خيارات الضرورة… إسرائيل والسير الحثيث نحو “الدفاع الليزري”
تعزز الحديث عن التهديدات المتزايدة -على المستوى الجوي- التي باتت تواجه المخطط العسكري الإسرائيلي خلال السنوات الأخيرة، مؤخرًا بشكل متزايد. ليس فقط بالنظر إلى التحولات التي أسفرت عنها حيازة الحوثيين في اليمن قدرات صاروخية ومسيرة نوعية، بل بالنظر أيضًا إلى ظهور بعض هذه القدرات -خاصة تلك التي تتعلق بالطائرات بدون طيار- في حوزة جماعات مسلحة أخرى، مثل حركة حماس في قطاع غزة، وحزب الله في لبنان، وهو ما خلق جدلًا مستمرًا حول مدى صلاحية القدرات الدفاعية الإسرائيلية الحالية، للتعامل مع مثل هذه التهديدات المستحدثة.
تعزز الحديث عن هذه التهديدات بعد أن دخلت منذ يومين طائرة بدون طيار تابعة لحزب الله، تمت تسميتها “حسان” -نسبة لأحد قادة الحزب الميدانيين اغتالته إسرائيل في بيروت عام 2013- أجواء فلسطين المحتلة، وحلّقت لمدة 40 دقيقة كاملة، لمسافة تصل إلى 70 كيلو مترًا، في حدث تكرر سابقًا عدة مرات، بشكل جعل المخاوف في الداخل الإسرائيلي تتعاظم بشأن مدى جاهزية وحدات الدفاع الجوي لمواجهة مثل هذه التهديدات، خاصة بعد أن تحدث رئيس الوزراء الإسرائيلي أوائل الشهر الجاري عن قرب دخول منظومات “ليزرية” للدفاع الجوي في الخدمة لدى الجيش الإسرائيلي.
مخاوف إسرائيلية من الطائرات بدون طيار في غزة ولبنان
لم تكن حادثة طائرة “حسان” هي الأولى، لكنها حملت في طياتها ملامح فشل إسرائيلي واضح في التصدي لهذه الطائرة، رغم أن الدفاعات الجوية الإسرائيلية قامت برصدها، وأطلقت صاروخًا اعتراضيًا من منظومة “القبة الحديدية” لاعتراضها، لكن فشلت عملية الاعتراض، ليصبح الإخفاق الإسرائيلي “مكلفًا” على المستوى المادي والمستوى المعنوي والاستراتيجي.
ضربة البداية في إدخال حزب الله للطائرات بدون طيار في المعادلة القائمة حاليًا بينه وبين إسرائيل، كانت خلال حرب عام 2006، حيث استخدم الحزب بشكل محدود الطائرات دون طيار من نوعي “مرصاد-1” و”مرصاد-2″، لاستطلاع المناطق اللبنانية الحدودية مع فلسطين المحتلة، وذلك بعد أن سبق له إجراء تجربتين لاستطلاع مناطق الجليل الأعلى عامي 2004 و2005.
خلال السنوات اللاحقة، تزايدت محاولات الحزب لتطوير استخدامه للطائرات بدون طيار، ففي شهر أكتوبر 2012، اخترقت إحدى طائراته بدون طيار أجواء فلسطين المحتلة من البحر المتوسط، وتمكنت من الوصول إلى صحراء النقب، قبل أن تعترضها المقاتلات الإسرائيلية. تكررت هذه الحادثة في أبريل 2013، حيث حلقت طائرة “أيوب 1″، قرب سواحل مدينة حيفا، في رسالة فسرتها الأوساط الإسرائيلية آنذاك بأنها تحذير من إمكانية استهداف منصات التنقيب عن الغاز.
تزايدت حدة هذا التهديد، بعد أن أظهر الاشتباك العسكري الذي تم العام الماضي بين الجيش الإسرائيلي والفصائل الفلسطينية في قطاع غزة وجود قدرات مسيرة جيدة في حوزة هذه الفصائل، حيث ظهرت للمرة الأولى خلال هذا الاشتباك الطائرات الانتحارية بدون طيار “شهاب” التي تشبه في تصميمها إلى حد كبير طائرات “أبابيل” الإيرانية ونسختها اليمنية “قاصف”.
وقد استخدمت كتائب القسام هذه الطائرات بشكل فعال جدًا لاستهداف مواقع الجيش الإسرائيلي ومرابض المدفعية الموجودة في مستوطنات غلاف غزة، خاصة مستوطنات “سدوت نحيف” و”شاعر هنيعف” و”أشكول”، وتميزت هذه الطائرات بالدقة الشديدة في هجماتها، كما ظهر خلال الهجوم على مصنع للكيماويات في مستوطنة “نير عوز”.
تضاف هذه الطائرات، إلى عدة أنواع من الطائرات الاستطلاعية بدون طيار، مثل طائرة “الزواري”، التي تم استخدامها خلال هذا الاشتباك في رصد تحركات مدرعات الجيش الإسرائيلي في مستوطنات غلاف غزة، بالشكل الذي يعطي لطواقم الصواريخ ومدافع الهاون وكذا مشغلي الطائرات بدون طيار إحداثيات دقيقة ومحدثة للمواقع الحالية للأرتال الإسرائيلية، وبالتالي كانت الهجمات الصاروخية التالية.
إذًا، بالنظر لما سبق، لا يمكن اعتبار التهديدات التي تواجهها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية من جراء امتلاك المجموعات السالف ذكرها القدرات المسيرة أمرًا جديدًا أو مستحدثًا، لكن في نفس الوقت طرحت حادثة الجمعة الماضية بعض التساؤلات حول ماهية الاستعدادات الإسرائيلية للتعامل مع هذا الملف، فهذه الحادثة أتت بعد أيام من حديث الأمين العام لحزب الله عن أن الحزب بات ينتج أعدادًا كبيرة من الطائرات بدون طيار، وهو مؤشر على تسارع وتيرة التهديدات القادمة من الحدود اللبنانية.
ناهيك عن فشل منظومة القبة الحديدية في اعتراض طائرة الجمعة، وإطلاقها صاروخًا عليها دون جدوى، ما تسبب في زيادة حدة الانتقادات لمدى فاعلية هذه المنظومة -على المستويين الاقتصادي والتكتيكي- في التصدي للأهداف ذات المقطع الراداري القصير.
ربما يمكن أن نحيل التردد في ردود فعل الدفاعات الجوية الإسرائيلية حيال هذا التهديد إلى عدة عوامل، من بينها: الرغبة في تجنب استنزاف الموارد المالية المخصصة لتسليح الدفاعات الجوية. وهنا لابد من الإشارة إلى أن التقديرات الإسرائيلية تشير إلى امتلاك حزب الله نحو 2000 طائرة بدون طيار، قسم كبير منها استطلاعي مثل طائرات “شاهد” و”كرار” ومهاجر”، وبعضها يمكن تحميله بمتفجرات، خاصة أن بعض الأنواع التي يمتلكها الحزب، هي أنواع صينية تجارية يستخدمها لتشتيت الدفاعات الجوية الإسرائيلية، كما حدث في الخامس من يناير الماضي، حين تم إسقاط طائرة تجارية من هذا النوع قادمة من الأجواء اللبنانية.
اللجوء إلى الحلول “الليزرية”
حاولت تل أبيب -بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية- الدخول في عدة مشاريع مشتركة لإنتاج منظومات ليزرية للدفاع الجوي، ومن أبرز هذه المشاريع، مشروع الليزر التكتيكي عالي الطاقة “نوتليوس”، المعروف اختصارًا بـ “THEL”. وقد مُني هذا المشروع بفشل ذريع أدى إلى إلغائه بشكل كامل عام 2005؛ نظرًا إلى عدة عوامل أهمها التكلفة العالية والمخاطر الكبيرة التي تنطوي على تطويره، فقد اعتمد المشروع على توليد “الليزر الكيميائي” الذي يتطلب توفير كميات كبيرة من المواد الكيميائية عالية السمية التي يتم من خلالها توليد الطاقة.
هذه النتيجة دفعت الشركات الإسرائيلية العاملة في مجال تطوير الأسلحة إلى البدء في مشروعات محلية لإنتاج الليزر عبر التقنية الكهربائية، التي تتميز بالأمان وبتكاليفها المحدودة، وقد كان الهدف الأساسي من تطوير هذه المشاريع هو توفير الحماية للطائرات المدنية من التهديدات الصاروخية المختلفة، خاصة بعد أن تعددت محاولات استهداف طائرات شركة “العال” الإسرائيلية عبر الصواريخ الكتفية، وعلى رأسها الهجوم الذي تعرضت له طائرة إسرائيلية أواخر عام 2002 أثناء إقلاعها من مدينة “مومباسا” الكينية.
منذ ذلك التوقيت تركزت الأبحاث الإسرائيلية على توفير منظومات لحماية الطائرات المدنية، خاصة بعد أن ظهرت عيوب حزمة التقنيات الدفاعية المسماة “فلايت جارد” التي تم تثبيتها على الطائرات الإسرائيلية عقب هذه الحادثة، وتعتمد على نظام للإنذار المبكر وآخر لنفث المشاعل الحرارية الخاصة بالتشويش على الصواريخ الموجهة حراريًا.
حصيلة هذه الأبحاث أنتجت منظومة “C-MUSIC” التي أعلنت عنها شركة “إلبيت” للأنظمة الدفاعية في يوليو عام 2014، وهي عبارة عن وحدة يتم إلحاقها ببدن الطائرة، تضم كاميرات تعمل بالأشعة تحت الحمراء والأشعة فوق البنفسجية، بجانب مستشعرات للتحذير من الاقتراب الصواريخ، بجانب قبة ليزرية صغيرة تصدر إشعاع يقوم بالتشويش على آلية توجيه الصاروخ المقترب.
وقد نجحت تجربة اختبار هذه المنظومة، بعد أن تم تثبيتها على طائرة ركاب مدنية من نوع “بوينج 737”. ومنذ ذلك التوقيت تم دمج هذه المنظومة التي تبلغ تكلفتها نحو مليون دولار على معظم الطائرات المدنية الإسرائيلية، علمًا بأن إيطاليا وقعت في يونيو 2021 عقدًا لشراء عدة منظومات من هذا النوع، لتزويد طائرات النقل التابعة لسلاح الجو الإيطالي بها.
في نفس العام -2014- أعلنت شركة “رافائيل” الإسرائيلية، عن منظومة الدفاع الجوي الليزرية الموجهة “Iron Beam”، المصممة لتدمير الصواريخ قصيرة المدى والمدفعية وقذائف الهاون والطائرات بدون طيار، في مدى يصل إلى 7 كم. وتستخدم هذه المنظومة شعاع ليزر عالي الطاقة، وتعمل بشكل مستقل أو ضمن تشكيلة من منظومات الدفاع الجوي الأخرى. وقد بدأت وزارة الدفاع الإسرائيلية اعتبارًا من عام 2016، في تمويل عمليات تطوير هذه المنظومة بشكل كامل، علمًا بأن سلاح الجو الإيطالي قام بشراء عدة منظومات من هذا النوع في يونيو الماضي، لتزويد طائرات النقل التابعة له بها.
ظلت البحوث الإسرائيلية في هذا الإطار مستمرة، إلى أن أعلنت وزارة الدفاع الإسرائيلية في يناير 2020، عن تحقيق اختراق كبير في هذا المجال، وقرب اختبار منظومة دفاعية ليزرية جديدة، مخصصة لمهام الدفاع الجوي المختلفة، وتتميز بالمرونة بحيث يمكن تحميلها على منصات متحركة أرضية وجوية، بجانب المنصات الأرضية الثابتة. حينها لم يتم توضيح ماهية هذه المنظومة الجديدة، وظلت الجهود الإسرائيلية في هذا الإطار قيد الكتمان، حتى يونيو 2021، حين أجرت إسرائيل تجربة نوعية على استخدام أشعة الليزر في إسقاط طائرة بدون طيار.
قامت بهذه التجربة وحدة تطوير الأسلحة والبنية التحتية التكنولوجية التابعة لوزارة الدفاع الإسرائيلية، بالمشاركة مع شركة “إلبيت” وسلاح الجو الإسرائيلي، وفيها تم اختبار نظام ليزري جديد عالي الطاقة، تم تحميله على طائرة خفيفة من نوع “سيسنا 208″، وكان قادرًا على اعتراض وإسقاط الطائرات بدون طيار على مسافة كيلو متر واحد، عن طريق تسليط شعاع ليزر على الطائرة المستهدفة، إلى أن تبدأ في الاحتراق.
هذه التجربة أوضحت أن الاستراتيجية الإسرائيلية في هذا الإطار ترتكز على تطوير برنامج طويل المدى لتطوير منظومات ليزرية قتالية للدفاع الجوي، يتم بها إكمال مظلة الدفاع الجوي الإسرائيلية متعددة الطبقات، والتي تشمل منظومة القبة الحديدية، ومنظومة مقلاع داوود، والأجيال المختلفة من منظومات “أرو” المضادة للصواريخ.
لا يزال العمل على النموذج الأولي لهذه المنظومة مستمرًا، ومن المتوقع أن يكتمل في غضون ثلاث أو أربع سنوات، مع زيادة مدى هذه المنظومة إلى 20 كيلو متر، وزيادة الطاقة الصادرة عنها إلى حدود 100 كيلو وات؛ بهدف تثبيت هذه المنظومة في البداية على طائرات النقل العسكرية، ثم في المراحل اللاحقة تصغير حجم هذه المنظومة لتكون كافية للتثبيت على متن الطائرات بدون طيار.
جدير بالذكر أنه بالتزامن مع تطوير هذه المنظومة، تعمل شركتا “إلبيت” و”رافال” على تطوير منظومة ليزر أرضية، للتصدي لجميع أنواع التهديدات الجوية، في نطاق يتراوح بين 8 و10 كيلو مترات، وتستهدف كلا الشركتين إدخال هذه المنظومة للخدمة بحلول عام 2025.
تل أبيب تسرع من وتيرة تطوير الأسلحة الليزرية
بدأت مؤشرات عديدة حول تسريع تل أبيب بحوثها في مجال تطوير الأسلحة والمنظومات العاملة بأشعة الليزر في الظهور بشكل كبير العام الجاري، ففي مطلع يناير الماضي أنهت وزارة الدفاع الإسرائيلية وشركة “إلبيت” عمليات الاختبار الأولية لمنظومات الليزر المحمولة جوًا، وبدأت في التحضير لعمليات الاختبار النهائية، بحيث يتم إدخال هذه المنظومة مبكرًا قبل حلول عام 2024، وهو الموعد الذي كان مقررًا سابقًا لإدخالها إلى الخدمة.
تلا ذلك تصريحات مهمة لرئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت خلال مشاركته في المؤتمر الدولي السنوي لمعهد دراسات الأمن القومي هذا الشهر، ذكر خلالها أن بلاده ستقوم بنشر نظام متكامل للدفاع الجوي بالليزر ضد الصواريخ والطائرات بدون طيار خلال عام واحد، وهو ما أكد على نوايا تسريع البحوث الإسرائيلية في هذا المجال.
المتوقع أن تكون هذه المنظومة جزءًا من جدار متكامل من منظومات الدفاع الجوي مختلفة الأنواع، بحيث يتكامل بعضها البعض، خاصة أن المنظومات التي تعتمد على الليزر تتميز بعدة ميزات أهمها انخفاض تكاليف التشغيل والإطلاق، على عكس الصواريخ الاعتراضية باهظة الثمن، إذ تقدر تكاليف استخدام المنظومات الليزرية بحوالي 2000 دولار أمريكي فقط، ناهيك عن انخفاض القوة البشرية اللازمة لتشغيلها، وعدم وجود احتمالية لنفاذ الذخيرة منها طالما ظلت مزودة بالطاقة اللازمة.
لكن تشوب المنظومات الليزرية بعض العيوب التي تتلافاها الأنظمة الدفاعية الأخرى التي تعتمد على الصواريخ او المدفعية، أهم هذه العيوب هو عامل الطقس، نظرًا لأن كفاءة أشعة الليزر تتقلص في الأحوال الجوية السيئة، خاصة على الارتفاعات الكبيرة. هذا العيب بشكل محدد، هو ما يجعل منظومات الليزر المخصصة للدفاع الجوي، مخصصة للعمل ضمن مهام الاعتراض قصير المدى، خاصة أن أشعة الليزر تتشتت بعد تجاوزها مسافة 10 كيلومتر.
هذا العيب، وإن كانت التجارب الإسرائيلية قد أفلحت في تجاوزه عبر تحميل هذه المنظومات على الطائرات، إلا أن فكرة التكلفة هنا ستكون أساسية، بالنظر إلى ضرورة وجود عدد كبير من الطائرات الحاملة لهذه المنظومة في الجو بشكل مستمر.
سماكة الصواريخ المعادية تبدو أيضًا معضلة امام استخدام هذه المنظومات؛ فكلما زادت سماكة الصواريخ المعادية، احتاج شعاع الليزر مزيدًا من الوقت كي يتسبب في التسخين الكافي لإشعال الهدف، وهو ما يمثل عائقًا أمام التصدي لصليات كبيرة من الصواريخ.
الأكيد أن التجارب على استخدام أشعة الليزر عسكريًا، والتي أطلقها الاتحاد السوفيتي في خمسينيات القرن الماضي، باتت تقترب حثيثًا من مرحلة أكثر تطورًا، تجعلها ضمن التقنيات التي ستشكل مستقبل الصراعات العسكرية المقبلة، جنبًا إلى جنب مع القدرات المسيرة، والفرط صوتية، وتقنيات الطاقة الحركية، وأسلحة النبضة الكهرومغناطيسية.
مصادر:
باحث أول بالمرصد المصري



