مصر

الانتقال الحكومي إلى العاصمة الجديدة.. مناخ جديد للعمل العام

شهد النصف الأول من شهر فبراير الجاري حركة متصاعدة على كافة المستويات السياسية والتنفيذية لمتابعة آخر مستجدات الاستعداد لنقل مقار الوزارات إلى العاصمة الإدارية الجديدة، فقد اجتمع السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي في 8 فبراير الماضي مع رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي ومستشار رئيس الجمهورية للتخطيط العمراني اللواء أمير سيد احمد، ووزير والإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية الدكتور عاصم الجزار؛ للوقوف على تطورات الموقف التنفيذي لعملية الانتقال، وآخر ما تم إنجازه من أعمال الحي الحكومي، وإسكان الموظفين الحكوميين المنتقلين إلى المقار الجديدة على مدار الأشهر القادمة.

ويأتي هذا الاجتماع بعد أيام من استماع السيد رئيس الوزراء لمجموعة من التقارير المفصلة التي عرضها عدد من مسؤولي الحكومة وعلى رأسهم وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الدكتور عمرو طلعت، والمهندسة راندة المنشاوي مساعد أول رئيس مجلس الوزراء، للاطلاع على مستوى التقدم في تشطيبات مقار الوزارات والمساحات الخارجية بالحي الحكومي، بالإضافة إلى إنهاء مشروعات البنية التحتية الخادمة له، مثل شبكات الاتصالات والإنترنت ومنظومات إنتاج الطاقة الشمسية المثبتة أعلى المباني.

مسؤولو الحكومة وفي مقدمتهم الدكتور مصطفى مدبولي لم يكتفوا بتلقي التقارير حول ما يتم إنجازه بمواقع العمل، بل حرصوا على النزول في زيارات متعددة للاطلاع على ما يتم تنفيذه من أعمال. كان أبزر تلك الزيارات في يوم 12 فبراير الماضي، حينما اجتمع رئيس الوزراء في العاصمة الإدارية الجديدة، مع كافة المسؤولين التنفيذين لمشروعات العاصمة، ووقف بنفسه على كافة التفاصيل الجارية، ونبّه الحضور إلى ضرورة الالتزام بكافة الخطط الموضوعة، سواء على المدى الزمني للانتهاء من المشروعات، او لضمان جودة تنفيذ الأعمال.

ولم تمضِ أيام معدودة حتى عقدت الحكومة بكامل هيئتها اجتماعها الثاني في 16 فبراير، داخل مبنى مجلس الوزراء بالعاصمة الإدارية، لتؤكد الحكومة في هذا الاجتماع اعتزامها عقد اجتماعها الأسبوعي خلال الفترة القادمة بالتناوب ما بين مقرها القديم بمنطقة وسط القاهرة وبين المقر الجديد. 

وأكد مجلس الوزراء اعتزام الحكومة إنهاء عملية النقل قبل منتصف العام الحالي، وذلك بعد حالة التعطل التي شهدها ملف الانتقال إلى العاصمة الإدارية نتيجة للتداعيات الصحية لجائحة كورونا، والتي فرضت العديد من الإجراءات الاحترازية التي أخرت عملية الانتقال.

مقار حكومية في مناطق مكتظة

حينما تولى الخديوي إسماعيل حكم مصر في عام 1863، فكر في إحداث نهضة تنموية شاملة بالدولة المصرية، وكان من أحد مرتكزات فكره التطويري هو إنشاء النِظارات الجديدة التي تساعد على تطوير العمل الإداري بالدولة المصرية، وتشييد مدينة حديثة وعصرية تضاهي في جمالها باريس ولندن، أعظم مدن العالم في هذا الزمان.

لذلك استقر فكره على تطوير القاهرة القديمة ذات الشوارع والحواري الضيقة، وقام بإعادة تخطيط مساحات واسعة من تلك المدينة لكي تكون بها شبكات من الشوارع الطولية الفسيحة. وقرر في هذا الإطار أن يبني قصرًا جديدًا في قلب مدينته المتطورة؛ كي يكون مقرًا للحكم، عوضًا عن قلعة الجبل التي ظلت مقرًا لحكم البلاد على مدار مئات السنين، وذلك منذ اتخذها الكامل بن العادل دارًا للملك في عام 1207.

فكر الخديوي إسماعيل أيضًا في تجميع كافة مقار الحكومة والبرلمان على مقربة من قصره الجديد، لذلك شيّد ضاحية جديدة في العاصمة عُرفت فيما بعد بحي الدواوين. ولقد ساعد تركز كافة مؤسسات الدولة في تلك البقعة المتوسطة من مدينة القاهرة على تنامي حجم السكان القاطنين بالعاصمة المصرية، وذلك لرغبتهم في الاستفادة من الميزات الحياتية والخدمية التي ساعد على خلقها وجود تجمع واحد لكافة المؤسسات الحكومية في ذات المكان.

لذلك رصدت الإحصاءات الرسمية حدوث تضاعف كبير في تعداد سكان القاهرة بما يعادل 680%، وذلك خلال الفترة 1882- 2017م؛ فقد وصل تعداد سكان العاصمة في هذا العام الأخير إلى 24 مليون نسمة، وذلك بعد أن كان 353 ألف نسمة فقط وقت تعداد 1882م.

هذا التنامي الضخم لسكان العاصمة أدى إلى إحداث حالة من الضغط على كافة أنواع المرافق المتاحة، مثل مترو الأنفاق الذي يبلغ متوسط معدل التزاحم في كل رحلة له 1494 راكبًا، بواقع 10.9 مواطن لكل مقعد متاح، وأيضًا هيئة النقل العام التي يبلغ التزاحم على حافلتها ما معدله 141 راكب لكل حافلة خلال الدورة الواحدة.  وكذا، سُجّل ضغط كبير على المرافق الصحية؛ فبلغ معدل الأسِرّة الطبية المتاحة بالمستشفيات سرير واحد لكل 785 مواطنًا، وتضاعفت كثافات الفصول التعليمية في مراحل التعليم ما قبل الجامعي إلى 47 تلميذًا لكل فصل.

عاصمة جديدة

منذ أن تولت القيادة السياسية الحالية مقاليد الأمور في منتصف عام 2014، حرصت على دعم تشييد المدن الجديد في كافة أنحاء البلاد؛ لتكون امتدادًا طبيعيًا للمدن القديمة القائمة حول الوادي والدلتا. لذلك تضاعفت أعداد المدن الجديدة في البلاد لتصل إلى 50 مدينة جديدة بحلول عام 2020. ولقد حظيت القاهرة باهتمام خاص في هذا الملف، وذلك لوجود ما يقدر بربع تعداد الشعب المصري داخل نطاقها؛ لذلك جرى الاهتمام بتطوير التجمعات العمرانية الجديدة القائمة مثل مدن السادس من أكتوبر والشيخ زايد وبدر والشروق والقاهرة الجديدة، وجرى إنشاء مدن جديدة تمامًا كحدائق أكتوبر وأكتوبر الجديدة، وكل ذلك بهدف استيعاب الزيادات السكانية المطردة.

ولحل مشكلة تركز مقرات الحكومة داخل منطقة وسط القاهرة القديمة، والتي تتسبب بشكل غير مباشر في ازدياد التزاحم بها؛ تم التفكير في إنشاء مدينة جديدة كي تكون مقرًا للحكومة المصرية، لذلك ظهر مشروع العاصمة الإدارية إلى النور في 2015، والتي من المنتظر أن تقع على مساحة 170 ألف فدان، تستوعب في مرحلتها الأولى أكثر من 7 ملايين نسمة، فيما سيعقب تنفيذ تلك المرحلة مرحلتان إضافيتان تمثلان 75% من المساحة الإجمالية للمدينة.

ومن المنتظر أن تكون العاصمة الإدارية الجديدة مركزًا للنشاط السياسي والاقتصادي للدولة، إذ تنقسم إلى عدد من الأحياء والمناطق، منها: الحي الحكومي، والحي الدبلوماسي، ومنطقة الأعمال، ومنطقة النهر الأخضر، ومنطقة الفنون والثقافة. ذلك بالإضافة إلى عدد من الأحياء السكنية والمواقع التجارية الخادمة لأنشطة تلك المدينة الجديدة.

ويعد الحي الحكومي هو الأبرز على الإطلاق بين كافة أحياء ومناطق المدينة، إذ يقع على مساحة 150 فدانًا تقريبًا، ويحتوي على 10 مجمعات وزارية تخدم 34 وزارة مختلفة، بالإضافة إلى مبنى مستقل لرئاسة مجلس الوزراء، ومبنيين أخريين لمجلسي النواب والشيوخ. وتجاور تلك المباني مجموعة من المنشآت التي ستستخدم كمقار للبنوك الوطنية وعلى رأسها البنك المركزي المصري.

منطقة الأعمال المركزية تمثل هي الأخرى أحد أبرز مواقع المدينة؛ إذ تقع على مساحة 195 فدانًا، وستحتوي على 20 برجًا أحدهم يعرف بالبرج الأيقوني وهو أعلى برج في أفريقيا. وتقدر استثمارات هذه المنطقة حتى الآن بثلاثة مليارات دولار، وتستهدف جذب كافة الشركات العالمية العاملة في الشرق الأوسط؛ وذلك كي تكون العاصمة الإدارية مقرًا للحركة الاقتصادية بمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا.

ويعد الحي الدبلوماسي من أكثر الأحياء أهمية هو الآخر؛ فمع انتقال الدولة إلى العاصمة الجديدة سيكون من المهم أن تنقل البعثات الدبلوماسية مقراتها إلى أماكن مجاورة، لذلك خصصت الدولة مساحة من الأرض تقدر بـ 1600 فدان لكافة البعثات الراغبة في الانتقال إلى هناك، ولقد تم بالفعل التعاقد على تخصيص 500 فدان منها حتى الآن، فيما تسير المفاوضات الآن لتخصيص ما بقي من أرض ذلك الحي. 

بنية تحتية تكنولوجية متطورة

من المنتظر أن تكون العاصمة الإدارية أول مدينة مصرية تعمل بأنظمة ذكية بالكامل على مستوى الإدارة الحكومية، فقد عكفت وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات على دراسة متطلبات العمل لأغلب الجهات الحكومية، وذلك لمساعدتها على تحويل تلك الأعمال نحو مفهوم الرقمنة، وقامت بمعاينة التطبيقات المختلفة التي تستخدمها 40 جهة حكومية والتي يبلغ عددها 893 تطبيقًا، وذلك لعمل محاكيات وتصورات لكيفية نقل وتخزين وأرشفة وتوثيق البيانات من تلك التطبيقات إلى موقع أو تطبيق واحد شامل لكافة البيانات الحكومية. على أن يكون المقر الأساسي لعملية إدارة ذلك التطبيق بمركز البيانات الموحد بالعاصمة الإدارية الجديدة. 

على جانب آخر، بدأت أجهزة الدول متعاونة مع القطاعين العام والخاص في تطوير شبكات البنية التحتية الرقمية حول العاصمة الإدارية، وذلك لتوفير خدمات الأجيال الجديدة من شبكات الإنترنت والمحمول، وهو ما سيكون ضروريًا وأساسيًا لبدء الأعمال على أساس تكنولوجي بالمصالح الحكومية الموجودة داخل العاصمة.

إلى جوار ذلك، تقوم الجهات المسؤولة بتحويل المناخ العام بالعاصمة الإدارية الجديدة إلى مناخ جاذب للمؤسسات العاملة في تطوير صناعة التكنولوجيا، وهو ما سينعكس على قوة ذلك القطاع في مصر، وبالتالي زيادة تسهيل الاعتماد عليه في حركة العمل العام، وأيضًا في تطوير حركة الاقتصاد الوطني؛ كي يناظر ما وصلت إليه أغلب الاقتصادات الناشئة حول العالم في مجال صناعة التكنولوجيا.

ومن أهم المجهودات في ذلك الإطار تشييد مدينة المعرفة بالعاصمة الإدارية الجديدة، التي ستضم مبنى جامعة مصر المعلوماتية، والتي يتوقع أن تكون إحدى المؤسسات الرائدة في تطوير صناعة التكنولوجيا في مصر والمحيط الأفريقي، وأيضًا معهد الاتصالات القومي ومعهد تكنولوجيا المعلومات واللذين سيعملان على توفير التدريبات المتخصصة والمتقدمة للخبراء التكنولوجيين، بالإضافة إلى مركزين بحثيين للتطوير التكنولوجي والابتكار.

ولم تغفل الأجهزة المختصة أهمية تدريب وتأهيل العنصر البشري بالقطاع الحكومي، وهم الموظفين الذين سيتم نقل أعمالهم إلى العاصمة الإدارية خلال الأشهر القادمة، وذلك كي يكونوا على استعداد للتعامل مع التكنولوجيات الحديثة التي ستتوفر بين أيديهم. لذلك قامت وزارة الاتصالات بالتعاون كافة أجهزة الدولة في تنفيذ سبعة برامج تدريبية تركز على تنمية الثقافة الرقمية لهؤلاء الموظفين الحكوميين، ولقد نجحت أجهزة الدولة في هذا الإطار في تدريب أكثر من 32 ألف موظف، وهو ما يمثل 85% من إجمالي الموظفين المطلوب نقلهم بنهاية العام الحالي 2022.

ختامًا، يمكننا القول إن انطلاق الاعمال الحكومية بالعاصمة الإدارية الجديدة خلال النصف الثاني من العام الجاري 2022 سيمثل تطورًا تاريخيًا في حالة العمل العام بمصر. فبعد عقود طويلة من الاعتماد على النظم الورقية في تسيير المهام الإدارية الحكومية، ستبدأ أجهزة الدولة أخيرًا في مواكبة التطورات التكنولوجية العالمية، وهو ما سيؤدي بكل تأكيد إلى تسهيل حصول المواطنين على الخدمات العامة، مما سينعكس بالإيجاب على درجات رضا الرأي العام، وسيعطي أيضًا دفعة كبيرة لحركة الاقتصاد الوطني الذي سيستفيد من التسهيلات الكبيرة التي توفرها الحلول التكنولوجية في تنفيذ الأعمال المختلفة.

+ posts

باحث ببرنامج السياسات العامة

مصطفى عبد اللاه

باحث ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى