
التصدي الصعب… الجيش الأوكراني ومعضلة القوة المتفوقة
لم تخفِ القيادة السياسية والعسكرية في كييف يومًا حقيقة أن ما يتوفر لديها من قوة بشرية وتسليحية على المستوى الميداني لا يرقى بأي حال من الأحوال لما في حوزة وحدات الجيش الروسي التي تقاتل حاليًا على عدة اتجاهات هجومية شمال وشرق وجنوب البلاد. كان لهذه الذهنية -والإعلان عنها بشكل واضح- تأثير مزدوج على الوحدات العسكرية النظامية الأوكرانية، اختلط فيه الجانب السلبي بالجانب الإيجابي، بحيث باتت هذه الوحدات تقاتل على طول الجبهات المفتوحة وهي تعلم يقينًا أن المعركة الأساسية ستكون داخل المدن، وستشارك فيها عناصر “متعددة الجنسيات”.
هذا الوضع جعل من الجائز اعتبار التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا مثالًا آخر للحروب التي لا يمكن حسمها بشكل كامل عن طريق تحقيق التفوق الجوي واستخدام الأسلحة الصاروخية والمدفعية بكثافة ودقة؛ نظرًا لوجود اعتبارات أخرى مهمة في الأجندة الاستراتيجية الروسية تتمحور حول حقيقة أن الوحدات الروسية المقاتلة في كافة الجبهات شرقي وجنوبي نهر “دنيبر” تحتاج إلى أن تتجنب قدر الإمكان الاصطدام مع الوحدات العسكرية الأوكرانية.
وكذلك الأمر مع سكان المدن الكبرى في هذا النطاق؛ بهدف تقليل أية آثار جانبية قد تطرأ على محاولات القوات الموجودة داخل هذه المدن “تأمين السيطرة” وفتح مجال للتعاون مع السكان المحليين، وهي محاولات نجحت بشكل محدود للغاية في المدن التي تمكنت هذه القوات من دخولها، في حين لجأت إلى تكتيك “الالتفاف” ومحاصرة المدن “العصية” على الاقتحام مثل “تشيرنيهيف” في الشمال و”خاركيف” و”سومي” في الشمال الشرقي و”ماريوبول” و”ميكوليف” في الجنوب.
الرهان الأساسي الذي وضعته القيادة العسكرية الأوكرانية منذ عام 2015 انصب بشكل كبير على تجهيز القوة البشرية النظامية وشبه النظامية، اعتمادًا على التدريب والدعم التسليحي الغربي، مع اهتمام أقل بالتصنيع العسكري المحلي الذي وإن تضمن بعض المنظومات النوعية مثل صواريخ “نبتون” المضادة للقطع البحرية وصواريخ “فيخا” الباليستية، إلا أنها في النهاية مازالت قيد الاختبار، وتقلصت أهميتها بفعل التخفيض الكبير في تسليح الجيش الأوكراني بصفة عامة -خاصة فيما يتعلق بالمدرعات والدبابات- والذي تم على مراحل تدريجية منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي.
وكان هذا التخفيض بفعل تعقيدات مالية تتعلق بتكاليف إدامة وصيانة بعض أنواع الأسلحة. وهذا كله في المحصلة -بجانب فقدان أوكرانيا “بإرادتها” لأية أسلحة استراتيجية، كان يمكن استخدامها لفرض مستوى معين من الردع حيال التهديدات الروسية- أدى إلى تقلص الخيارات الميدانية للجيش الأوكراني الذي أصبح معتمدًا -تكتيكيًا وميدانيًا- على ثنائية “التشكيلات شبه العسكرية – المساعدات التسليحية الغربية”، ضمن نمط قتالي عام أقرب إلى أساليب حرب العصابات، وإلى ما يمكن أن نطلق عليه “الحرب الشعبية”.
التشكيلات شبه العسكرية… أداة أوكرانية قديمة
على عكس ما يُتداول حاليًا، لا تعد فكرة “المقاتلين الأجانب وتشكيلات المتطوعين” في أوكرانيا وليدة الظروف الحالية، بل تعود نشأتها الأساسية إلى الفترة التي تلت اندلاع المعارك في إقليم “دونباس” شرقي أوكرانيا، أواخر عام 2014، حيث انضمت إلى كلا الطرفين المتحاربين -القوات الانفصالية والجيش الأوكراني- أعداد كبيرة من المتطوعين والمتعاطفين من جنسيات عدة.
