
“التوازن المعقد”: كيف نفسر موقف الهند من الحرب الروسية الأوكرانية؟
منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية أواخر شهر فبراير الماضي وجدت الهند نفسها أمام خيارات صعبة فيما يتعلق بكيفية تفاعلها ورد فعلها إزاء هذه الأزمة التي تلقى اهتمامًا عالميًا واسعًا. فمن ناحية، لم تتخذ نيودلهي موقفًا مضادًا لروسيا، ومن ناحية أخرى لم تعلن صراحة عن أنها تؤيد الطرف الروسي مقابل أوكرانيا والدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. واتخذ الموقف الهندي حتى الآن طابع الحياد إزاء الهجوم الروسي ضد أوكرانيا، وسعت نيودلهي –ولا تزال- إلى إيجاد “توازن صعب” ومنضبط حاولت من خلاله ألا تتضرر مصالحها المتعددة والمتنوعة في خضم هذه الأزمة.
ففي يوم إعلان الرئيس الروسي بدء الهجوم على أوكرانيا يوم 24 فبراير 2022، اتصل رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بفلاديمير بوتين ودعاه إلى سلك طريق الدبلوماسية والحوار مع حلف شمال الأطلنطي “الناتو”. وفي الوقت نفسه، أجرى مودي مكالمة هاتفية مع الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي أعرب خلالها عن “قلقه العميق” إزاء التطورات، إلا أنه لم يوجه انتقادات مباشرة لموسكو.
أما يوم الجمعة 25 فبراير الماضي، فقد أعادت نيودلهي التأكيد على طبيعة موقفها بشأن الأزمة الأوكرانية حين امتنعت عن التصويت في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة لصالح مشروع قرار لإدانة روسيا. وأثنت موسكو في اليوم التالي على الموقف الهندي، واصفة إياه بـ”المستقل والمتوازن”، وكتبت السفارة الروسية في العاصمة الهندية على تويتر قائلة إن “استقلالية الهند وموقفها المتوازن من خلال التصويت في مجلس الأمن الدولي محل تقدير كبير”.
وقد يقودنا هذا إلى التساؤل حول دوافع الهند لاتخاذ هذا الموقف بشأن الأزمة الأوكرانية، وهو ما نجد الإجابة عليه عند النظر في طبيعة التوازنات السياسية الخارجية المعقدة لنيودلهي مع الدول الكبرى في آسيا، ومع الولايات المتحدة والدول الأوروبية.
لماذا اتخذت الهند طريق “التوازن الصعب” إزاء الحرب الروسية الأوكرانية؟
تنقسم هذه الدوافع إلى قسمين، أحدهما إقليمي والآخر دولي. أما إقليميًا، فإنه يتطرق إلى هُوية التوازنات الهندية داخل القارة الآسيوية تحديدًا، خاصة ما بين مجموعة (روسيا، الصين، باكستان).
أ – مخاوف من تقارب الثلاثي الآسيوي ضد نيودلهي:
تعاني العلاقات الهندية مع كلٍ من الصين وباكستان من توترات تعود بداياتها لعقود مضت، وتتمحور دوافعُها حول نزاعات حدودية مع الطرفين الآسيويين. فقد خاضت الهند والصين عدة حروب منذ عام 1962 تتعلق بالنزاع الحدودي المستمر بشأن منطقتي “آق صاي تشن” و”آروناتشل برادش”، علاوة على المناوشات التي تتفاقم حدتُها من حين لآخر بين البلدين في الوقت الحاضر للسبب نفسه. ويجعل هذا النزاع علاقات البلدين معرضة باستمرار للتدهور في أي وقت، على الرغم من العلاقات التجارية واسعة النطاق بينهما، وكون الصين أكبرَ شريك تجاري للهند.
أما مع باكستان، فإن التوتر يأخذ منحنى أكثر خطورة مما هو عليه مع الصين؛ إذ يتنازع الجانبان السيادة بشأن منطقة كشمير الشهيرة، وقد خاضا أيضًا حروبًا بشأن السيطرة عليها منذ عام 1947، وهو العام الذي أعلنت فيه باكستان الاستقلال. وكان تسلح البلدين نوويًا رسائل متبادلة مباشرة، فقد كان الدافع الرئيس وراء حصول باكستان على قنبلة نووية أواخر السبعينيات إنتاج الهند لواحدة منها منتصف العقد نفسه.
وعلى النقيض من ذلك، تتميز العلاقات الروسية مع خصمي الهند، الصين وباكستان، بالاستقرار؛ فروابط “موسكو-بكين” تُوصف بأنها استراتيجية على المستويات السياسية والعسكرية في ظل تحالف أوسع يهدف إلى مواجهة نفوذ الولايات المتحدة. فالبلدان يدعم بعضهما الآخر في المحافل الدولية سياسيًا، ويقيمان منذ عام 2012 تدريباتٍ عسكرية بشكل منتظم، وتأتي الهند على قائمة أولى الدول المستوردة للسلاح الروسي.
أما باكستانيًا، فعلى الرغم من وقوع علاقات موسكو وإسلام آباد تحت تأثير نهج علاقات الثانية مع الولايات المتحدة وطبيعة علاقات الأولى مع الهند، إلا أنها توصف بالمستقرة وتشهد تعاونًا عسكريًا واقتصاديًا. إذًا، لا وجه للمقارنة بين علاقات باكستان مع روسيا من جانب وعلاقات إسلام آباد مع الهند من جانب آخر.
وانطلاقًا مما سبق، نجد أن عدم اتخاذ الهند موقفًا مضادًا لروسيا بعد اندلاع الحرب مع أوكرانيا يجيء ليس فقط من أجل الحفاظ على علاقاتها الثنائية مع موسكو، ولكن أيضًا خشية حدوث تحولات جوهرية في مسار علاقات هذا الرباعي (روسيا، والهند، والصين، وباكستان) تضر بمصالح الهند ورغبتها في استمرار التوازن الاستراتيجي الإقليمي، من حيث استغلال الصين وباكستان لأي تدهور في العلاقات الروسية الهندية لصالحهما، فهما كما سبق القول خصمان لنيودلهي، خاصة باكستان.
ب-التحول في العلاقات الباكستانية الأمريكية لصالح روسيا:
كانت باكستان حليفًا قويًا لواشنطن خلال مرحلة الحرب الباردة، وعلى النقيض من ذلك وُصِفَت إسلام آباد آنذاك بأنها عدو للاتحاد السوفيتي. فقد لعبت باكستان دورًا بارزًا في الحرب والمعارك التي اندلعت ضد الاتحاد السوفيتي السابق في أفغانستان المجاورة، مما أثّر كثيرًا على طبيعة العلاقات بينهما والتي تفاقمت سوءًا حينما اعترفت إسلام آباد لاحقًا بنظام “طالبان” عام 1996.
وواصلت “واشنطن-إسلام آباد” علاقاتهما الاستراتيجية والتعاونية على أصعدة مختلفة خلال المرحلة التي تلت وقوع هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية عام 2001. ولكن، بدأ مسار التعاون الثنائي في التراجع خلال السنوات الأخيرة منذ عهد إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، حين اتهمت واشنطن باكستان بدعم شبكة “سراج الدين حقاني” ومعاونة بعض الجماعات الأخرى.
واستمرت العلاقات في التدهور بعدما فرضت إدارة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، عقوباتٍ ضد باكستان بداية عام 2018 جمدت من خلالها المساعداتِ العسكرية السنوية المقدمة للحكومة الباكستانية والمقدرة بحوالي 255 مليون دولار.
وتزامنًا مع ذلك، شرعت باكستان وروسيا في تعزيز علاقاتهما وبَدَأَ الجليد يذوب بينهما، وبدا أن باكستان في طريقها إلى الانضمام إلى تحالف الصين وروسيا ضد الهند وواشنطن. وسعى الجانبان بعد ذلك إلى تعميق التعاون في المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية، والتخطيط لمشاريع في مجالات الغاز والطاقة.
وإذ تدرك الهند هذا الأمر جيدًا، فإنها تخشى من تعزيز التحالف الباكستاني الروسي مع الصين أيضًا كما سبق القول ضد مصالحها في القارة الآسيوية، ولذا فإنها حاولت اتخاذ موضع محايد بشأن الأزمة الروسية الجارية مع أوكرانيا.
ج-رغبة الهند في الحفاظ على متانة علاقاتها مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية:
على الرغم من سعي الهند إلى الحفاظ على علاقاتها جيدة مع روسيا للعوامل سالفة الذكر، إلا أنها لا ترغب بأي حالٍ من الأحوال في تدهور علاقتها بالولايات المتحدة أو الدول الأوروبية؛ نظرًا لحجم التعاون الكبير العسكري والاقتصادي والسياسي بينهم، وأيضًا لرغبة نيودلهي في عدم تطور العلاقات الأمريكية الباكستانية إيجابيًا من جانب آخر.
فمنذ انهيار الاتحاد السوفيتي، شرعت الهند والولايات المتحدة في تعزيز تعاونهما المشترك في العديد من المجالات التي من بينها بالطبع التبادل التجاري، وذلك بعدما كانت علاقتهما مضطربة لدعم واشنطن باكستان. ومنذ ذلك الوقت، دأب الجانبان على دعم آفاق التعاون التجاري بينهما، والتعاون في قضايا الأمن الدولي، وتعزيز واشنطن مكانة نيودلهي في المنظمات الاستثمارية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، إلى أن قام البلدان بالتوقيع عام 2016 على مذكرة اتفاق للتبادل اللوجيستي، وأعلنت واشنطن نيودلهي شريكًا عسكريًا رئيسًا لها.
لقد شملت الاتفاقات التعاونية التي تم التوقيع عليها في السنوات اللاحقة مجالات عدة، من بينها على سبيل المثال: السلع الطبية، وسلع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وتبادل الخدمات اللوجستية العسكرية. وعلى الرغم من التوترات التجارية المحدودة التي شابت العلاقات بين الجانبين، والتي من بينها فرض الهند عام 2019 رسومًا إضافية على 28 منتجًا أمريكيًا بعد سحب الولايات المتحدة وضع نظام الأفضلية للسلع الهندية في العام نفسه، إلا أن الهند والولايات المتحدة يربطهما تحالف قوي تعززه أيضًا رغبة واشنطن هي الأخرى في موازنة العلاقات مع الصين في آسيا.
ولا يختلف الأمر كثيرًا عند الحديث عن علاقات الهند مع الدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي؛ إذ تنتاب الهند مخاوفُ من أنه إذا أعلنت تأييدها للغزو الروسي ضد أوكرانيا، فإن العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الاتحاد قد تتأثر بالسلب، ما يعني الكثير للاقتصاد الهندي الذي يبلغ حجم تجارته مع هذه الكتلة الاقتصادية الدولية أكثر من 100 مليار دولار سنويًا، علاوة على آلاف الشركات الأوروبية العاملة في الهند.
الخلاصة، ترجح الهند اتخاذ موقف محايد إلى حد كبير من الأزمة الروسية الأوكرانية؛ حفاظًا على شبكة علاقاتها الواسعة والمعقدة للغاية اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا مع روسيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وخشية أيضًا من تحول التحالفات الآسيوية ضدها من حيث طبيعة علاقاتها مع الصين وباكستان، ما يجعلنا نصفُ هذا التوازن بالصعب والمعقد أيضًا. ولكن، إذا ما اضطرت نيودلهي في يوم ما إلى تبني موقف من هذه الحرب الروسية الأوكرانية فيرجح أنها قد تؤيد موقف الولايات المتحدة والدول الأوروبية.
باحث بالمرصد المصري