
جدلية العنف القائم على النوع بين الريف والحضر
يتفاوت العنف القائم على النوع الاجتماعي بتفاوت نوعه وحدّته؛ فيتمثل العنف المباشر في الإيذاء الجسدي أو الجنسي، بينما يتضمن العنف غير المباشر الإيذاء النفسي واللفظي وكافة أنواع الحرمان الاجتماعي والاقتصادي. كذلك يختلف العنف باختلاف مصدره؛ فهناك العنف الأسري، والعنف في محل العمل. ويعرف صندوق الأمم المتحدة للسكان العنف ضد المرأة بأنه أي عمل من أعمال العنف القائم على النوع الاجتماعي ينتج عنه أو من المحتمل أن يؤدي إلى الأذى أو المعاناة الجسدية أو الجنسية أو النفسية للنساء والفتيات.
وهذا يشمل التهديدات بمثل هذه الأفعال أو الإكراه أو الحرمان التعسفي من الحرية، سواء حدثت في الحياة العامة أو الخاصة. وقد ناقش العديد من الأبحاث والدراسات أسباب العنف القائم على النوع الاجتماعي ونسبته وفقًا للمقياس الجغرافي بين الريف والحضر، فهل يؤثر التحضر على نسب العنف ضد المراة؟!
العنف ودرجة التحضر
تختلف محفزات ومخاطر العنف القائم على النوع الاجتماعي باختلاف درجة التحضر، ويرجع ذلك إلى الخصائص والسمات الاجتماعية والاقتصادية الفريدة لكل من القرية والمدينة؛ فالأعراف الثقافية والاجتماعية تمثل أحد أسباب الوعي بالعنف، إذ يتأثر تشكيل مفهوم العنف بقواعد السلوك المجتمعي المستمدة من النسق القيمي لكل مجتمع على حدة. وعليه تختلف درجات وأشكال العنف باختلاف البيئات الجغرافية؛ فالأعراف الاجتماعية في الريف تناقش قضايا ختان الإناث أو توريث المرأة أو ضرب الزوج لزوجته من منظور مختلف عن الأعراف في البيئات الحضرية.
وتبرهن على ذلك نتائج دراسة محددات العنف الزوجي ضد المرأة في مصر الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء بدعم اليونيسيف عام 2018؛ فقد أثبتت الدراسة أن 91.8% من السيدات اللاتي قد سبق لهن إجراء عملية الختان كُنّ عرضة للعنف الزوجي، وأن نسبة العنف الزوجي ترتبط بدرجة التحضر، إذ سجلت المحافظات الحضرية نسبة عنف قدرها 20.4%، وارتفعت النسبة في ريف محافظات الوجه البحري إلى ما يقرب من 24%، وبلغت أعلى معدلاتها بنسبة قدرها نحو 33% في ريف محافظات الوجه القبلي، .
الشكل (1)
التوجه نحو إنجاب مزيد من الأطفال بدعوى “العزوة” هو أيضّا شكل من أشكال الأعراف الثقافية المنتشرة في الريف مقارنة بالحضر، وتمثل أحد دوافع ومحفزات العنف القائم على النوع الاجتماعي؛ فبحسب نتائج الدراسة السابقة كلما اختلفت آراء الزوجين تجاه إنجاب المزيد من الأطفال كلما زادت احتمالية الانتقال إلى مستويات عنف أعلى.
كذلك يعد زواج الأقارب سمة من السمات الثقافية المنتشرة في الريف عن الحضر، ويقترن بظاهرة السكن مع عائلة الزوج، والزواج المبكر أو صغر عمر الزوجة. وتوجد علاقة واضحة بين صغر عمر الزوجة وتقبل العنف الأسري؛ إذ تنخفض معدلات رفض العنف الأسرى لدي الشباب المتزوج من زوجات بلغت أعمارهن أقل من 18 سنة عند بداية الزواج، مقارنة بالشباب المتزوجين من فتيات بلغن من العمر أكثر من 18 سنة عند بداية الزواج بنسب قدرها 17.8% و24% على التوالي شكل (2).
وتنطبق نفس النتيجة تقريبًا على الشابات المتزوجات بنسب قدرها 25.3% و29.6% على التوالي وفق نتائج المسح التتبعي للنشء والشباب في مصر SYPE الصادر عن مجلس السكان الدولي بالتعاون مع الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عام 2014.
ذلك إلى جانب محددات سببية وسياقية أخرى كالمستوى التعليمي، وحجم العمالة النسائية، ومدى تمكين المرأة اقتصاديًا، والتي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بدرجة التحضر. ويسهم النسيج الاجتماعي والمؤسسي للمدن بشكل ملحوظ في جعل النساء أقل عرضة للعنف القائم على النوع الاجتماعي؛ فالمدن تزود النساء بفرص أكبر للتعامل مع العنف بشكل أكثر فاعلية فيما يتعلق بسرعة الوصول إلى الدعم المؤسسي، أو توفير الأنشطة التوعوية لمناهضة العنف بكل أشكاله.
توعية وتنمية أم تشريع؟!
يُكبد العنف القائم على النوع الاجتماعي أي دولة تكلفة اجتماعية واقتصادية مضاعفة؛ نتيجة للآثار السلبية والصحية التي يخلفها. وترتبط التكاليف المباشرة بالنفقات المتعلقة بالرعاية الصحية والخدمات القضائية، بينما تضم التكاليف غير المباشرة خفض الإنتاجية وتكوين رأس المال البشري على المدى البعيد، خاصة مع تزايد نسب الطلاق أو عزوف الشباب عن الزواج، علاوة على سوء معالجة ومناقشة قضايا العنف الأسري إعلاميًا، فوسائل الاعلام تلعب دورًا محوريًا في تشكيل الوعي بالعنف أو اللا عنف القائم على النوع الاجتماعي.
وفي هذا الصدد توضح نتائج دراسة تحليلية بعنوان: “الخطاب الصحفي لقضايا العنف ضد المرأة في الصحافة المصرية بالتطبيق على صحيفة الوطن عام 2017” أن الخطاب الصحفى لقضايا العنف ضد المرأة يعكس حالة التناقض بين ما تسعى الدولة ومؤسساتها إلى ترسيخه، وبين ما هو قائم بالفعل في المجتمع نتيجة لاستمرارية الموروثات والعادات وفق ثقافة ذكورية تقوم على التمييز.
كذلك، توضح الدراسة أربعة أُطر مرجعية لقضية العنف ضد المرأة: أولها الإطار الدينى كمرجعية ترتبط بالفهم الخاطئ للدين، وفوضى الفتاوى التى يقوم بها بعض الدعاة، ثم الإطار الأخلاقى من خلال بث أفكار ودعوات تتعارض مع القيم المجتمعية والإنسانية، ويليه إطار الإدانة لتصريحات بعض الإعلاميين والمشاهير أو رجال الدين والقانون والنواب البرلمانيين، وأخيرًا الإطار المرجعي القانوني.
تتفق هذه الأطر بشكل كبير مع ما جاء في تقرير صندوق الأمم المتحدة للسكان UNFPA للتحضر والجنس والفقر الحضري الصادر عام 2012، والذي تضمن نهجًا متعدد الأبعاد لمناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي، وخاصة العنف ضد المرأة. يتناول البُعد الأول من هذا النهج “تعزيز السلامة والأمن الحضريين من خلال التخطيط الحضري الفعال والتصميم والحوكمة من منظور جنساني في المدن والقرى على حد سواء”.
ويعرف هذا النهج باسم “منع الجريمة من خلال التصميم البيئي (CPTED)، ويتضمن هذا البعد تطوير أو تغيير البنية التحتية الحضرية والنسيج المادي للقرية أو المدينة، وفي هذا الصدد من المهم بمكان أن يتضمن مشروع تطوير الريف المصري “حياة كريمة” دراسات مسحية اجتماعية لأثر تطوير القرى على خفض نسب العنف الأسري والعنف القائم على النوع الاجتماعي.
أما البعد الثاني فيتناول “تعزيز أنظمة العدالة الجنائية الرسمية والعمل الشُرطي من منظور جنساني”، والذي يرتكز على الإصلاح القانوني والتشريعي. وعلى صعيد متصل، تم بالفعل إعداد مشروع قانون موحد لمكافحة العنف ضد المرأة بمشاركة سبع منظمات حقوقية، وبصدد مناقشتة واعتماد إصداره خلال العام الجاري.
يتضمن البُعد الثالث “النهج المجتمعي لتعزيز السلامة والأمن الحضري وتقليل عوامل الخطر من منظور النوع الاجتماعي”، ويشمل هذا البعد إجراء تقييم مجتمعي حول طبيعة العنف القائم على النوع الاجتماعي، وجرد العوامل البيئية كحملات التوعية البصرية في الشوارع أو تدشين خط ساخن لنجدة المعنفين؛ بهدف زيادة التوعية المجتمعية، ونشر ثقافة اللاعنف، من خلال تعاون جميع الهيئات والمؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني.
البُعد الأخير هو: “حل غير عنيف للنزاعات من منظور جنساني” من خلال”: تقليل الإجراءات القضائية، والاعتماد على الحلول الاستباقية بتوفير آليات الدعم الاجتماعي الرسمية وغير الرسمية، كوحدات المشورة قبل الإقبال على الزواج، أو توفير تدريبات لتأهيل المقبلين على الزواج، والأهم هو إشراك الرجال -وخاصة الشباب- في برامج مجابهة العنف القائم على النوع الاجتماعي.
باحثة ببرنامج السياسات العامة