وهو ما استفادت منه كييف عبر تشكيل وحدات من المتطوعين تضم من يرغب في التطوع من الأوكرانيين أنفسهم -بما في ذلك المنتمين إلى تيارات يمينية متطرفة- بجانب المتطوعين من الجنسيات المختلفة. وبلغ مجموع هذه الوحدات نحو 50 وحدة أسهمت بشكل أساسي في إبقاء الوضع القائم على خط وقف إطلاق النار مع القوات الانفصالية في حالة من الثبات والاستنفار منذ العام 2015.
تضمنت هذه الوحدات بعض الوحدات اليمينية الأوكرانية وعلى رأسها كتيبة “آزوف” وكتيبة “خاركيف” وكتيبة “دونباس”، مضافًا إليها بعض الكتائب التي تتكون من مقاتلين أجانب يحملون جنسيات دول عدة منها بيلاروسيا وجورجيا وأوزبكستان، وتتضمن هذه الكتائب أفرادًا من الشيشان ومن القبائل التترية في القرم، بجانب أعداد محدودة من المتطوعين من دول مثل الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا والنرويج والسويد وجورجيا وبولندا وإسبانيا والتشيك وبريطانيا وإيطاليا وكندا. بعض هذه الوحدات مثل كتيبة “آزوف” وكتيبة “دونباس” باتت إداريًا تحت قيادة قوات الحرس الوطني النظامية الأوكرانية، بموجب عقود تجدد سنويًا.
لكن ظلت مسألة مدى “شرعية” قتال المتطوعين الأجانب في إقليم دونباس مثار جدل محتدم اتخذ زوايا عديدة، ما بين تظاهرات قام بها المتطوعون الأجانب أمام القصر الرئاسي في كييف عام 2015 للمطالبة بمنحهم الجنسية الأوكرانية وضمهم للوحدات النظامية، وبين شكوى روسية متكررة من وجود هؤلاء في أوكرانيا، وصولًا إلى بعض المشاكل التي نتجت عن عودة بعض هؤلاء المقاتلين إلى بلدانهم الأصلية.
وقد ارتبطت معظم هذه المشاكل بكتيبة “آزوف” القومية اليمينية المتطرفة التي تتخذ من بعض أدبيات الحقبة النازية في ألمانيا أسسًا أيديولوجية تستند إليها في تعاطيها السياسي والميداني مع الدور الروسي في أوكرانيا بشكل خاص، وكذا في تعاملها مع بعض الأطراف الأوكرانية الداخلية، مثل الحركات الأناركية وكذلك بعض الأحزاب ذات التوجه اليساري.
تعاظم دور هذه الكتيبة في الداخل الأوكراني بشكل كبير منذ عام 2015؛ نتيجة لخبراتها الميدانية المتراكمة الكبيرة، خاصة أن دورها كان أساسيًا في انتزاع بعض المدن المهمة من القوات الانفصالية خلال معارك عام 2014، مثل مدينة “ماريوبول” جنوبي البلاد. هذه الخبرة وفرت للكتيبة موقعًا داخليًا مميزًا، وأصبحت بمثابة ركن أساسي في التشكيلة الحاكمة حاليًا في أوكرانيا، خاصة أنها سبق لها عام 2016 استعراض آلاف من عناصرها في شوارع العاصمة كييف للضغط حينها على الحكومة الأوكرانية للتجاوب مع كافة مطالبها.
دور هذه الكتيبة امتدت آثاره إلى دول أخرى؛ ففي أكتوبر 2018 أطلق مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي سلسلة من التحقيقات مع أربعة مواطنين أمريكيين من ذوي التوجهات اليمينية المتطرفة اتُهموا بالضلوع في أعمال شغب عنيفة شهدتها عدة مناطق في ولاية فيرجينيا عام 2017، واتضح من هذه التحقيقات أن المتهمين سافروا عقب ارتكابهم هذه الأعمال إلى أوكرانيا، و تدربوا على يد كتيبة “آزوف”، وهذا أدى إلى الكشف عن ضلوع هذه الكتيبة في تدريب أفراد عدة منظمات يمينية متطرفة داخل الولايات المتحدة، وهو ما أثار حينها علامات استفهام كبيرة حول تأثير ذلك على الأمن القومي الأمريكي.
اللافت هنا أن واشنطن لم تتخذ أي إجراءات للحد من تأثير هذه الكتيبة على المنظمات اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة، وذلك بحجة أن هذه الكتيبة تعد رمانة ميزان أساسية في مواجهة القوات الانفصالية في إقليم دونباس، وبشكل فعلي وصل إليها قسم مهم من الأسلحة التي ظلت الولايات المتحدة ودول أوروبية عدة تمنحها لكييف كمساعدات، رغم أن الكونجرس الأمريكي أقر تشريعًا عام 2018 يحظر تقديم المساعدة العسكرية لكتيبة آزوف، علمًا بأن الولايات المتحدة تعاطت بشكل مباشر مع قيادات هذه الكتيبة منذ عام 2017 عبر وفود عسكرية أمريكية.
نشوب الأزمة الحالية بين كييف وموسكو كان دافعًا إضافيًا لغض الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص الطرف عن النزعات المتطرفة لهذه الكتيبة وغيرها، رغم أن دلائل انخراط عدد إضافي من الأمريكيين في صفوف هذه الكتيبة تزايدت بشكل مطرد العام الماضي، بعد أن تم اعتقال “كريج لانج” الجندي الأمريكي السابق الذي انضم إلى الوحدات المقاتلة في دونباس عام 2015، وصدرت ضده مذكرة توقيف أمريكية بتهمة الضلوع في قتل شخصين في ولاية فلوريدا. وقد حاول “لانج” في فبراير الماضي إقناع السلطات الأوكرانية بعدم تسليمه للولايات المتحدة الأمريكية؛ نظرًا لخشيته من اتهامه بجرائم حرب، نتيجة ما اقترفه خلال تواجده مع كتيبة “آزوف” في دونباس، وهو الدور الذي توسع مكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكي منذ أكتوبر الماضي في التحقيق حوله وبشأن ضلوع سبعة أمريكيين في جرائم مشابهة أثناء وجودهم في أوكرانيا.
المتطوعون… رأس حربة أساسي في الخطة الأوكرانية
بالعودة إلى الأوضاع الحالية نجد أن المسار الأوكراني فيما يتعلق بتوفير القوة البشرية اللازمة للقتال ضد القوات الروسية اتخذ من تجربة دونباس مثالًا للتطبيق على كامل أراضي البلاد؛ فقد كانت الخطة العسكرية العامة للجيش الأوكراني، تعتمد بشكل أساسي على “المقاومة الشعبية”، عبر إقرار البرلمان الأوكراني قانونًا موسعًا يتضمن بنودًا خاصة بتشكيل وحدات شبه عسكرية من المدنيين لإطلاقها ضد القوات الروسية حال دخولها للأراضي الأوكرانية.
هذه الخطة كانت -بطبيعة الحال- منسقة بشكل كامل مع العواصم الغربية المختلفة، وتولى تنفيذها القائد العسكري المعروف في أوكرانيا يوري جالوشكين الذي قاد المعارك ضد القوات الانفصالية المدعومة روسيًا في إقليم دونباس عام 2014. وقد بدأ جالوشكين منذ منتصف العام الماضي في عمليات تجنيد تستهدف حشد نحو 130 ألف متطوع، بهدف تشكيل ما بين 20 إلى 25 كتيبة، يتم نشرها في معظم المدن الرئيسة بالبلاد؛ لمعاونة وحدات الجيش الأوكراني ميدانيًا، وخلق بيئة ميدانية تعاني فيها القوات الروسية من خسائر بشرية مستمرة.
عمليات التجنيد هذه تكللت بدعوة دولية أطلقها الرئيس الأوكراني في السابع والعشرين من الشهر الماضي لتشكيل “فيلق دولي” من المتطوعين للقتال في أوكرانيا، وهي دعوة تلاها إصدار مرسوم رئاسي يسمح للمتطوعين الأجانب بدخول البلاد دون تأشيرة، وترافقت مع بدء توزيع واسع النطاق للأسلحة على المدنيين في عدة مدن أوكرانية.
وهذا كله فيما يبدو بهدف الاستفادة من المتطوعين الأجانب من جهة، ومن جهة أخرى إصباغ صبغة “دولية” على المعارك الدائرة حاليًا في أوكرانيا، خاصة أنه بدأ فعليًا وصول بعض المتطوعين الشيشانيين والبيلاروسيين، بجانب بعض العسكريين السابقين من دول مثل بريطانيا، علمًا أنه للمرة الأولى على المستوى الدولي، تلجأ السفارات -بشكل علني- لطلب متطوعين للسفر إلى أوكرانيا، مثل سفارات أوكرانيا في دول مثل نيجيريا والجزائر والسنغال والبرازيل.
مواقف الدول الغربية بشكل عام، وكذا مواقف بعض المسؤولين الأوروبيين مثل وزيرة الخارجية البريطانية، تبدو غير ممانعة في فتح الباب -بشكل غير رسمي- لمواطنيها كي يسافروا إلى أوكرانيا، بما في ذلك الولايات المتحدة، التي تتحدث وسائل الإعلام الرسمية الأوكرانية عن أن عدد من طلبوا التطوع للقتال في أوكرانيا من مواطنيها تعدى ثلاثة آلاف متطوع، وهو ما يحمل في طياته تغاضيًا أمريكيًا واضحًا -في حالة وصول هؤلاء إلى أوكرانيا بالفعل- عن المخاطر التي يمثلها هؤلاء على المستوى الأمني، بالنظر إلى التجارب السابقة.
دول أخرى، من بينها ألمانيا، تبدو متخوفة من هذه الخطوة، فقد أعلنت الخارجية الألمانية منذ أيام أنها توصلت إلى معلومات مفادها أن بعض المنتمين للحركات النازية الجديدة في البلاد سافروا بالفعل إلى أوكرانيا، وهو مؤشر خطر بالنظر إلى صعوبة الفصل بين هؤلاء وبين الألمانيين العاديين الذين يرغبون في القتال في أوكرانيا، لدوافع غير مرتبطة بالتشدد.
فيما يتعلق بالتفاعلات التي تمت ملاحظتها حتى الآن حول فرق المتطوعين والتشكيلات شبه العسكرية، فإن عدة اتجاهات -متحدة في أهدافها لكنها تتناقض أحيانًا في توجهاتها الفكرية- ظهرت في ثنايا ما يمكن أن نطلق عليه “الحالة الميليشياوية الأوكرانية”، فمثلًا كان من المسلّم به أن جماعات النازية الجديدة في أوكرانيا تناهض بشكل صارخ المجموعات التي تتخذ من أيديولوجيا “الأناركية” منطلقًا فكريًا لها، مثل مجموعة “RevDia” صاحبة الارتباطات المهمة داخل أوكرانيا وفي دول اخرى مثل ألمانيا.
هذا الوضع جعل هذه المجموعة تتردد في الدخول ضمن عباءة “مجموعات الدفاع الإقليمي”، التي تتسيدها بطبيعة الحالة كتيبة “آزوف”، لكنها في النهاية انضوت تحت هذه العباءة، وتبقى هذه الخطوة مهمة، رغم العدد المحدود جدًا من المقاتلين الأوكرانيين الذين تمتلكهم هذه المجموعة، نظرًا لأنها ترتبط بكل مريدي هذا الفكر في كافة جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، وهذا ربما يفسر ظهور مجموعات أوكرانية أخرى ضمن إطار “الدفاع الإقليمي” تعتنق الأيديولوجيا الأناركية، مثل مجموعة “العلم الأسود”.
من المجموعات الجديدة اللافتة التي ظهرت ضمن “الفيلق الدولي” ومجموعات “الدفاع الإقليمي”، مقاتلون ينتمون إلى روابط تشجيع أندية كرة القدم الرئيسة في أوكرانيا، مثل رابطة مشجعي نادي “خاركيف”، بجانب ظهور عدة تشكيلات من بيلاروسيا والشيشان، أهمها تشكيل يسمى “بلاك ستروكس”، وجميعها تقاتل في النطاق الشرقي بشكل أساسي، مع وجود أكبر لكتيبة “آزوف” والكتائب الأخرى المساندة لها في المنطقة الجنوبية والعاصمة أيضًا.
بدا من طريقة عرض هذه الكتيبة لموادها الدعائية خلال الأيام القليلة الماضية بروز الجانب المتشدد في خطابها، فبالإضافة إلى انخراطها في عمليات جمع التبرعات، وتعيين ممثلين لها في نقاط تجميع المقاتلين والأسلحة في بولندا، نشر مقاتلو الكتيبة صورًا بجانب جثث تعود إلى جنود روس، وانتقدوا انخراط الوحدات الشيشانية في القتال إلى جانب القوات الروسية، وذلك عبر عدة تسجيلات مصورة ظهر أحد مقاتلي الكتيبة فيها، وهو يغمس الرصاص الخاص ببندقيته في دهن الخنزير.
على المستوى القتالي، ربما نجحت مقاومة الوحدات العسكرية وشبه العسكرية الأوكرانية في منع الجيش الروسي من تحقيق النجاحات المرجوة في الجبهة الشمالية الشرقية والشرقية، لكنها في نفس الوقت لم تتمكن من مجاراة العمليات المظلية الروسية الخاصة في شمال العاصمة، ولم تتمكن من منع القوات الروسية من عبور قناة القرم وبدء التحرك في عدة اتجاهات لتأمين السيطرة على ساحل آزوف والبحر الأسود، علمًا بأن تغير التكتيك الميداني الروسي، وتفضيله الالتفاف حول المدن التي تبرز منها مقاومة عنيفة أدى إلى وضع عدة مدن رئيسية في الشمال والشرق والجنوب تحت الحصار الفعلي، وهو تغير كان مهمًا بالنظر إلى بعض مظاهر الاحتجاج التي واجهها الجنود الروس من قبل السكان في خيرسون وخاركيف وبردياتسك وميلوتوبول.
عمليات التطوع والتجنيد هذه، والتي تحمل ارتباطات بمواقف سابقة من جانب بعض الأطراف الإقليمية والدولية من النهج الروسي في ملفات دولية سابقة مثل الملف السوري، ربما تفلح في حشد أعداد كبيرة من المتطوعين الأجانب للقتال مع القوات الأوكرانية، لكن تشير التقديرات إلى أن هذه العمليات لن تجدي نفعًا إلا في حالة ما إذا تركز حشدها في الجانب الغربي من البلاد، بالنظر إلى أن سير العمليات الحالي يشير إلى أن سيناريو سيطرة موسكو على كامل الضفة الشرقية لنهر “دنيبر”، بما في ذلك العاصمة كييف والساحل الأوكراني على بحر “’آزوف”، باتت مسألة وقت، وأن المعركة المقبلة ستكون حول الضفة الغربية للنهر، وحينها ستبرز مسألة السلاح ومدى توفره.
السلاح… الغرب يتولى المهمة
الضلع الثاني في الخطة الأوكرانية كان يتعلق بالسلاح، إذ وعت القيادة العسكرية الأوكرانية إلى الفجوة الهائلة بينها وبين روسيا فيما يتعلق بهذا الإطار، وهو أمر يعود القصور فيه بشكل كبير إلى أوكرانيا التي لجأت إلى تخزين أعداد كبيرة من دباباتها، خاصة دبابات “تي-80” و”تي-84″، التي كانت لديها القدرة على مواجهة الدبابات الروسية، وتم تخزينها نتيجة نفقات صيانتها الباهظة، وتم الاعتماد على الدبابات الأقدم “تي-72” و”تي-64″، وهو ما فسر بشكل كبير عدم دفع القوات الأوكرانية بالقطاعات المدرعة الموجودة لديها في الجبهة الشمالية، ودفعها بأعداد محدودة في الجبهة الجنوبية، والاكتفاء بما كان موجودًا فعليًا في جبهة دونباس قبيل بدء المعارك.
على المستوى البحري كان الوضع مشابهًا إلى حد كبير؛ إذ فقدت البحرية الأوكرانية قسمًا مهمًا من قوتها بفعل عمليات تحويل الولاء التي جرت من جانب بعض القطع البحرية أثناء عملية سيطرة الجيش الروسي على شبه جزيرة القرم عام 2014، وبالتالي لم يكن مستغربًا إقدام مشاة البحرية الأوكرانية على إغراق الفرقاطة الوحيدة الموجودة في الخدمة لدى البحرية الأوكرانية “Hetman Sagaidachny”.
جوًا، لم تتوفر لمقاتلات سلاح الجو الأوكراني فرص كبيرة للاشتباك مع أكثر من مائة طائرة روسية نفذت الضربات الصاروخية المتعاقبة التي استهدفت منظومات الدفاع الجوي والمطارات الحربية، خاصة أن الطائرات الأوكرانية باتت مهددة من المقاتلات الروسية وأنظمة الدفاع الجوي ذاتية الحركة الموجودة ضمن الأرتال الروسية على الأرض، وكذلك من منظومات إس-400 الموجودة في غرب روسيا وجنوب بيلاروسيا.
