
أوكرانيا: تصادم التاريخ والجغرافيا والقانون
اعتبارات التاريخ مهمة، وكذلك اعتبارات الجغرافيا. اعتبارات الجغرافيا أكثر وضوحًا وثباتًا وأكثر ضغطًا على مفردات النظام الدولي. يمكنك ويمكن للآخرين التنكر لاعتبارات التاريخ ولي عنقه خدمة لمصالح معينة في وقت معين وفي حالات بعينها دونًا عن حالات أخرى. في الجغرافيا لا يمكن أن يحدث ذلك، الخرائط تفقأ أعين الجميع ولا تسمح لهم بكثير من المساجلات والمماحكات.
الجغرافيا قيد حديدي فولاذي لا يمكن الفكاك منه. قل ما شئت عن الحرب الدائرة الآن بين روسيا وأوكرانيا، تبنى ما شئت من مواقف. في النهاية فإن الحقيقة الواحدة التي لا خلاف عليها هي أن أوكرانيا تقع على الحدود الروسية وليس على الحدود الأمريكية، أوكرانيا جارة روسية قبل أن تكون جارة أوروبية، أوكرانيا واحدة من أهم “دول الطوق” حول روسيا.
تلك هي كلمة الجغرافيا، التاريخ يقول الشيء وعكسه. الروس يفهمون التاريخ على أن أوكرانيا جزء عزيز انفض عنهم كما انفض آخرون في عملية انهيار الاتحاد السوفيتي. أوكرانيا والغرب يحلو لهم فهم التاريخ على أن أوكرانيا دولة مستقلة ذات سيادة يحق لها اتخاذ ما تراه من قرارات لحفظ أمنها القومي وتأمين مصالحها بشكل عام. الروس والغرب على صواب، فالتاريخ يمكن فهمه وتفسيره بما يخدم المصالح أو وجهات النظر.
اعتبارات الجغرافيا وحدها هي التي تساعد في فهم الموقفين الغربي والروسي من أوكرانيا؛ الغرب لن يؤلمه كثيرًا انهيار أوكرانيا وتحولها إلى دولة فاشلة، الروس بحكم الجغرافيا أكثر حرصًا على ألا تصل أوكرانيا إلى مرحلة الدولة الفاشلة؛ ففشل أوكرانيا أو انهيارها يعني بالضرورة تهديدًا مباشرًا للأمن القومي الروسي.
الأمر جد مختلف مع الغرب بحكم اعتبارات الجغرافيا، الثمن الذي سيدفعه الغرب جراء فشل أوكرانيا لن يتعدى عدة ملايين أو حتى مليارات من الدولارات لزوم إعادة البناء لإبقاء الأوكرانيين على قيد الحياة، الغرب بحكم الجغرافيا ليس مضطرًا للزج بجنوده في آتون معركة أوكرانيا. روسيا لا تمتلك ذلك الترف، باختصار قيمة أوكرانيا وأهميتها للغرب لا تقارن بقيمة أوكرانيا وأهميتها بالنسبة لروسيا.
الغرب وروسيا بكل تأكيد يشتركان في إدمان التلاعب بالقانون وتوقيف اعتبارات التاريخ والجغرافيا. نظرة واحدة إلى موقف الجانبين من الصراعات المشتعلة حاليًا أو التي اشتعلت سابقًا كافية للتأكيد على أن القوى الكبرى تعرف جيدًا وتجيد استخدام أي من الاعتبارات الجغرافية والتاريخية والقانونية بالشكل الذي يحقق مصالحها وفقط.
القانون وحده بعيدًا عن المصالح الذاتية لطرف أو آخر هو الكفيل بتأمين السلام والاستقرار. فالقانون لا يهمل الاعتبارات التاريخية ولا الجغرافية، ولكنه يرعى المصلحة العامة إذا جاز التعبير، المصلحة العامة هنا تعبير عن المصالح المشتركة بما لا يخل بالأمن والاستقرار، ولهذا جاء القانون لينقل العالم من مرحلة الغاب وشريعة القوة إلى مرحلة أخرى أكثر تحضرًا. وحين يتم تعطيل القانون والاستناد فقط إلى التاريخ أو الجغرافيا أو المصالح الذاتية تنشأ الأزمات والصراعات، وتتناثر شظاياها تبعًا لقوة وأهمية وتأثير الأطراف المباشرة للأزمة.
فتأثير ما يحدث في فلسطين أو العراق أو سوريا أو ليبيا ليس بكل تأكيد مثل تأثير ما يحدث الآن بين روسيا والغرب على الساحة الأوكرانية. في كل حالات الشرق تم تغييب القانون؛ إذ إنها جغرافيا لا تشكل صداعًا كبيرًا للقوى الكبرى، ولا تتحمل تلك القوى فاتورة كبيرة جراء تلك الصراعات. بينما الوضع في أوكرانيا جد مختلف؛ على الأقل باعتبار أن ذلك الوضع تتحمل فاتورته بشكل كامل روسيا والدول الغربية، ويخصم بكل تأكيد من هيبة تلك الدول. يفسر ذلك مُضي تلك القوى قدمًا في تحدي كل منهما الآخر، حتى ولو أدى الأمر إلى حرب عالمية جديدة تمارسها روسيا باستخدام القوة المسلحة، بل والتهديد بالسلاح النووي، وتمارسها الولايات المتحدة ومعها أوروبا عن طريق العقوبات الاقتصادية ومحاولة عزل روسيا عن العالم.
الرؤية التي تتبناها الولايات المتحدة والمرتكزة على استدعاء القانون لتبرير موقفها ضد روسيا نجحت بالطبع في تأمين أكبر عدد من الدول للاصطفاف خلف الموقف الأمريكي. البعض من تلك الدول لم يعر يومًا القانون أية أهمية، وانحيازه له الآن ليس دليلًا على إعلاء قيمة القانون ولكنه انحياز مصلحي بحت وربما بضغوط أمريكية غير مسبوقة. البعض الآخر من تلك الدول التي اصطفت إلى جانب الموقف الأمريكي فعلت ذلك لأنها تؤمن وتعتقد تمامًا في أهمية القانون، بل وتراه السبيل الأفضل لتسوية كل الخلافات والصراعات.
المثال الأبرز لتلك الدول هو مصر التي ما تخلفت يومًا عن الانتصار لقيمة القانون وتبني المدخل السياسي لحل كل الصراعات، حتى تلك التي تمس أمنها القومي بشكل مباشر. ومن ثم لم يكن مستغربًا أن تصوت مصر في الجمعية العامة للأمم المتحدة انتصارًا لمبدئها وليس اصطفافًا مع هذا الطرف أو ذاك، مُدينة استخدام القوة وكذلك العقوبات الاقتصادية انطلاقًا من أن الحرب أيًا كانت تمثل خسائر مؤكدة للجميع.
باختصار، فإن الانتصار للقانون والحلول السياسية يبقى هو المدخل الحقيقي لتحقيق السلام والاستقرار، شريطة ألا يكون ذلك امتطاءً للقانون لتحقيق مصلحة طرف أو آخر على حساب أطراف أخرى. وأخيرًا فإنه من الخطر وضع الاعتبارات التاريخية والجغرافيا وحتى القانونية في مواجهة مع اعتبارات الأمن القومي للدول التي تمثل خطًا أحمر للجميع يذود عنه الجميع بكل ما يملكون من مصادر قوة، صلبة كانت أم ناعمة.
رئيس وحدة دراسات الرأي العام