
أزمة الحكومة الليبية.. “الدبيبة” ومسار الاستحقاق الدستوري
مثٌل قرار مجلس النواب الليبي عزل عبد الحميد الدبيبة رئيس الحكومة الليبية بالإجماع ومنح الثقة بالإجماع لوزير الداخلية السابق “فتحي باشاغا” رئيسًا جديدًا للحكومة في العاشر من فبراير 2022، نقطة تحول ضاغطة على المشهد السياسي الذي بات يشهد حالة من الاضطراب بين مؤسسات الدولة. ولعل هذا القرار يأتي بالتزامن مع إقرار مسودة الدستور الجديدة، وكذلك في ضوء توجه ليبيا نحو عقد الاستحقاق الرئاسي في يونيو المقبل بعدما فشلت بصورة كبيرة في تحقيقه في الموعد المتفق عليه ديسمبر 2021.
ويأتي ذلك القرار في ظل ضبابية المواقف الإقليمية والدولية حول التطورات الليبية، ووضعية الانقسامات الداخلية في إطار المؤسسات الليبية، مما يُنذر بوضع أكثر اضطرابًا في المرحلة المقبلة.
دوافع متعددة
إن قرار مجلس النواب الليبي بسحب الثقة من حكومة “الدبيبة” ناجم عن اتهامات الحكومة ورئيسها بالفساد، وعجز سياسات تلك الحكومة عن مواجهة التحديات الداخلية، خاصة وأنها انفقت نحو 18.75 مليار دولار دون تحقيق أي شيء ملموس في كافة المستويات، فضلًا عن فشل الحكومة في إتمام إجراءات الانتخابات والتي كان من المقرر عقدها في 24 ديسمبر 2021، وذلك في ضوء الاختلافات بشأن قانوني الانتخاب ودور القضاء في العملية الانتخابية.
الأمر الآخر يتجلى في توجه “الدبيبة” إلى اتباع تكتيك لمسار موازٍ للتحركات الداخلية والإقليمية والدولية نحو خارطة الطريق، وذلك من خلال دعوته المتكررة إلى إجراء تعديلات دستورية، بالرغم من انتهاء ولاية تلك الحكومة في 24 ديسمبر وأهمية تكليف حكومة جديدة لتسيير الأعمال.
تداعيات مختلفة
يفتح سحب الثقة من حكومة “الدبيبة” المجال واسعًا أمام حالة الاستقطاب الداخلي وانتهاج سياسة خلط الأوراق، وبرز ذلك في الالتفاف بين عبد الحميد الدبيبة ومجلس الدولة الاستشاري ومساعي توحيد الموقف حول رفض قرارات مجلس النواب، وأهمية العمل على الدفع بالمسار الدستوري للوصول إلى الانتخابات الرئاسية، كذلك حالة التناقضات والإرباك التي سببها قرار مجلس النواب بحل حكومة “الدبيبة” لدى المجلس الأعلى للدولة الذي يشهد وضعًا منقسمًا داخليًا.
فقد انقسم أعضاء مجلس الدولة بشأن اختيار فتحي باشاغا لتشكيل الحكومة الجديدة بتكليف من مجلس النواب، حيث صوت حوالي 74 عضوًا من أعضاء المجلس لصالح إجراءات مجلس النواب، فيما صوت 54 عضوًا لصالح استمرار رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، معتبرين أن إجراءات مجلس النواب بسحب الثقة منه باطلة. وذلك الموقف المتناقض يرجع بالأساس إلى حالة التفكك الداخلي بين المؤسسات الليبية.
الأمر الآخر تجلى في تصاعد الرفض الشعبي لتلك القرارات، والدفع بورقة إسقاط المجلسين “النواب – مجلس الدولة” وهو ما يفكك الجهود الوطنية الساعية إلى إقرار الاستقرار السياسي الداخلي، خاصة وأن هناك تحركات ميدانية مُسلحة ما بين مؤيدي “الدبيبة” و””فتحي باشاغا”، وهو ما يدفع الليبيين إلى حرب أهلية جديدة، ولعل ذلك الوضع من شأنه أن يُعيد ليبيا إلى مربع صفر مرة أخرى ويفقدها مكتسبات المرحلة الماضية.
الانعكاس الثالث هو تشتت التوافق الدولي حول مستجدات الموقف الراهن، فبعيدًا عن الموقف المتخبط للأمم المتحدة تجاه ذلك التطور وعدم حسم الموقف النهائي نحو دعم الإقرار بمخرجات جلسة مجلس النواب الليبي، هناك تناقضات واختلاف في المواقف الإقليمية والدولية.
فبينما دعمت مصر وروسيا وفرنسا التحولات التي شهدتها ليبيا مؤخرًا، لم تبدِ الولايات المتحدة الأمريكية موقفًا تجاه هذا الوضع، بيد أن السوابق تبرز رفضًا ضمنيًا من جانب واشنطن لما يُخل بمسار العملية الانتخابية عبر تشكيل حكومة جديدة، وهو ما عبر عنه المبعوث الأمريكي إلى ليبيا “رتشارد نورلاند” في نهاية يناير 2021.
ويتشابه مع ذلك الموقف البريطاني الذي شدد على مواصلة لندن الاعتراف بحكومة الوحدة الوطنية كسلطة مكلفة بقيادة ليبيا إلى الانتخابات وهو ما يُفهم منه –ضمنيًا- رفضها إجراء تشكيل حكومة جديدة، ويتشابه كذلك مع الموقف الإيطالي. ولعل تلك المواقف الدولية المتباينة تُفقد المسار الليبي وضعية الزخم والتوافق الدولي بشأنه.
مسارات ضاغطة
الانزلاق إلى الهاوية: ويكمن ذلك المسار في وجود مأزق مؤسسي جديد داخل ليبيا يُجسد حالة الخلافات والتناقضات الداخلية، في ضوء رفض “الدبيبة” قرارات البرلمان، وتمسكه بمنصبه رئيسًا للحكومة استنادًا إلى مخرجات ملتقى الحوار السياسي الليبي الذي حدد مدة عمل السلطة التنفيذية بــ 18 شهرًا تمتد حتى يونيو 2022؛ مع تواجد حكومة جديدة برئاسة “باشاغا”.
وذلك يعني أن هناك حكومتين؛ الأولى تُمثل الغرب الليبي والثانية تُمثل الشرق، أي هناك حكومة موازية تستنزف بصورة كبيرة مقدرات المرحلة الراهنة. وتتزامن مع التصدع المؤسساتي وضعية ميدانية متغيرة تتمثل في التعبئة والحشد العسكري بين أنصار الحكومتين، مما يُنذر بتحول المشهد من معترك سياسي بين مؤسسات الدولة إلى مواجهات مسلحة ميدانية، تُعيد المشهد لمرحلة ما قبل عام 2019.
الاستمرار نحو تنفيذ خارطة الطريق: والتي تضمنت مؤخرًا حل الهيئة التأسيسية المٌشكلة في عام 2014 لصياغة الدستور وتشكيل لجنة جديدة تتألف من مجلس النواب ومجلس الدولة وخبراء لإعداد مشروع الدستور والتعديلات المختلفة تمهيدًا لعرضه للتصويت والاستفتاء. ويتوقف ذلك المسار على دعم المجلس الأعلى للدولة “بطرابلس” للقرارات التي اتخذها مجلس النواب، والمُضي قدمًا من جانب الفاعلين الإقليمين والدوليين نحو الاعتراف بحكومة “باشاغا” والدفع بمسار الانتخابات الرئاسية.
ختامًا؛ إن ليبيا تمر بمرحلة صعبة في الوقت الراهن تتطلب حتمية وضع جدول زمني من جانب الحكومة الليبية الجديدة وبالتعاون مع كافة مؤسسات الوطنية، للخروج الآمن من مأزق وجود حكومة موازية والعودة لنقطة البداية مرة أخرى، مع إطلاق حوار وطني لكافة المناطق الليبية حيال التعديلات الدستورية، وكذلك وضع خارطة واضحة حول الاستحقاقات الدستورية المقبلة.