بهذا الوضع لم يتوفر للجيش الأوكراني سوى خيارات محدودة للرد بشكل فعال على الهجوم الروسي، والبداية هنا ستكون مع الأسلحة الغربية التي تدفقت على كييف خلال الفترة السابقة لبدء العمليات الروسية، وتحديدًا منذ منتصف يناير الماضي، حين أقرت واشنطن مساعدات عسكرية عاجلة بقيمة 200 مليون دولار لصالح وزارة الدفاع الأوكرانية، وقد تركزت بشكل رئيس على الصواريخ المضادة للدبابات، مثل 300 صاروخ مضاد للدبابات من نوع “جافلين”، وقاذفات الصواريخ المضادة للتحصينات “SMAW-D”، بجانب ذخائر متنوعة.
كذلك، منحت واشنطن الإذن لبعض الدول الحليفة كي تزود أوكرانيا بمساعدات عسكرية طارئة، إذ قامت إستونيا بتزويد أوكرانيا بالمزيد من صواريخ “جافلين”، ووصلت أول دفعة من صواريخ “ستينجر” المضادة للطائرات منتصف الشهر الماضي إلى أوكرانيا قادمة من ليتوانيا، وأرسلت بريطانيا 2000 صاروخ مضاد للدبابات سويدي الصنع من نوع “NLAW” إلى أوكرانيا.
عقب بدء العمليات القتالية في أوكرانيا، تزايدت وتيرة الدعم التسليحي المقدم لأوكرانيا من الدول الأوروبية، فقد أقر الاتحاد الأوروبي مساعدات بقيمة 450 مليون يورو، وكذا فعلت الولايات المتحدة التي رصدت مساعدات جديدة بقيمة 350 مليون دولار. دخلت إلى مضمار المساعدات العسكرية المقدمة إلى أوكرانيا بعض الدول التي كانت تحافظ على مستوى معين من الحياد في النزاعات الإقليمية، مثل السويد التي أعلنت عن تقديمها خمسة آلاف صاروخ مضاد للدروع من نوع “AT-4” مع خمسة آلاف خوذة ومثلها من الدروع الواقية. كذلك فعلت فنلندا التي قدمت إلى أوكرانيا 2500 بندقية هجومية و150 ألف قطعة ذخيرة، بجانب 1500 صاروخ كتفي مضاد للدروع.
ألمانيا من جانبها أعلنت أواخر يناير الماضي عن تقديمها -للمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية- مساعدات قتالية إلى أوكرانيا، بحيث سترسل إليها من هولندا وإستونيا ألف مدفع مضاد للدبابات، بجانب 500 صاروخ كتفي مضاد للطائرات من نوع “ستينجر”، بجانب سماحها لهولندا بتصدير 400 صاروخ كتفي مضاد للدبابات ألماني الصنع من نوع “بانزرفاوست-3″، ستضاف إلى أسلحة اخرى ترسلها هولندا إلى أوكرانيا، تتضمن 200 صاروخ كتفي مضاد للطائرات من نوع “ستينجر” ومائة بندقية قنص، وكذلك إلى معدات أخرى ترسلها النرويج وبلجيكا وإستونيا، تشمل المزيد من صواريخ “جافلين” و”ستينجر”، بجانب صواريخ “لاو” الكتفية المضادة للدبابات.
على المستوى الميداني، وفي ظل إحجام أوكرانيا عن استخدام كامل قوتها المدرعة، وكذلك ضعف قدرتها الجوية على مجابهة سلاح الجو الروسي، استخدمت الوحدات الأوكرانية بشكل رئيس -سواء وحدات الحرس الوطني المدافعة عن العاصمة والموجودة في الجبهة الشرقية، أو وحدات مشاة البحرية في الجبهة الجنوبية- صواريخ “جافلين” و”NLAW” المضادة للدبابات ضد الوحدات المدرعة الروسية، والحقت بها خسائر معتبرة خاصة في النطاق المحيط بمدينة “تشيرنيهيف” شمالي العاصمة، أو مدينة “خاركيف” في الجبهة الشرقية.
ونفذت هذه القوات أيضًا عدة كمائن للوحدات الروسية المحمولة جوًا، والتي كانت تعتمد على المروحيات للإنزال فوق المطارات والمواقع الحيوية. وهنا لابد من الإشارة إلى أن أغلبية عمليات الإسقاط التي تمت، كانت بواسطة النسخة البولندية من صواريخ الدفاع الجوي الكتفية “إيغلا”، ولم يتم توثيق إسقاطات مؤكدة باستخدام صواريخ “ستينجر” المضادة للطائرات.
استمرار استخدام القوات الأوكرانية صواريخ “توشكا” الباليستية التكتيكية ضد المواقع الانفصالية في دونيتسك وسابقًا ضد قاعدة “ميليروفو” الجوية الروسية كان من نقاط النجاح القليلة للجيش الأوكراني في هذه المعارك، علمًا بأن الجيش الروسي بدأ منذ الأمس في إدخال هذا النوع من الصواريخ إلى جبهة القتال، بعد أن ظل اعتماده الأساسي هو على الصاروخ الباليستي الأحدث منه “إسكندر”.
على مستوى الأسلحة النوعية، ورغم وجود منظومات عديدة للحرب الإلكترونية الروسية على الأراضي الأوكرانية، واستهداف القواعد الجوية بشكل مكثف خلال الأيام الأولى للمعركة، إلا أن الطائرات الأوكرانية الهجومية دون طيار “بيرقدار” تمكنت من تنفيذ عدة هجمات على الأرتال الروسية، تم توثيق ثلاثة هجمات منها، ألحقت فيها خسائر ببعض وحدات الدفاع الجوي الروسية أثناء تحركها، وإن كان هذا النشاط قد تقلص منذ أول أمس، بفعل موجة الضربات الصاروخية التي استهدفت مدارج الهبوط في المنطقة الغربية الأوكرانية.
جوًا أيضًا، بدا ان أوكرانيا ربما تستطيع استدراك خسائرها على مستوى الطائرات المقاتلة، بعد إعلان قيادة البحرية الأوكرانية أنه سيتم إرسال نحو 70 طائرة حربية من نوعي “ميج-29″ و”سوخوي-25” من كل من بلغاريا وسلوفاكيا وبولندا، إلى أوكرانيا كدعم جوي، وهو إعلان غامض، بالنظر إلى أن كلًا من بولندا وليتوانيا وسلوفاكيا أعلنت عن عدم وجود نوايا لتمركز طائرات أوكرانية على أراضيها، لكن وبما أن الولايات المتحدة تقول إنها مازالت تدرس كيفية تفعيل هذه الخطوة، يمكن القول ان احتمالات تنفيذ هذا ستكون ضئيلة، نظرًا لحساسية روسيا الشديدة من أي انخراط غربي مباشر في هذه الأزمة، وهو ما اتضح بشكل كبير من خلال رفع جاهزية وحدات الردع النووي الروسية بمجرد بدء تداول أخبار الطائرات الـ 70.
خلاصة القول، يمكن إن نعد دور القوة البشرية في الخطة الأوكرانية العامة للتصدي للجيش الروسي أكبر وأهم من دور الأنظمة الدفاعية والهجومية التسليحية، لكن في نهاية المطاف ستدفع أوكرانيا أثمانًا باهظة على المستوى البشري، تخسر فيها مقاتلين تلقوا خبرات طويلة وتدريبات على مدار سنوات مضت، وستدفع كذلك فاتورة إهمال تحديث تسليحها -التقليدي وكذا المخصص للردع- وهي فاتورة مرفق بها أخرى تتعلق بتخلي كييف الطوعي عن سلاحها النووي الذي كانت تحتل به ذات يوم المرتبة الثالثة عالميًا.
تبدو محاولة كييف والغرب تزويد الأراضي الأوكرانية بأعداد ضخمة من الصواريخ المضادة للطائرات والدروع، لتحويل هذا النطاق إلى مستنقع ناري أمام الروس، يتم من خلاله تكرار تجربة المجاهدين الأفغان في ثمانينيات القرن الماضي، محاولة تشوبها مخاطر عديدة؛ فالجندي الروسي الآن مشبع بالتجارب الميدانية في سوريا، ولا يبدو أن موسكو تهتم بحجم خسائرها البشرية أو المادية في هذه الحرب. ومن ناحية أخرى، تبدو مخاطر تكرار سيناريو “العائدون من أفغانستان” أكثر قوة من العقود الماضية، بل يمكن القول إن احتمالات حدوث هذا السيناريو قد بدأت بالفعل -كما سبق ذكره- في الولايات المتحدة ذاتها.
– مصادر:
باحث أول بالمرصد المصري



