
مشروعات الإسكان الجديدة.. خطوة نحو تقليل التكدس السكاني
“أزمة إسكان” ظلت تتسلل داخل مناطق وأنحاء الجمهورية لعقود من الزمن دون تدخل رسمي ناجز، مما أسهم بشكل أساسي في عمليات البناء العشوائي وغير المخطط، والتعدي على الرقعة الزراعية للبناء، واستمر الوضع على هذا المنوال لعقود وكانت بمثابة مشكلة بلا حل، والتفكير في إعادة تخطيط البنايات العشوائية التي تمت على مدى سنوات هو درب من الخيال. والحل الوحيد – منذ 2010 من قِبل خبراء أجانب- هو الاستسلام للوضع الراهن خاصة مع إمكانيات الدولة المحدودة. لكن الإرادة المصرية أبت أن يظل الوضع على ما هو عليه، واتجهت إلى حل الأزمة ببناء مساكن جديدة وإعادة تطوير وتخطيط المناطق العشوائية وغير المخططة.
مدينة ميتة
ولتصور حجم الأزمة التي وصلت إليها مصر، فلنتدبر كلمات الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، خلال افتتاح عدد من مشروعات الإسكان والطرق بحضور الرئيس عبد الفتاح السيسي، اليوم الأربعاء 2 مارس 2022، عن تصريحات أحد المسؤولين اليابانيين في منظمة “جايكا” أثناء مشروع تخطيط القاهرة في 2010، والذي أكد فيها إنه كإنسان لا يود أن يكون موجودًا في القاهرة في الفترة بين عامي 2020-2030.. فالقاهرة ستكون مدينة مغلقة وميتة.. بمعنى سرعة السيارة فيها لا تتجاوز 8- 10 كيلو متر بسبب الزحام المروري الكبير. وأنه وفقًا لقدرات الدولة المصرية في ذلك الوقت لن تستطيع القيام بعملية التطوير المخطط لها بالمشروع لأن عملية التطوير ستحتاج لمئات المليارات، قائلا: “ده في الأحلام”.
ولنظرة أعمق على الوضع بإقليم القاهرة الكبرى على سبيل المثال، نجد أنها في عام 1970 كانت مساحة الإقليم 52 ألف فدان، وعدد السكان 5.6 مليون نسمة، والكثافة الصافية تقدر بـ 250 نسمة/ فدان، فيما كانت الكثافة الإجمالية تقدر بـ 100 فرد/ فدان. فيما أصبحت المساحة في 2015 حوالي 140 ألف فدان بزيادة 240%، وبلغ إجمالي عدد السكان حوالي 16.8 مليون نسمة بزيادة 300%، فيما وصلت الكثافة السكانية الصافية لحوالي 500 نسمة/فدان وهي كثافة مرتفعة جدًا، وقدرت الكثافة الإجمالية بـ 140 نسمة/ فدان.
وخلال هذه الفترة زادت نسبة الأنشطة غير الإنتاجية بالقاهرة بحوالي 30-35%، فيما زادت نسبة البناء بحوالي 70% على حساب المناطق الخضراء والمفتوحة، ومثلت الطرق أقل من 20% من المساحة الإجمالية مما ينتج عنه التكدس والازدحام، وانخفاض السرعة على الطرق الرئيسية، وتضاعف زمن الرحلات، وإهدار الوقود، ووفقًا للجايكا فقد أكدت إنه إذا استمر الوضع بالقاهرة على هذا الحال سيتم إعلانها “كمدينة ميتة”.
إلا أن الدولة والقيادة السياسية كان لديها إرادة قوية في تعديل هذا الوضع، واستطاعت مصر خلال السنوات القليلة الماضية إقامة مئات المشروعات القومية على وجه العموم، وبقطاع الإسكان على وجه الخصوص، كانت حلمًا حوله المصريون إلى حقيقة ملموسة على أرض الواقع. فكل ما تقوم به الدولة المصرية من تطوير طرق وإنشاء مدن جديدة هو من أجل المواطن في المقام الأول، ولتقدم الدولة وتماشيها مع نظم البناء الحديثة التي تتناسب مع العصر الحديث.
أسباب الأزمة
لكن بعيدًا عما قامت به الدولة من مشروعات لعلاج أزمة الإسكان التي عانت منها الدولة لعقود، واجتثاث جذور سرطان العشوائيات الذي بات ينخر في كافة أنحاء الدولة، يجب في البداية الوقوف على أسباب هذه الأزمة بوصفها أولى خطوات العلاج.
يتمحور سبب مشكلة ظهور العشوائيات والمناطق غير الآمنة حول أنه مع الزيادة السكانية ظهرت الفجوة بين حجم المطلوب من الوحدات السكنية، والمعروض بسعر مناسب، خاصة في ظل غياب حلول أو خطة للدولة على مدى عقود، فعلى سبيل المثال كان إجمالي عدد الوحدات المنفذة عام 2006/2007 من قبل القطاع العام 16567 وحدة سكنية، في حين كان المنفذ من قبل القطاع الخاص يقدر بإجمالي 142482 وحدة سكنية والتي لا تناسب أسعارها كافة المواطنين.
فما تم تنفيذه خلال 38 عامًا (1976-2013) يعادل ما تم تنفيذه في 7 سنوات (منذ 2015 حتى الآن). فخلال الفترة (1976 – 2005) والتي تعادل 30 سنة تم تنفيذ 1.2 مليون وحدة سكنية، بمتوسط 42 ألف وحدة سكنية سنويًا، فيما زادت معدلات البناء قليلًا في الـ 8 أعوام التالية (2005-2013)، ليصبح إجمالي المنفذ 383 ألف وحدة بمتوسط 48 ألف وحدة سنويًا.
كذلك عدم وجود البديل الحكومي الأقل سعرًا والأيسر ماليًا على المواطن خاصة لمحدودي الدخل، وفي ظل غياب الرقابة الإدارية من قبل المحليات، وضعنا أمام حلول عشوائية من قبل المواطنين. وتمثلت الحلول العشوائية في عدة طرق، أبرزها:
- التعدي على الأراضي الزراعية: فخلال الفترة من 25 يناير 2011 حتى يوليو 2019 فقط تمت حوالي مليوني حالة تعدٍ على الأراضي الزراعية أفقدتنا حوالي 70 ألف فدان. وهو ما خلق بؤرًا استيطانية عشوائية تفتقر للمرافق والخدمات.
- البناء في مناطق غير مخططة: ونشأ عنها ما يسمى بالعشوائيات. وتنتشر المناطق غير المخططة على مساحة 152 ألف فدان، بـ 135 منطقة، وتحتاج إلى 318 مليار جنيه، ونشأ عن هذه التجمعات العشوائية 1105 أسواق عشوائية يحتاج تنظيمها إلى 44 مليار جنيه. ويقطن بهذه المناطق 1.1 مليون أسرة، تم تطوير 56 منطقة منها (تمثل 460 ألف أسرة)، وجارٍ تطوير 79 منطقة أخرى (تمثل 690 ألف أسرة).
- خلق مناطق غير آمنة: وهي ناتجة عن البناء العشوائي في مناطق لا تتسم تربتها بالصلاحية الكافية للبناء، أو البناء بطرق تقليدية لا تتناسب مع نوع التربة، أو من خلال زيادة ارتفاعات مباني قائمة بالفعل، وتنتشر المناطق غير الآمنة بـ 357 منطقة بـ 25 محافظة، يقطن بهذه الوحدات 246 ألف أسرة تمثل حوالي 1.2 مليون نسمة. وكانت التكلفة الفعلية المقدرة لعلاجها 63 مليار جنيه. وتحصد محافظة القاهرة نصيب الأسد في عدد المناطق غير الآمنة والتي ينتشر بها 54 منطقة غير آمنة، فتحتاج 70 ألف وحدة لسكن بديل.
هذه الطريقة في الحل من قبل المواطنين كان لها بالغ الأثر على مدى توصيل المرافق للمباني السكنية، فنجد أن حوالي 60% من المباني السكنية غير متصلة بالصرف الصحي حتى عام 2017، بجانب أن 10% من المباني غير متصلة بمرفق المياه، و13% فقط من المنازل تتمتع بمرفق الغاز الطبيعي.
وقد أثر بناء أدوار مخالفة على حالة المباني، فأصبح حوالي 25% من المباني يحتاج إلى ترميم، و1% منها يحتاج إلى الهدم. هذا بخلاف ارتفاع المخزون الحراري للكتلة العمرانية وزيادة معدلات التلوث نتيجة التزايد السكاني بالمنطقة.
فتكمن مشكلة التعدي على الأراضي الزراعية والبناء العشوائي غير المخطط، أو حتى بناء أدوار مخالفة للارتفاع المخطط في أن زيادة المنطقة السكنية عن عدد الوحدات السكنية والسكان المقدر لها يتطلب بالضرورة تعديل تصميم شبكات المرافق المتناسبة مع العدد المقدر مسبقًا للمنطقة. وذلك نظرًا لعدم كفاية المياه التي تضخ بالمنطقة، كذلك عدم قدرة مواسير الصرف الصحي على تلقي تلك الكميات التي تضخ فيها من جميع الوحدات السكنية بالمنطقة. هذا بخلاف زيادة متوسط الكثافة السكانية بالقاهرة عن مثيلاتها بالدول الأخرى، فمثلا وصلت الكثافة السكانية بالقاهرة لحوالي 11 ألف مواطن/ كم2 في حين كانت الكثافة في مكسيكو سيتي 2800 نسمة/كم2، وبباريس كانت 5000 نسمة/كم2.
نسب المباني المتصلة بمرافق المياه، الكهرباء، الصرف الصحي، والغاز الطبيعي وفقًا للنتائج النهائية لتعداد 2017
حلول ناجعة
من خلال توصيف المشكلة وأسبابها ومحددتها تمكنت الحكومة من وضع عدد من المستهدفات لتطوير البيئة العمرانية وتحسن جودة الحياة، فقد تم استهداف أن تصل كثافة السكان إلى 250 نسمة/فدان بدلا من 500 نسمة/فدان من خلال التوسع في إنشاء وتنمية مجتمعات عمرانية جديدة، وخلخلة العمران القائم. وكذلك تخفيض الاستعمالات غير السكنية إلى 20-25% بدلا من 30-35% من خلال عمل مناطق صناعية بالمدن الجديدة.
كذلك بالنسبة لنسب البناء، فمن المستهدف تخفيضها من 70% إلى 50% من خلال زيادة المناطق الخضراء والمناطق المفتوحة بالمدن الجديدة، ووضع الاشتراطات التخطيطية والبنائية الجديدة لحوكمة وضبط العمران في إقليم القاهرة الكبرى على وجه الخصوص. كذلك من المخطط زيادة نسب الطرق إلى 30% بدلا من 20% من خلال رفع كفاءة وتوسع الطرق المقامة وإنشاء شبكة طرق كبرى تربط كافة ربوع الدولة ببعضها البعض، وربط المدن الجديدة والمحافظات المختلفة بإقليم القاهرة الكبرى.
وعن مشكلة توافر السكن وجودته فقد كان لابد لها من وقفة من قبل أجهزة الدولة، واتخذت خطة الحل عدة خطوط متوازية، كان أبرزها ما يلي:
• توفير بديل جيد: في مقابل منع المزيد من البناء العشوائي كان يجب على الدولة توفير بديل جيد يوفر حياة كريمة للمواطنين، وقد أولت القيادة السياسية وأجهزة الدولة اهتمامًا بالغًا بمشروعات الإسكان الاجتماعي، بوصفه بديلًا آدميًا، وذا تكلفة منخفضة، ويتم الدفع وفق إجراءات ميسرة، تتناسب مع كل الفئات وبخاصة محدودي الدخل.
إجمالي عدد الوحدات السكنية المنفذة بمشروع الإسكان الاجتماعي (مشروع المليون وحدة)
ونفذت الدولة الآلاف من مشروعات الإسكان على كافة المستويات، وأصبحت تحظى باهتمام وثقة المواطن نظرًا لجودة المسكن ووجود وسائل دفع ميسرة تصل إلى مدى 20 سنة وبفوائد مخفضة تصل إلى 3% فقط بدعم من البنك المركزي المصري.
وقد صرح الدكتور عاصم الجزار، وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية، اليوم، بأن عدد المواطنين الذين قاموا بسداد مقدمات جدية حجز الوحدات السكنية الجاهزة للتسليم الفوري لمتوسطي الدخل بمشروعات (سكن مصر ودار مصر وجنة) بلغ أكثر من 20 ألف مواطن حتى الآن، بينما تم فتح أكثر من ٤٧٠٤٨ حسابًا جديدًا على الموقع الإلكتروني لصندوق الإسكان الاجتماعي ودعم التمويل العقاري، وذلك خلال أيام فقط من طرح الإعلان الذي ستتم إتاحته حتى 8 مارس المقبل.
• تطوير العشوائيات: فكما استعرضنا سابقًا، يقف البناء غير المخطط والتكدس السكاني خلف الكثير من المناطق العشوائية، وغير الآمنة، وقد تدخلت الدولة لتوفير حياة كريمة لقاطني تلك المناطق، فتم تنفيذ 165.958 ألف وحدة، في 298 منطقة تم تطويرها، بتكلفة 41 مليار جنيه (26 ملياراً للمشروعات + 15 مليارًا قيمة الأراضي)، وجارٍ تنفيذ 74.927 ألف وحدة أخرى، في 59 منطقة جارٍ تطويرها، بتكلفة 22 مليار جنيه (14 مليارًا للمشروعات + 8 مليارات قيمة الأراضي)، وتم تطوير 53 منطقة غير مخططة، وجارٍ تطوير 17 منطقة أخرى، بتكلفة إجمالية 318 مليار جنيه، وفقًا لتصريحات الدكتور عاصم الجزار، وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية.
ومن أبرز المشروعات التي تم إنشاؤها لاستيعاب سكان المناطق غير الآمنة مشروعات إسكان الأسمرات وبشائر الخير، والتي تهدف إلى توفير وحدات سكنية لسكان المناطق العشوائية مفروشة بالأثاث المنزلي والأجهزة الكهربائية مجانًا، على أن تسلم الوحدات بنظام الايجار التمليكي بإيجار رمزي قيمته 350 جنيهًا شهريًا. وصرح الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، بأنه جارٍ الإعداد لخطة مجتمعات متكاملة بمنطقة مسطرد على غرار ما جرى إنشاؤه في مجمع الأسمرات وبشاير الخير، بمساحات الأراضي المملوكة بالدولة.
وبذلت الحكومة كذلك جهدًا كبيرًا في تنفيذ مشروعات الطرق، ولا سيما محاور الطرق القومية، من أجل توفير شبكة طرق قوية تعمل كمواصلات بين أقاليم التنمية الجاري العمل بها، والعمران القائم، وذلك لحل أزمة التكدس العمراني والإسهام في تسهيل الزحف للمدن الجديدة.
مشروعات قومية سكنية تتكلف مليارات الجنيهات يتم افتتاحها يومًا تلو الآخر، لعلاج واجتثاث جذور سرطان العشوائيات الذي بات ينخر في كافة أنحاء الدولة. لكن في واقع الأمر التدخل الحقيقي يجب أن يكون ثنائيًا من قبل المواطن والدولة على حد سواء، لتحقيق تنمية حقيقية مستدامة.
باحث أول بالمرصد المصري