الحراك الشعبي العربي وأثره على الهويات الوطنية وتمايز الأيدلوجيات
سواء في التاريخ أو النظريات السياسية، دائمًا ما تقترن الهوية بالدولة، ويرتبط التفكير في الأولى بالنظر في الثانية، ولذلك، كان لابد للحراك الشعبي العربي وهو يطيح بالأنظمة السلطوية أن يستدعي التفكير اولًا في الدولة ومصلحة بقاءها. وكان لابد لهذا الاستحضار ان يقود بالضرورة لتساءل ما هو واقع ومستقبل “هوية الدولة الوطنية” بعد الحراك الشعبي؟
إن الأرض والهوية والدولة مفاهيم تشكّل. وفيما يخص هوية الشعوب، فهي وحدةٌ لا يمكن الفصل بين عناصرها الثلاث لأنها جميعًا تُعبِّر عن مفهوم الأرض التي تمنح هويتها لكلًا من الشعب والدولة التي تُمثّل ذلك الشعب في تلك الأرض.
تطور أزمة الهوية في العالم العربي
أن أزمة الهوية موجودة منذ زمن؛ تطورت مع ظهور العولمة كعقيدةٍ للدول الكبرى محاولةٍ نشرها في دول العالم وخاصة في دول العالم النامي. لكن الحراك العربي ساعد على تجلي الأزمة ووضوحها؛ إذ أن ما قبل الحراك العربي كان الحكم الديكتاتوري يضغط على التيارات المختلفة في الدول العربية فلا تظهر التمايزات الأيديولوجية بين التيارات المختلفة؛ لكن بعد كسر حاجز الخوف ظهرت تلك الإيديولوجيات وبدأت بالصراع حول من الأصح، ومن يجب أن يحكم، ومن يجب أن يُمثّل المجتمع.
وأبرز ما يميز أزمة الهوية العربية هي نظرية المؤامرة التي يفترضها
العقل العربي في كل أزمة تواجهه، وذلك انطلاقًا من حالة السيولة الثورية التي
شهدها الشارع العربي منذ عام 2011 وحتى الآن. وأيضًا المفاهيم التي تُطلق على كل شخصٍ مختلفٍ
عن السياق العام سواء علماني، إسلامي، منفتح، متشدد، دون محاولة اعتبار المتغيرات
الجديدة على أنها صياغات جديدة للهوية تأتى نتيجًة لمواجهة متطلبات العصر بعد العولمة،
وتداخل الثقافات، وسرعة نقل المعلومات.
ومن ناحية أخرى، تتميز أزمة الهوية العربية بمفهوميِّ الهوية والدين،
والتي اتخذت منحنًى أكثر سلبية في الدول العربية، ناتج عن ارتباط الدين بالحكم، أو
بشكلٍ أصح وجود أيديولوجية لدى الفئات الدينية المتشددة، تسعى للحكم وتغيير وجه
المجتمع ليأخذ طابعًا دينيًا بالقوة مما أدى إلى عزوف شريحةٍ كبيرةٍ من الأفراد عن
كل فكر يرتبط بالدين.
وهذا ما فسرهاستطلاع الرأي الذي أجرته الـ BBC حول تزايد أعداد العرب الذين يديرون ظهورهم للدين والتدين. فمنذ عام 2013، ارتفعت نسبة الذين يصفون أنفسهم بأنهم “غير متدينين” من 8 % إلى 13 %، وكانت نسبة الزيادة الكبرى بين من هم دون الثلاثين من أعمارهم؛ إذ تبلغ نسبة “غير المتدينين” في تلك المجموعة 18 %.
سوريا واليمن أبرز الدلائل
أبرز الاحداث التي برزت فيها أزمة الهوية “الثورة السورية”؛ فالحكم العلوي الذي استمر أربعين سنة سرعان ما تحول إلى حكمٍ كافرٍ في بداية الثورة في نظر السوريين وبعض الدول المجاورة لها، ثم ظهر الجيش الحر الذي اتخذ في معظمه منهجًا علمانيًا وبدأت الانفصالات عنه، ثم ظهرت الفصائل الإسلامية مثل: جبهة النصرة، والجيش الإسلامي، وأحرار الشام، وفصائل أخرى مثل: وحدات حماية الشعب الكردية، وكتائب التركمان السورية. لتصبح الأراضي السورية عبارًة عن مناطق متناحرة في محاولةٍ لفرض هوية فصيلٍ ما على الفصيل الآخر في غيابٍ تامٍ لهوية الدولة السورية، وعلى الفرد الذي يتواجد في إحدى هذه المناطق أن يُكيف هويته بما يتناسب مع الهوية الجمعية للفئة المسيطرة ويبدأ الصراع بين الهوية الفردية والهوية القسرية وهوية الدولة السورية التي قُسمت بين هذا وذاك.
وبالنظر إلى اليمن التي تبرز فيها أزمة الهوية بشكلٍ واضح؛ حيث ينقسم المجتمع إلى الإخوان المسلمين (في تعز وصنعاء)، وأنصار الله (الحوثيين) (على أطراف السعودية)، والسلفيين (في دمَّاج والعلمانيين)، والماركسيين الانفصاليين في الجنوب.
وتتجلى الأزمة في المعارك التي قامت بين هذه الفئات. على الرغم من التقارب الفكري بين بعض الفئات إلاّ أنها رفضت الدفاع عن مناطق بعضها البعض، وهنا تتحلل الجماعات من هويتها لتحل المصالح مكان العقيدة والايديولوجيا لهذه الفئات.
أبرز الآثار المترتبة
- تفكيك المؤسسات الدينية والتربوية
عرفت الدول العربية تجارب خاصة في علاقتها مع الإسلاميين عمومًا والتطرف الديني خصوصًا. حيث سعى الأخير إلى فرض ايدولوجيته بالعنف المسلح، بل وشَرَعَ في تكفير هوية الدول وقتل كل من يعارض هويته.
سابقًا، انتهجت معظم الدول استراتيجية مؤسَسَة على ابتعاد الدول عن تسيير المؤسسات الدينية، خاصة المسجد. لكن بعد التجارب المريرة لتلك الحكومات مع المتشددين، شرعت في وجود استراتيجية جديدة مؤسَسَة على تنظيم الشأن الديني. وتلك الاستراتيجية جاءت كنتيجة دفاعية حاولت من خلالها الحد من التطرف الديني. وبالتالي، تجفيف منابع الإرهاب بجانب التركيز على إعادة انتاج الهوية الوطنية في المناهج التربوية والمؤسسات الإعلامية، وهذا ما حدث في الشأن المصري.
وبالنظر إلى الشأن السوري نجد حالة التفكك الواضح في المؤسسات الدينية والتربوية، بل انعدام وجودها في معظم بؤر الصراع وضعف دورها في أماكن أخرى. وبالتالي، ضعف الهوية، والقيم الوطنية، وظهور عديد من الثقافات غير السوية الدخيلة على المجتمع السوري. وعلى سبيل المثال لا الحصر تجلت ظاهرة المثليين التي أعلنت عنها صحيفة “غارديان” عبر نشر مقالاٍ وجهت فيه طلباً للسلطات في لندن بتوفير السكن والدعم لخمسة عشر مثليًا من سوريا.
وما حدث في تونس للمحامي التونسي “منير بعتور” الذي أفصح علنا عن مثليته الجنسية، وأعلن عن ترشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة في تونس والمقرر عقدها شهر نوفمبر 2019. وصرح بعتور لـ DW “أن ما تحقق في مجال الحقوق والحريات في تونس مازال يشوبه كثير، و من خلال الاطلاع على الساحة السياسية التونسية تبين أن ما أطالب به في مجال نضال الجمعيات والمجتمع المدني لم يتبناه أي مرشح أخر، وخاصة مسألة الحريات الفردية والمساواة بين الرجل والمرأة، فأردت أن تأخذ هذه المسائل حيزا أكبر في النقاش الذي سيقع أثناء الحملات الانتخابية”.
- ضياع مفهوم الأمن القومي ومجالاته
ترك الساحة الفكرية والإعلامية لصعود الهويات الفرعية، جعل من مفهوم الأمن القومي قاصرًا على الخاص بدلًا من العام. وبالتالي، صعود نظرية الأمن الإنساني بدلًا من الأمن القومي؛ وعليه أصبح التركيز على بقاء واستقرار الدولة كهدفٍ رئيسٍ لتحقيق الأمن قابلًا للنقاش.
وما يحدث من ظاهرة “الإحلال الثقافي” خير دليل، فبعد عملية تفريغ الدولة من هويتها الوطنية يتم إحلال الهوية الجديدة والتي لا تعترف بالحدود، والتاريخ. بدليل ما حدث في برنامج غنائي في نسخته الإسرائيلية حيث أثارت مشاركة فتاه فلسطينية من بلدة الناصرة جدلا على منصات التواصل الاجتماعي بين من أشاد بموهبتها ومن أغضبته مشاركتها في النسخة الإسرائيلية للمسابقة. وبالتالي أصبح تداخل الثقافات والفنون بين الدول المحتلة ودول الاحتلال أمرًا دارجًا لدى شريحةٍ ليست بالقليلة بل وقابلة للتمدد.
- انعدام الهوية الاقتصادية
للهوية الاقتصادية دورٌ مهمٌ في تحديد توجه المجتمعات وتحديد خياراتها لمناحي الأنشطة المختلفة من سياسية واقتصادية واجتماعية. كما يؤدي إلى تحديد المسار العام للدولة وخطط التنمية المستدامة بها.
وبالنظر الى الحالة اليمنية؛ هل الهوية الاقتصادية لليمن ستتبع الإخوان المسلمين المسيطرين على تعز وصنعاء؟ أم الحوثيين المتمركزينعلى أطراف السعودية؟ أم ستتبع رؤية العلمانيين والماركسيين الانفصاليين؟
وما حدث في ليبيا من دخول مجموعات إرهابية مثل تنظيم داعش قطاع النفط وتوظيف موارده في سبيل نشر أيدولوجيته القائمة على العنف والقتل يدلل على ضعف او انعدام معدلات التنمية الحقيقية في ليبيا.
ختاما، رغمالتعقيدات السابقة والتغيرات الكثيرة التي مرَّ بها المجتمع العربي نتيجة الانفتاح على العالم، والفيض المعرفي سابقًا، والحراك العربي الثوري الممتد من عام 2011 حتى وقتنا الراهن؛ وما نتج عنه من آثارٍ مدمرةٍ في مجملها، إلا أنه يبقى من الأهمية صياغة خطاب إيديولوجي واضح وموحد على مستوى الدولة، ووضع أسسه ومبادئه القابلة للتطبيق على أرض الواقع.
ويجب أيضا التحرر من الإيديولوجيات الانفصالية والاستعبادية والاحتكارية التي نمى المجتمع العربي في ظلهامؤخرًا ، كما يجب توجيه المراكز التربوية والتعليمية والإعلامية للعمل على إعادة تشكيل صورة الهوية الوطنية في أذهان النشء.