مقالات رأي

“دون كيشوت” والعبث بتجديد الخطاب الديني

دون كيشوت ومحاربة طواحين الهواء. هذا المشهد من رواية الأديب الإسباني ميجيل دي سيرفانتس قبل نحو أربعة قرون يقدم تفسيرًا معتبرًا لتلك الحالة المؤسفة التي بطلها إعلامي نصّب نفسه رجل دين مجدِدًا يتوهم في قدرته على حمل راية تجديد الخطاب الديني عبر قنوات تليفزيونية تأنس دائمًا لتقديم كل شاذ أو صادم للمجتمع باسم حرية الرأي والتعبير والتنوير، خاصة في مساحات “المختلف عليه”، فبدت وبدا معها عن قصد أو بدون قصد كأنهما معولًا في الحروب الإعلامية المسعورة التي يقودها محور أهل الشر ضد مصر وتدين شعبها منذ ثورة 30 يونيو 2013. 

لم يكن من المتصور أبدًا بعد ما يزيد عن ألف وأربعمائة عام وفي ظل الدعوة لتجديد الخطاب الديني وإحياء فضيلة الاجتهاد، أن يشهد المجتمع “دون كيشوت” جديد يبحث في سراديب التراث الإسلامي عن قضايا صادمة ومواقف وآراء آحاد أو نكرات أو مغرضين ليقدمها للمجتمع على أنها منظور آخر للدين. 

لم يكن متصورًا أن تتجسد شخصية “دون كيشوت” على مسرح لا يحتمل إعادة انتاج مثل تلك الشخصيات في قضايا حسمها المصريون بتدينهم الفطري. فمسرح الإعلام ودوره في تجديد الخطاب الديني الآن أحد أهم مسارح أو ساحات الحرب الفعلية التي تتطلب فرسانًا حقيقيين يعرفون طبيعة المعارك المطلوبة، وليس من يتوهمون أنفسهم فرسانًا من نوعية دون كيشوت، بينما هم لا يمتلكون من مؤهلات الفروسية سوى كثرة القراءة في كتب المختلف عليه التي كادت تذهب عقلهم. 

دون كيشوت سيرفانتس الذي ناهز الستين من عمره لم يسعفه ذكاؤه طبعًا ليعرف أن الفروسية لا تؤتى بالقراءة فقط. “دون كيشوت” استل سلاحًا قديمًا وبعضًا من المعدات لتجعل من هيئته هيئة فارس، وامتطى حصانًا هزيلًا، وبدأ أولى معاركه بأن حارب طواحين الهواء ظنًا منه أنها شياطين ذات أذرع خفية وأنها مصدر الشر، وأخذ يرشقها برمحه؛ ظنًا منه أنه قد يطرحها أرضًا. 

هكذا يفعل “دون كيشوت” 2022، إذ استل سلاح الروايات المهجورة بل والممجوجة -وهي للأسف ليست بالقليلة- متصورًا أن حرية الرأي والتعبير تعطيه الحق في التعرض لما يعتقد المصريون والمسلمون عامة أنه من ثوابت دينهم، غير مراعٍ لوقع ذلك على مشاعر من يخاطب، وغير مبالٍ -أو بالأحرى غير محترم- لما تقرره قوانين الدولة ومواثيق إعلامها في هذا الشأن. 

والأهم والأخطر تعمد الإساءة لمعتقدات المسلمين فيما يتصل بالإسراء والمعراج، بينما يحتفلون بذكراها المحببة إلى قلوبهم. المسلمون وخاصة المصريون منهم يكرهون المساس بأي شكل بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعنيهم وجود بعض الروايات الشاذة التي تشكك في أي من هؤلاء الصحابة في نوع من القداسة التي تعني الاحترام بأكثر مما تعني أن هؤلاء الصحابة مقدسين ومعصومين. 

تلك الروايات التي يحاول “دون كيشوت” 2022 ومن لفّ لفّه أن يفرضها على المصريين بوصفها روايات معتبرة يجب الالتفاف إليها باسم تجديد الخطاب الديني وباسم الرأي والرأي الآخر، تلك الروايات شاذة، ولا يمكن تفهم التشبث بها على ذلك النحو للطعن في الصحابة إلا إذا كان الهدف تشويه هؤلاء الصحابة وتسفيه موقف من يقتفون أثرهم. قال “دون كيشوت” قبل أيام -ودائمًا ما يقول- إن المشايخ السلفيين قالوا كذا وكذا اعتمادًا على الروايات المعتمدة، بينما هناك من يقول عكس ذلك اعتمادًا على الروايات الشاذة.

المدهش أن الرجل وهو يدين موقف السلفيين لأنهم لم يتطرقوا للرأي الآخر الذي يفخر به، يتبنى هو ذلك الرأي الآخر مُسفّهًا رأي السلفيين، وكأن كل ما يقوله السلفيون يجب هدمه والتخلص منه، ولا عزاء للمصريين وما يعتقدون في صحته، فقط لأن السلفيين يتبنونه، وأن ذلك التبني يكفي لحث المصريين على رفض ذلك الموقف ويكفي لحشر موقف “دون كيشوت” في إطار معركة تجديد الخطاب الديني.  معركة “دون كيشوت” وأمثاله معركة خاسرة لأنها أصبحت معركة الاصطدام بثوابت المصريين وليس السلفيين، لذا تبدو تلك المعركة وكأنها ضد طواحين الهواء. 

نتيجة محاربة طواحين الهواء معروفة سلفًا. المشكلة الحقيقية أن تلك النتيجة المعروفة سلفًا ستلقي بثقلها على معركة المصريين الأهم وهي تجديد الخطاب الديني وتخليصه من كل ما علق به من شوائب تكدر حياة المصريين والمسلمين عمومًا، والأهم أنها تسيء للدين الإسلامي الحنيف نفسه. فالتهمة التي يلصقها معارضو فكرة تجديد الخطاب الديني أنها دعوة لهدم الدين وثوابته. معركة “دون كيشوت” وأمثاله تعطي هؤلاء المعارضين مددًا قويًا لتدعيم وجهة نظرهم، وتأليب المصريين على دعاة تجديد الخطاب الديني. 

معركة تجديد الخطاب الديني ليست أبدًا معركة مع أشخاص بعينهم سواء من السلف أو السلفيين حاليًا. معركة تجديد الخطاب الديني هي تجديد للأفكار والفتاوى، وتقديم الدين بشكل يتناسب والعصر الراهن بكل مشاكله انطلاقًا من أن دستور ذلك الدين “القرآن الكريم” صالح لكل زمان ومكان. المعركة الحقيقية هي معركة بناء المجتمع والانطلاق من أن ذلك المجتمع في حاجة ماسة إلى تجديد حقيقي في الخطاب الديني. 

المعركة الحقيقية بهذا المعنى تستوجب بحثًا عن نقاط الاتفاق وليس التفتيش عن نقاط الاختلاف الحقيقي منها والمفتعل. المعركة الحقيقية هي إدراك أن بعض القضايا الخلافية والتي تمس تماسك المجتمع لا يجب أن تُطرح على عموم الناس بذلك التبسيط المخل، فكثير من تلك القضايا مكانها ليس بالتأكيد وسائل الإعلام واستغلال منبر الإعلام لبث القناعات الشخصية لأسباب تخص أصحابها فقط وليس من بينها بكل تأكيد مصلحة للوطن ولا إعلاء لفكرة الرأي والرأي الآخر ولا تجديدًا معتبرًا للخطاب الديني تستهدفه الدولة فتحًا لأبواب النهضة وإعادة مصر إلى مكانتها الحقيقية بلدًا متسامحًا ومتدينًا قدّم علوم الإسلام لكل المسلمين بوسطية حماها ويحميها الأزهر الشريف.   

إن ما يحدث حاليًا من “دون كيشوت” وأمثاله بحروبهم الوهمية التي يسارع بطبيعة الحال إعلام الشر ليستغلها ويكيل التهم للإعلام المصري وإعلامييه ومثقفيه يؤكد أن “دون كيشوت” وأصحابه يستجدون عداء المصريين غير مبالين وغير مقدرين لخطورة التحديات التي تواجهها الدولة، فيما يبدو وكأنه ينسجم أو يتضافر مع المحاولات البائسة التي تجري بين حين وآخر لصرف الأنظار عن الانجازات التي تقوم بها الدولة في كافة المجالات، والتي تتطلب من الجميع المؤازرة وليس اختلاق معارك وهمية نتيجتها محسومة ومكتوبة على جبين من يتصور أن بإمكانه الفوز في معركة مفتعلة ضد طواحين الهواء، وأن العبث بثوابت المصريين الدينية قد يقود إلى تجديد الخطاب الديني. 

طريق التلاعب والمساس بثوابت المصريين الدينية والمجتمعية وقيمهم وأعرافهم وتقاليدهم طريق خطرة ومحفوفة بالمخاطر، وهي كما يقول المصريون “سكة اللي يروح ما يرجعش”، بينما طريق تجديد الخطاب الديني واسعة وممهدة وتنتظر الجميع، وليس فيها ساحة يمارس فيها أي “دون كيشوت” هوايته في محاربة طواحين الهواء. 

نقلًا عن صحيفة الأهرام

+ posts

رئيس وحدة دراسات الرأي العام

د.صبحي عسيلة

رئيس وحدة دراسات الرأي العام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى