسارًا مختلفًا لإدارة بايدن التي كان محل تركيزها في البداية مواجهة النفوذ الصيني، وإعادة الاستثمار في الداخل ودفع الاقتصاد بعد الخروج من عنق الوباء القاتل، ومحاولة إقامة علاقة “مستقرة يمكن التنبؤ بها” مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والتعامل معه في قضايا الأسلحة النووية والتغيرات المناخية، والأمن في المجال الإلكتروني، وتجنب تقريب روسيا والصين من بعضهما البعض.
وعندما التقى الرئيسان في يونيو الماضي في جنيف، حث بايدن بوتين على إنهاء عدوانه المستمر منذ سنوات على أوكرانيا، والتوقف عن اختراق الولايات المتحدة، وقال لبوتين إنه يضر “بمصداقيته في جميع أنحاء العالم”. وفي مكالمة هاتفية في ديسمبر الماضي، بينما كان بوتين يحشد عشرات الآلاف من الجنود على طول الحدود الروسية مع أوكرانيا، حثه بايدن على خفض التصعيد و”العودة إلى الدبلوماسية”، محذرًا من أن إعادة غزو أوكرانيا ستؤدي إلى معاناة إنسانية واسعة النطاق وتقلل من مكانة روسيا الدولية.
استراتيجية بايدن تجاه روسيا
قامت استراجية بايدن للتعامل مع الغزو الروسي على أوكرانيا على أساس أربع حقائق: الأولى، ليس هناك ما هو أهم لاستقرار العالم من وقف الحرب في أوكرانيا. الثانية، هي أن هذه الحرب ليست نتاج نقص في الفهم أو مشاكل أمنية مختلقة في الاتحاد الروسي، وهو بلد أقوى بكثير من أوكرانيا، بل هي رغبة تاريخية في إعادة كييف والبلاد المحيطة بها إلى سيطرة موسكو. الثالثة، الشخص الوحيد القادر على إنهاء الحرب بقرار واحد بسيط وسريع هو فلاديمير بوتين. الرابعة، أن الحرب لم تسر كما هو مخطط لها بالنسبة لروسيا.
هذه الحقائق كانت السياق الذي جرت فيه أي محاولة لوقف العدوان الروسي على أوكرانيا، بما في ذلك مبادرات الوساطة الواسعة لرؤساء فرنسا وألمانيا والتي تمت بموافقة أمريكية، وإرسال بايدن رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، ويليام بيرنز، إلى موسكو لتوجيه رسالة للرئيس الروسي مفادها “نحن نعلم ما تخطط للقيام به”. وفتح قنوات اتصال مباشرة بين وزيري الخارجية الروسي والأمريكي، بالإضافة إلى استعداد بوتين وبايدن لعقد قمة مباشرة لكنها لم تتم بسبب الغزو الروسي.
في البداية كانت استراتيجية بايدن تتمثل في التحذير من الغزو الوشيك لإظهار أنه على علم بما سيفعله بوتين، حتى وإن لم يستطع منع. وتأكدت استراتيجيته في عدم تبني سياسة التدخل العسكري. صحيح أنه دعم العمل العسكري لبلاده خلال تسعينيات القرن الماضي للتعامل مع الصراع العرقي في البلقان، وصوت لصالح الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، ولكن منذ ذاك التاريخ أصبح أكثر حرصًا في استخدام القوة العسكرية الأمريكية. وقد رفض تدخل أوباما في ليبيا وكذا رفض قيامه بزيادة القوات في أفغانستان، ويصمم الرئيس الأمريكي الحالي على الدفاع عن قراره بسحب القوات الأمريكية من أفغانستان العام الماضي، على الرغم من الفوضى التي رافقت الأمر، والكارثة الإنسانية التي نجمت عن ذلك.
وبعيدًا عن تلك القرارات، فلا أحد في مؤسسة صناعة القرار الأمريكية يريد خوض حرب حقيقية من أجل أوكرانيا، وهو اعتراف تكتيكي بأن أوكرانيا لا تمثل، في الحقيقة، مصلحة قومية أمريكية حيوية، فهي ليست جارة للولايات المتحدة، وليس بها قاعدة عسكرية أمريكية، ولا يوجد بها احتياطات استراتيجية من البترول، وليست شريكًا تجاريًا رئيسًا.
وعلى مدار الأشهر الماضية وحتى الآن، اتبع بايدن عددًا من الاستراتيجيات الحاسمة حول كيفية التعامل مع الغزو الروسي لأوكرانيا، تمثلت في:
فريق النمر: شكل البيت الأبيض فريقًا، أُطلق عليه اسم “فريق النمر”، لرسم السيناريوهات والخطط لكيفية الرد الأمريكي على كافة التحركات الروسية مع أوكرانيا، من العرض المحدود للقوة إلى الغزو الكامل. ويتكون فريق النمر من مجموعة متنوعة من الخبراء الذين يعالجون مشكلة معينة، من أجل الاستعداد والانقضاض، وجرى تشكيله بعد اكتشاف مسؤولي الأمن القومي الأمريكي في أكتوبر الماضي علامات مقلقة على زيادة كبيرة في القوات الروسية على حدود أوكرانيا. هذا الجهد لم يساعدهم فقط على توقع التداعيات المحتملة، بل دفعهم أيضًا إلى اتخاذ إجراءات في وقت مبكر، مثل فضح حرب المعلومات الروسية قبل تنفيذها، لتقويض قوتها الدعائية.
وأعد “فريق النمر” أكثر من سيناريو لساحة المعركة، مثل كيفية التعامل مع اللاجئين الأوكرانيين الذين قد يتدفقون إلى بولندا ورومانيا، وكيفية تأمين السفارة الأمريكية في كييف، وما نوع العقوبات التي يجب فرضها على موسكو، وكيفية مواجهة هجوم إلكتروني متطور.
وتم توزيع الكتيب الذي يتكون من حوالي 30 ورقة وتقييمًا استخباراتيًا، على مختلف المسؤولين بينهم القادة العسكريين والمدنيين في وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاجون”. وتناول الدليل أيضا ما أسماه “الدرجة الثانية”، مثل الانتقام الروسي من أي عقوبات، واتخذ المسؤولون إجراءات لضمان حصول أوروبا الغربية على إمدادات من الغاز الطبيعي في حالة سعي روسيا إلى إيقاف تدفقات الطاقة، في حين نسقت وزارة الخارجية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية مع الشركاء بشأن خطوات لتخفيف الأثر الإنساني لغزو أوكرانيا.
الدبلوماسية والتصعيد: عندما غزت روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014، لم يكن لدى الولايات المتحدة وأوروبا حزم عقوبات جاهزة للانطلاق، باستثناء عقوبات حقوق الإنسان، ولم تفكر الولايات المتحدة في فرض عقوبات على روسيا. ولكن مع الأزمة الحالية لعبت إدارة بايدن بقواعد الدبلوماسية والتصعيد. والعقوبات لم تكن مصممة كعقاب، ولكن وسيلة ضغط لإنهاء الحرب، وتم تصعيدها مع تصعيد بوتين.
فقد قادت واشنطن جولة أولى من العقوبات بعد أن أمر بوتين القوات بدخول منطقتين انفصاليتين بعد الاعتراف بهما كجمهوريتين مستقلتين في 21 فبراير الماضي. وكانت بمثابة طلقة تحذيرية فشلت في درء الغزو الروسي الذي وقع في 24 فبراير، بعدها التقى بايدن في غرفة العمليات مع مجلس الأمن القومي التابع له لمناقشة آخر التطورات في أوكرانيا. ثم التقى بعد ذلك بقادة مجموعة السبع، حيث اتفقوا على المُضي قدمًا في “حزم العقوبات المدمرة”. وأقنع ألمانيا، التي لطالما عُدت الحلقة الضعيفة، بتجميد الموافقات على خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2.
رفع السرية عن مؤامرة العلم الكاذب: يشير مصطلح “العلم الكاذب” إلى عملية عسكرية سرية مصممة لتبدو وكأنها قد نفذتها مجموعة أو دولة أخرى، حتى تستخدم ذريعة لشن حرب أو استغلالها في تحقيق مصالح سياسية. وفي الأسابيع الأخيرة، رفعت الحكومة الأمريكية السرية عن معلومات استخباراتية حول مثل هذه الجهود المحتملة التي ستقوم فيها موسكو بتفجير يقتل الروس العرقيين في أوكرانيا، أو في روسيا نفسها، ثم تلوم كييف كذريعة محتملة لغزو. يعتقد المسؤولون الأمريكيون أن مثل هذه المعلومات المضللة كانت جزءًا أساسيًا من استراتيجية روسيا.
وكذا، وافق بايدن على توصية لتبادل المعلومات الاستخباراتية مع الحلفاء على نطاق أوسع بكثير مما كان معتادًا؛ بهدف تجنب الخلافات حول العقوبات الاقتصادية القاسية التي تصدرها واشنطن بحق موسكو. وأعطى بايدن كذلك الضوء الأخضر لحملة إعلامية غير مسبوقة ضد بوتين. وبدعم من كبار مسؤولي المخابرات -ومع وعد بحماية مصادر وأساليب وكالات الاستخبارات- سمح الرئيس بنشر بعض المعلومات السرية بهدف منع بوتين من استخدام إنكاره المعتاد لتقسيم خصومه.
تدريب الجيش الأوكراني: لدى أوكرانيا واحد من أكبر الجيوش الأوروبية، مكون من 170 ألف جندي نظامي و100 ألف جندي احتياطي، وقوات دفاع شعبي تضم على الأقل 100 ألف محارب سابق، وانضم إليها أيضًا الآلاف من المدنيين. ويتدرب الجيش الأوكراني على توغل روسي جديد منذ سيطرة موسكو على شبه جزيرة القرم ودعمها للانفصاليين في إقليم دونباس. وهناك الكثير من المحاربين القدامى قاتلوا في هذه المعارك، ودربت قوات العمليات الخاصة الأمريكية القوات الأوكرانية. وبعد ذلك دمج القادة في كييف هذه الوحدات في القوات النظامية، ما سمح لهم بتدريب جزء كبير من الجيش.
ومنذ عام 2014، وفرت الولايات المتحدة مساعدات عسكرية بـ3 مليارات دولار على شكل أسلحة ومعدات وإمدادات أخرى. ودربت الوحدات الأمريكية من أصحاب القبعات الخضر والحرس الوطني خلال هذه السنوات أكثر من27 ألف جندي في مركز يافوري للتدريبات القتالية قرب لفيف، غرب أوكرانيا.
ومطلع هذا العام، عندما كان يواصل بوتين حشد القوات على الحدود الأوكرانية، وافق الرئيس بايدن على إرسال المزيد من الأسلحة لأوكرانيا، بما في ذلك صواريخ جافلين المضادة للدبابات، ونشر المزيد من القوات في دول أخرى بأوروبا الشرقية لإظهار التضامن مع كييف وطمأنة الحلفاء المتوترين على الجانب الشرقي لحلف الناتو.
التخطيط لحكومة المنفى: سيطرة روسيا المحتملة على العاصمة كييف تثير موجة من التخطيط في وزارة الخارجية والبنتاجون والوكالات الأمريكية الأخرى في حال اضطرت حكومة زيلينسكي إلى الفرار من العاصمة أو من الدولة نفسها. وفي حال تحقيق القوات الروسية العسكرية نجاحات على الأرض والسيطرة على العاصمة والمدن الأوكرانية الكبرى، قد تلجأ الولايات المتحدة إلى خطة لإطالة أمد الحرب في أوكرانيا، حيث تبرز فرضية حكومة منفى برئاسة زيلنسكي خيارًا مطروحًا بقوة لدى واشنطن وحلفائها.
والتخطيط في خطوة أولى لكيفية المساعدة في إنشاء ودعم حكومة في المنفى، والتي يمكن أن توجه عمليات حرب العصابات ضد القوات الروسية، والأسلحة التي قدمتها الولايات المتحدة للجيش الأوكراني، والتي تستمر في التدفق إلى البلاد؛ ستكون حاسمة لنجاح حركة المقاومة، فيما طلبت إدارة بايدن من الكونجرس، الحصول على 10 مليارات دولار من المساعدات الإنسانية والحزمة العسكرية التي تشمل التمويل لتجديد مخزون الأسلحة التي تم إرسالها فعليا.
وفي حال اختارت الولايات المتحدة وحلفاؤها دعم المقاومة، فسيكون الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي القوة المحورية لها، إذ إنه يحافظ على الروح المعنوية ويحشد الأوكرانيين الذين يعيشون تحت الاحتلال الروسي لمقاومة خصمهم القوي والمجهز تجهيزًا جيدًا.
وتشير التقديرات الحالية إلى استعداد ثلاثة آلاف متطوع أمريكي للوصول إلى أوكرانيا، وسط استمرار العمليات العسكرية الروسية في البلاد. وأسست أوكرانيا في نهاية فبراير الماضي فيلقًا دوليًا للأجانب الراغبين في الانضمام لمقاومة المحتلين الروس، ولحماية الأمن العالمي. وأعلنت نائبة وزير الدفاع الأوكراني “حنا ماليار” أن أكثر من 100 ألف متطوع سجلوا أسماءهم للانضمام إلى القوة بالفعل.
طمأنة الحلفاء: أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية أنها سترسل نحو سبعة آلاف جندي إضافي إلى ألمانيا، بينهم فرق قتالية بتوجيهات من الرئيس بايدن، والهدف من هذا الانتشار الجديد الذي سيتم في الأيام المقبلة هو طمأنة الحلفاء في حلف شمال الأطلسي وردع هجوم روسي وتأمين الجاهزية في المنطقة. وينتمي هؤلاء الجنود إلى الفرقة 82 المحمولة جوًا، وسينضم هؤلاء الجنود إلى نحو ألفي جندي ينتمون إلى نفس الفرقة 82 وقيادتها كانت واشنطن أعلنت في 2 فبراير إرسالهم لتعزيز قواتها في بولندا (1700 جندي في بولندا و300 في ألمانيا حيث مقرّ قيادة القوات الأمريكية في أوروبا).
وإلى جانب الجهود العسكرية الأمريكية لطمأنة الحلفاء، تأتي الجهود الدبلوماسية التي تمثلت في قيام وزير الخارجية الأمريكي بجولة أوروبية تشمل بلجيكا وبولندا ومولدوفا ولاتفيا وليتوانيا وإستونيا؛ لإظهار دعم واشنطن لأمنهم وتعزيز الوحدة الغربية ضد موسكو.
وبدأ بلينكن جولته بزيارة دول البلطيق الثلاث -إستونيا ولاتفيا وليتوانيا- التي تستضيف ثلاث مجموعات قتالية تابعة لحلف شمال الأطلسي وما يسمى بممر سوالكي الاستراتيجي الذي يفصل بين مقاطعة كالينينجراد الروسية على بحر البلطيق وبيلاروسيا التي تستضيف الآن الآلاف من القوات الروسية.
ويأتي اجتماع بلينكن في أوروبا الشرقية بعد اجتماعه مع وزراء خارجية حلف شمال الأطلسي ومجموعة السبع والاتحاد الأوروبي لمناقشة جهود الغرب لردع روسيا من خلال برنامج عقوبات قاسية. ويُعتقد أن رحلة بلينكن هذه المرة هي لإظهار دعم الولايات المتحدة اللفظي لحلفائها وأوكرانيا بعد أن أكد الرئيس الأمريكي أن الولايات المتحدة لن ترسل قواتها العسكرية إلى أوكرانيا.
ختامًا، إن استراتيجية بايدن الحالية تجاه روسيا لم تكن تسعى إلى تغيير النظام في روسيا، ولكن التأثير على تصرفات بوتين، وليس قبضته على السلطة. ويعكس تفضيل بايدن للدبلوماسية والعقوبات ضعف رغبة الأمريكيين في التدخل بعد مستنقعي أفغانستان والعراق. ورأت التحليلات أنه كان من الأفضل فرض العقوبات على روسيا في وقت سابق، لكن مسؤولي إدارة بايدن أصروا على أن ذلك كان سيقلص تأثيرها الآن. وأقر المسؤولون الأمريكيون بأن العقوبات قد تؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط مما يزيد من وطأة ارتفاع التضخم. ويدرك بوتين تمامًا أن بايدن لن يخوض حربًا ضد قوة نووية أخرى لحماية دولة تشترك في حدود طويلة مع روسيا ولا يربطها اتفاق دفاعي مع واشنطن.