أفريقيامصر

عين على الجنوب: التقارب المصري الجيبوتي

تعكس التحركات المصرية الإفريقية وفي القلب منها التحركات في منطقة القرن الإفريقي وحوض النيل، رؤية القيادة السياسية بعد 30 يونيو لمحددات وثوابت الأمن القومي المصري، وفي القلب منه الدائرة الإفريقية. فعلى الرغم من اتساع نطاق ومحددات الأمن القومي لما هو أبعد من الجغرافيا السياسية، إلا أن موقع مصر الجغرافي فرض استمرارية بقاء الجغرافيا حيّة في عقلية وعقيدة صانع القرار المصري عند صياغته لمقومات وأبعاد الأمن القومي وسياسة مصر الخارجية. 

وبالنظر إلى الجنوب، فإن الدائرة الإفريقية لم ولن تفقد محوريتها كجزء من الهوية والسياسة المصرية، بغض النظر عمّا طال العلاقات من فتور خلال العقود الماضية، فمع تراجع مركزية إفريقيا في سياسة مصر الخارجية عمّا كان الحال عليه في عهد مصر الناصرية، خفت الحضور المصري تدريجيًا منذ عهد السادات مع ميوله الغربية، واشتد ذلك الغياب في عهد مبارك، الذي استمر في توجهاته الخارجية مثل سابقه، علاوة على واقعة اغتياله في أديس أبابا في منتصف التسعينيات، التي أدت في نهاية المطاف إلى اقتصار العلاقات المصرية الإفريقية على المستوى المؤسسي، مع غياب القيادة والرؤية السياسية. 

ومع تغير النظام السياسي وإعادة صياغة السياسة الخارجية في عهد الرئيس السيسي، استعادت الدائرة الإفريقية محوريتها في سياسة مصر الخارجية؛ استجابة للضغوط والتحديات المتصاعدة ولمتطلبات الأمن القومي في ظل إقليم يشهد تحولات استراتيجية متسارعة. وانعكس تنامي إدراك القيادة السياسية للأهمية الإفريقية على الكيفية التي تصيغ بيها الرؤية والتحرك جنوبًا؛ وهي التحركات التي تعمل على تعزيز الحضور واستعادة المكانة؛ لذا فإن العلاقات المصرية الإفريقية، وأي تحرك مصري في القارة، بات يوصف بكونه استعادة للمكانة أو التقارب، بما يعكس وجود شبكة علاقات مؤسسية راسخة بالفعل على مستوى الدبلوماسية والمؤسسات الرسمية، لكن لم تكفِ هذه الروابط المؤسسية لضمان المصالح المصرية في المنطقة، في ضوء احتدام التنافس الدولي والإقليمي، وتغير معادلات المنطقة استراتيجيًا.

في ضوء هذا المشهد، جاءت كافة التحركات المصرية في منطقة القرن الإفريقي وحوض النيل، ترجمة لرؤية القيادة السياسية بأهمية إعادة التموضع في المنطقة التي تشهد تحولات استراتيجية وإعادة صياغة للتحالفات والعلاقات البينية بين دوله وخارج الإقليم.

جيبوتي والمكانة الاستراتيجية

رغم صغر مساحتها وعدد سكانها إلا أن جيبوتي استطاعت أن تنتهج سياسة الدول الصغرى التي رسمت لنفسها موقعًا محوريًا في المعادلة الإقليمية والدولية تتجاوز مقوماتها الفعلية، واستطاعت جيبوتي من خلال الموقع تحقيق أهمية استراتيجية، على جوانب متعددة:

  •  يمر بجيبوتي أغلب النفط المتجه إلى أوروبا والولايات المتحدة، بما جعلها ساحة للتنافس الإقليمي والدولي لتأمين المصالح التجارية الدولية، وهو الوضع الذي أدى في النهاية إلى عسكرة المنطقة، عبر استئجار القواعد العسكرية والموانئ، التي أصبحت عصب الاقتصاد الجيبوتي.
  • استضافة جيبوتي قواعد عسكرية لأطراف متنافسة استراتيجيًا؛ إذ تستضيف قاعدة فرنسية كأقدم القواعد الموجودة بأراضيها، إضافة إلى وجود قواعد لكل من الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وإسبانيا وأخيرًا الصين التي افتتحت أول قاعدة عسكرية خارج حدودها في جيبوتي عام 2017.
  •  توظيف الموقع الجغرافي لخدمة الاقتصاد الذي يعتمد على الموانئ وخدمات النقل واللوجستيات؛ إذ تم الترويج لجيبوتي بوصفها مركزًا إقليميًا ولوجستيًا في المنطقة، فاستطاعت تطوير بنيتها الاقتصادية وفقًا لهذا الأساس، مع الاعتماد على تطوير الموانئ والمناطق الحرة، حيث استطاعت جذب الاستثمارات في قطاعات البناء والتشييد والنقل والخدمات اللوجستية. 
  • تشهد جيبوتي حالة من الاستقرار السياسي النسبي، مقارنة بإقليم مضطرب، علاوة على الرغبة الدولة في الحفاظ على هذا الاستقرار بما يحفظ مصالح التجارة الدولية، وهو الأمر الذي يجعلها نقطة جذب إقليمي. بجانب أن هذا الاستقرار النسبي يوفر لها هامش حركة إقليمية، مع استضافتها كذلك لمقر الهيئة الحكومية للتنمية (إيجاد) بما يضمن لها حضورًا دبلوماسيًا في معادلة منطقة شرق إفريقيا. 
  • يُعد الاعتماد الإثيوبي عليها في التجارة الدولية ميزة استراتيجية يعتمد عليها الاقتصاد الإثيوبي، إلا أن هذه الميزة تشهد تحديًا مع البحث الإثيوبي عن تنويع الخيارات، بما يجعل من الأهمية بمكان لجيبوتي البحث عن بدائل لخياراتها الاستراتيجية. علاوة على كونها جزءًا من مبادرة الصين “الحزام والطريق”، وكذلك تدشينها لواحدة من أكبر مناطق التجارة الحرة في القارة، يرفع من الأهمية الاستراتيجية لجيبوتي في مشروعات البنية التحتية الإفريقية، ومنطقة التجارة الحرة القارية.

جيبوتي بعيون مصرية

تعد جيبوتي هي الحارس الجنوبي للممر المائي الأهم دوليًا، والذي تُعد مصر الحارس الشمالي له؛ لذا فإن وقوع جيبوتي على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر يجعل دورها محوريًا في أية ترتيبات ومعادلات إقليمية لأمن البحر الأحمر. وانطلاقًا من تلك الأهمية، فإن التقديرات الاستراتيجية المصرية لجيبوتي تستند إلى اعتبارات عديدة، من بينها:

  •  جيوبتي واحدة من الدول العربية الإفريقية التي تشارك مصر في النظام الإقليمي للبحر الأحمر، وأسهم موقعها الاستراتيجي في كونها تشارك مصر كدولة ممر للتجارة والنفط الدوليين؛ حيث تمر التجارة بمضيق باب المندب وجيبوتي قبل وصولها إلى قناة السويس. فضلًا عن أن استضافة جيبوتي لهذا الكم من القواعد العسكرية يجعل من الأهمية تنسيق المصالح الأمنية المصرية في منطقة البحر الأحمر، بدءًا من تأمين باب المندب، وصولًا إلى القاعدة العسكرية المصرية “برنيس” على البحر الأحمر.
  •  جيبوتي واحدة من الدول التي تشارك مصر عضوية كل من الاتحاد الإفريقي وتجمع دول شرق وجنوب إفريقيا “الكوميسا” وجامعة الدول العربية ومجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن، وهي الأطر المؤسسية التي تجعل من الأهمية توحيد وتنسيق المواقف والرؤى حيال التحولات والترتيبات الجديدة في المنطقة.
  • تأثر القرار الاستراتيجي لجيبوتي بطبيعة التوازنات في المنطقة؛ فعلى الرغم من فرضية أنها جزء من الخط العربي العام -كونها حتى الآن لم تراجع موقفها من العلاقات مع إسرائيل مثل غيرها من الدول العربية- إلا أنها في الوقت ذاته لم تتبنى موقفًا مؤيدًا للموقف المصري في قضية السدّ حينما ناقشتها جامعة الدول العربية، وهو الأمر الذي دفع بضرورة إعادة صياغة العلاقات المصرية بجيوبتي، وفقًا لواقع جيواستراتيجي جديد قيد التشكل.
  • وارتباطًا بتلك الرؤية، أشركت مصر الرئيس الجيبوتي، إسماعيل عمر جيلة، في القمة المصغرة التي استضافتها القاهرة، لبحث الملفين الليبي والسوداني، عام 2019. وأخيرًا تلك التي جمعته بالرئيس السيسي في القاهرة خلال الشهر الجاري، للتباحث حول المستجدات الإقليمية والبحث في الرؤى المشتركة.
  • تحوز جيبوتي أهمية بالنسبة لدبلوماسية البنية التحتية التي حققت مصر فيها تجربة رائدة تسعى إلى تعميمها إفريقيًا، في إطار مشروعات التكامل الاقتصادي والربط القاري. ولعل جدول أعمال القمة الأخيرة بين رئيسي البلدين جاء متسقًا مع طبيعة الإمكانيات والأهداف المتعلقة بالمناطق اللوجستية ومشروعات الربط والتكامل، بما يدعم جهود التنمية. 

مجمل القول؛ إنه على الرغم من وجود علاقات مؤسسية ورسمية بين البلدين، إلا أنها لم تترجم إلى تقارب حقيقي يحفظ لمصر موطئ قدم ضمن معارك التنافس الدولي، نظرًا لغياب القيادة السياسية عن المنطقة العقود الماضية. وبالطبع كانت جيبوتي حاضرة على أجندة صانع القرار المصري؛ استجابة للتقديرات الاستراتيجية التي دعت إلى ضرورة عودة الحضور المصري في منطقة القرن الإفريقي وحوض النيل. 

ومع التحرك المصري الهادئ جنوبًا، كانت جيبوتي جزءًا من هذا التحرك، فكانت زيارة الرئيس السيسي إلى جيبوتي العام الماضي، أول زيارة لرئيس مصري منذ استقلال جيبوتي عام 1977، بما يؤكد غياب القيادة السياسية طوال عقود، في الوقت الذي يؤكد عودة الوعي والإدراك لأهمية إصلاح الأخطاء الاستراتيجية التي ولّى عهدها ولا يزال يمتد أثرها.

وانعكس هذا الإدراك على العلاقات البينية على كافة الأصعدة السياسية والأمنية وكذلك الاقتصادية، من خلال تعزيز دور دبلوماسية القمة كأعلى مستوى دبلوماسي بين البلدين، يمهد للاستثمار في العلاقات بينهما، في ضوء رئاسة مصر الحالية لتجمع دول شرق وجنوب إفريقيا “الكوميسا”، وكذلك عضوية جيبوتي في مجلس السلم والأمن الإفريقي لثلاث سنوات قادمة، بما ييسر آفاق التعاون في القضايا الاقتصادية والأمنية على المستوى الإقليمي بين البلدين. 

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

شيماء البكش

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى